قد لا نجافي التاريخ، ان اكدنا على ان حكومة بريطانيا استنفدت عام 1922 مضمون وعدها المشؤوم بلفور ب "النظر بعين العطف في اقامة وطن قومي لليهود في فلسطين"، وذلك عندما منحت اليهود المقيمين في فلسطين وقتذاك الحق في الحصول على الجنسية الفلسطينية بموجب ما نصّ عليه في المادة 7 من صك الانتداب. وكان ذلك اتفاقاً مع توصية لجنة كينغ - كراين لعام 1919 التي ارسلها الرئيس الاميركي ويلسون الى سورية وفلسطين لاستقصاء رغبات السكان، وانتهت الى وجوب الغاء المشروع الصهيوني ووقف هجرة اليهود الى فلسطين، لأنه يتعارض ومبادئ ويلسون الشهيرة، نظراً الى ان تطبيقه يتطلب قهر السكان الاصليين وسلب ارضهم بالقوة حيناً وبالخداع احياناً. رفض اليهود هذا الصك الانتدابي، وسعوا الى الالتفاف عليه، فنجحوا في العام 1947 قبل انتهاء الانتداب في تمرير توصية الجمعية العامة الرقم 181 بتقسيم فلسطين الى دولتين عربية ويهودية، وبوضع دولي خاص تحت الوصاية لمدينة القدس تحت مظلة اتحاد اقتصادي. وانتهزت الجماعات الصهيونية تلك التوصية لتعلن في العام 1948 قيام دولة فلسطين اليهودية ونعتتها ب"اسرائيل" ثم سعت الى ضمها الى عضوية الاممالمتحدة، بعدما أفلحت في الحصول على توصية مجلس الامن الرقم 69 لعام 1949، التي اقرّتها الجمعية العامة بقبولها عضواً في المنظمة الدولية. واذ هالت تلك التوصية اعضاء الجمعية في ضوء العدوان الاسرائيلي السافر على الفلسطينيين وتