لعلّ أهم ما يلفت نظر المتابع للموقف الإعلامي الفرنسي والأوروبي من زيارة الرئيس السوري بشار الأسد الى فرنسا هو الفرق الملحوظ لمقاربة وسائل الإعلام قبل الزيارة وبعدها. إذ كان الحديث قبل الزيارة يتمحور حول تظاهرات ستنظم هنا وهناك واحتجاجات وتفسيرات وآراء دعت البعض لتقديم النصح بتأجيل هذه الزيارة تجنباً لحدوث امور قد تكون غير مرضية او غير لائقة. ولكن، بعد وصول الرئيس الأسد الى باريس وإجراء لقاءاته مع الرئيس شيراك والمسؤولين هناك اخذت اللهجة تتغير شيئاً فشيئاً، الى أن سجلت وسائل الإعلام الفرنسية نفسها في ختام الزيارة ان الرئيس الأسد فرض احترامه على فرنسا وأوروبا وأنه رجل صلب وقائد عربي، وأن كل التظاهرات قد اكسبته عربياً. كيف تمكّن الرئيس الأسد من قلب الموازين لمصلحته في هذه الفترة القياسية؟ وما هو الأسلوب الذي جرّد معارضيه هناك من اسلحتهم وحقق له ولسورية النجاح والتميز؟ أولاً- توجه الرئيس الأسد الى فرنسا حاملاً بين حناياه معانة المواطن العربي في فلسطينوالعراق وطموحاته في سورية ولبنان وعراقة تاريخه وكرامته في كل قطر عربي، فكان في كل احاديثه ومناقشاته وحواراته قائداً عربياً كبر على الخلافات العربية - العربية مستذكراً فقط ما يجمع العرب ويوحد كلمتهم امام العالم، لأنه يعلم علم اليقين ان وحدة كلمة العرب تعني قوتهم وتعني عزمهم وأن التفرق والشرذمة لن يجلبا إلا الضعف والهزيمة. لقد عبّر عن معاناة الشعب الفلسطيني وما تمارسه اسرائيل ضده من قتل وتدمير منازل وإهانة وجرف حقول كما يطمح كل فلسطيني ان يعبر للأسرة الدولية. كما تحدث بوضوح وشجاعة عن معاناة الشعب العراقي والكارثة الإنسانية التي سببتها العقوبات المفروضة على العراق منذ سنوات. وكشف عن تناقض ما تفرضه الولاياتالمتحدة على العراق مع قرارات مجلس الأمن حيث لا توجد في مجلس الأمن قرارات حول الحظر. واستغرب ان يكون القرار فردياً من أي دولة سواء أكانت الولاياتالمتحدة أو غيرها. وشكر فرنسا على عدم مشاركتها بالضربات الجوية التي تؤثر على المدنيين. وتحدث عن تاريخ العراق وثقافته وإسهاماته في الحضارة الإنسانية، وأن تدمير هذا البلد دفع السوريين والأردنيين والأتراك والإيرانيين ليفتحوا العلاقات مع شعب العراق. وسأل: إلام تستمر هذه العقوبات؟ لقد حمل قضية العراق الى العالم كما يرغب ان يحملها كل عراقي مخلص لوطنه وشعبه وأمته. هذا هو الخطاب العربي الذي نرنو ان يستخدمه كل قائد عربي وكل حاكم عربي في المنطقة امام العالم، لأنه هو الخطاب الذي يقدم العرب كأصحاب حضارة و ثقافة الى العالم وككتلة بشرية مهمة تشترك في التاريخ والثقافة والمصير وتدافع يداً وقلباً واحداً عن حقوقها امام العالم. في كل أمر لامس القضايا العربية كان الرئيس الأسد قائداً عربياً يمثل كل العرب ويحرص على مصلحتهم ومستقبلهم. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: لو تبنى القادة العرب جميعاً هذا الخط القومي الواضح هل يجرؤ الآخرون على النيل من هذا القطر أو ذاك او من هذا الشعب أو ذاك بالطريقة التي نراها اليوم؟ يمكن الذهاب الى أبعد من ذلك وهو انه لو أجمع العرب على محبة بعضهم بعضاً واحترام بعضهم بعضاً لفرضوا على العالم احترامهم ولوجدوا مؤيدين كثراً لحقوقهم في العالم اجمع. مثَّل الرئيس بشار الأسد في باريس كبرياء العرب ودافع عن حقوقهم جميعاً، فكان بذلك قائداً قومياً يطمح الى جمع شمل هذه الأمة وإعطاء المثل للآخرين كي يكون كل عربي في كل محفل دولي ممثلاً للعرب جميعاً. إن وحدة الموقف العربي هي بالذات ما يخشاه العدو الصهيوني لأن هذه الوحدة هي السلاح الأمضى لمواجهة كل ما يحاك لهذه الأمة من تآمر ومخططات تبغي النيل منها والحط من مكانتها ومقدراتها. ثانياً: قارب الرئيس الأسد موضوع السلام مقاربة مختلفة عن التصورات والادعاءات التي تضعها إسرائيل وتروّج لها في اوروبا والولاياتالمتحدة والعالم، وفضح من خلال منهجيته العلمية وإصراره على ثوابت المناورة الإسرائيلية المستمرة للتهرب من استحقاقات السلام والاستمرار في سياسة الاستيطان والعدوان والقتل واغتصاب الأراضي، ومحاولة إقناع العالم على رغم كل هذا بأنها تريد السلام، وبأن العرب هم الإرهابيون وهم الرافضون تضرعاتها لتحقيق السلام. فبدلاً من مناقشة ما هو مطروح كما يفعل العرب عادة، قدم الرئيس الأسد رؤية بديلة للسلام اقنع بها كل من سمعه بأن هذه هي الرؤية الوحيدة، وبأن كل المحاولات التي لا تأخذ هذه الرؤية في الاعتبار لن تجدي نفعاً. وقد فعل كل ذلك بأسلوب غير مباشر ومن خلال حوار منطقي وعلمي وواضح. اكد ان السلام هو خيار العرب الاستراتيجي، وأنه من اجل تحقيق هذا السلام لا بد من تبني قرارات الشرعية الدولية ومبدأ الأرض في مقابل السلام، ومرجعية مدريد التي تعبر عن الإرادة الدولية وفي مقدمها إرادة الولاياتالمتحدة صاحبة مبادرة السلام وراعيته. وفضح الأسلوب الإسرائيلي الذي يحاول زرع مرجعية جديدة في كل مفصل ونسف المرجعيات السابقة والتنصل من الاتفاقات التي أبرمت والضغط للحصول على المزيد من التنازلات. والمتعمق في الاتفاقات التي أبرمت مع بعض الأطراف العربية يرى أن كل اتفاق يجهض الحق العربي اكثر من الاتفاق الذي سبقه، وأن إسرائيل تتحدث فقط عن آخر ورقة أو آخر اتفاق متناسية كل المرجعيات وقرارات الشرعية الدولية. من هنا، يأتي تأكيد سورية على مرجعية مدريد وقرارات مجلس الأمن وحذرها الشديد من ورقتي ميتشل وتينيت اللتين تحاولان خلق مرجعية بديلة لا تتحدث عن حقوق العرب أو إزالة الاستيطان او انهاء الاحتلال، بل فقط وقف العنف. هذا الرد هو الرد العربي الضروري والصائب على محاولات إسرائيل المدروسة لإجهاض الحق العربي وتقويض اسس الشرعية الدولية التي يستند إليها هذا الحق. إن سياسة إسرائيل تقوم على فرض سياسة الأمر الواقع من خلال التوسع في الاستيطان وإلغاء هوية الأماكن العربية وإجهاض حقوق العرب والتفاوض من النقطة التي وصلت إليها من خلال مصادرة الأراضي وجرف الحقول وهدم المنازل. ويترافق مع هذا محاولتها احتواء الأزمات وتأكيد انهاء العنف وتحقيق الأمن للإسرائيليين. وللأسف وقع بعض العرب في شرك هذه اللعبة وأخذوا يدورون في فلك التفاوض على ما تبنيه إسرائيل اليوم وغداً ناسفة بذلك اسس عملية السلام ومرجعيتها. ويتحدثون في الإعلام عن قبول مبادرة ميتشيل ويتهمون الفلسطينيين بالجريمة الكبرى إذا لم يقبلوها. والمبادرة تؤكد على ان يعمل الفلسطينيون لتحقيق امن إسرائيل وتشكل تراجعاً عن قرار الأممالمتحدة الذي يطالب إسرائيل بإزالة المستوطنات ويجري الحديث الخجول فقط عن تجميد الاستيطان. أما ورقة تينيت فلا تطالب حتى بتجميد المستوطنات. قبل الإسرائيليون في ورقة ميتشيل ما يحقق امنهم ورفضوا تجميد الاستيطان. والرد العربي الوحيد على هذه اللعبة المدبرة هو ما أتى على لسان الرئيس الأسد من ان السلام لن يتحقق إلا على أساس قرارات مجلس الأمن ومرجعية مدريد. بهذا الرد رفض الرئيس الأسد الدخول في لعبة المساومات الإسرائيلية التي تهدف الى شيء واحد هو تقويض الحقوق العربية في الأرض والمياه والأمن والسلام. ورداً على ما تروجه إسرائيل من شروط عربية للسلام قال الرئيس الأسد: "في الواقع سورية ليس لديها شروط، إنما لها حقوق، لا توجد شروط لسورية لكن هذه الشروط الدولية تنطلق من الحقوق السورية، فإذاً على إسرائيل ان تطبق هذه الشروط الدولية التي تعتبر سورية نفسها موافقة عليها أساساً، لأنها تعتبر نفسها، أي سورية، جزءاً من المجتمع الدولي. وبالتالي الشرط السوري للسلام هو شرط دولي: قرارات مجلس الأمن ومرجعية مدريد ومبدأ الأرض في مقابل السلام". في هذا الطرح العميق والمركز جهد مستنير لعزل إسرائيل عن المجتمع الدولي وكشف خروجها عن المرجعيات والقرارات الدولية. إسرائيل التي تقدم نفسها للغرب على أنها واحة الديموقراطية في المنطقة تواجه اليوم قائداً عربياً يشرح للعالم ان العرب مع الشرعية الدولية ومع السلام وأن الطرف الوحيد الذي يرفض قرارات الشرعية الدولية ومرجعية مدريد هو إسرائيل. لقد تجاوز الأسد في طرحه هذا المنطق الإسرائيلي الذي اتبع سياسة استجرار العرب والعالم كي يدوروا في فلك طروحاته بين الرفض والقبول والنقاش، وقدم للعالم رؤية سليمة ورؤية بديلة للسلام بخاصة، وأن الرؤى المطروحة لم تحقق سلاماً طوال عقد من الزمن. كشف بمحاججته المنطقية والثاقبة اللعبة الإسرائيلية التي تضلل بها بعض العرب والكثير من دول العالم، وأكد حب العرب للسلام وسعيهم الدائب من اجل تحقيقه. ودعا المجتمع الدولي ان يساعد سورية والعرب من اجل تحقيق سلام عادل ودائم وشامل. ثالثاً: ركز الرئيس الأسد في كل ما قدمه من افكار ورؤى على شرح اختلاف المفاهيم بين ابناء الثقافات المختلفة، وأكد ان الثقافة العربية هي ثقافة الإخاء والتسامح وأننا نفهم الآخر، لكننا نحاول مساعدته على أن يفهمنا. وحقق في هذا البند ايضاً حضوراً عربياً ثقافياً متميزاً، وأكد ان مسؤولية رجال الإعلام تتجلى بالانتقال من تفسير اللغة الى تفسير المفاهيم، وأن الغرب يجب ان يفهم الخطاب العربي من خلال مفاهيم العربي كعربي او كمسلم أو كسوري وليس من خلال مفاهيم الآخرين. وأوضح ان العرب يعيشون في جو من التسامح ولا يشاطرون أوروبا الشعور بالذنب لأنهم لم يرتكبوا ذنباً بحق أحد. وطالب رجال الإعلام بأن يكونوا مبادرين لشرح المفاهيم بين الدول المختلفة والحضارات المختلفة. وهنا أيضاً لم يقع الرئيس الأسد في مصيدة العبارات التي تحيكها إسرائيل والتي تنحرف بعملية السلام عن مسارها الحقيقي، فهو لم يذكر مرة واحدة العبارات التي اصبحت اصطلاحية في الإعلام الإسرائيلي وبعض الإعلام العربي للأسف مثل، "إجراءات بناء الثقة" و"إنهاء دائرة العنف" و"التشاور والتنسيق الأمني" و"إنهاء العنف والتحريض كصفقة متكاملة" و"ضرورة تبادل المعلومات" إلى ما هنالك من مصطلحات تتجاهل المرجعية الأساسية لعملية السلام وتغرق الآخرين في دوامة لن تقود إلا الى المزيد من التوسع والاستيطان الإسرائيليين والى المزيد من المعاناة العربية التي لن تنتهي إلا بتحقيق سلام حقيقي يضمن عودة الحق العربي الى أصحابه الشرعيين ويضع الأسس الثابتة والمتينة لسلام عادل ودائم. في كل هذا وذاك كان الرئيس الأسد واقعي، وعبر عن الواقع الموجود من دون محاولة لتجميل الصورة أو تغيير شيء فيها، وحتى على المستوى الداخلي تحدث بواقعية وثقة مطلقة بأن سورية تعمل وتحاول، لكن الطريق ما زال طويلاً امامنا. لم يكن في كلامه اي ادعاء أو محاولة إقناع للآخرين بأن الوضع في البلاد افضل مما هو عليه بالفعل. على العكس من ذلك، تحدث بشفافية مطلقة عن المصاعب والعقبات التي تعترض طريق الإصلاح والتطوير لكنه ايضاً تحدث بعزيمة القائد الواثق من نفسه وشعبه ان المحاولة مستمرة، وأن النجاح حليف من يمتلك الإرادة والثقة والإيمان بوطنه وشعبه وأمته. كان التميز الذي حققته زيارة الرئيس الأسد الى فرنسا نتيجة طبيعية لرؤية عربية واضحة، وإيماناً مطلقاً بتاريخ الأمة وحاضرها ومستقبلها، وفهماً وإدراكاً عميقين لطبيعة اللعبة الإسرائيلية التي تحاصر الحقوق العربية، واتقاناً للغة الغرب وطريقة حواره وسبل إقناعه وبصيرة نافذة لكسب المجتمع الدولي وتأييد أوروبا كي لا تبقى الولاياتالمتحدة المنحازة كلياً لإسرائيل صاحبة الكلمة الوحيدة في هذا الصراع. ما بدأه الرئيس الأسد في باريس هو جهد عربي قوبل باحترام وتقدير الجميع، وهو لبنة أولى في طريق عربي طويل يجب ان يعمل الجميع على بنائه من اجل كسب تأييد أوروبا والعالم لمصلحة الحق العربي. لقد ضرب للجميع مثلاً بالتزامه العربي الشديد وكشفه قواعد اللعبة الإسرائيلية وطرح بديل لها امام العالم والتمتع بالصدقية والشفافية والجرأة في مقاربة جميع الأمور من دون استثناء أو وجل. * كاتبة سورية، أستاذة في جامعة دمشق.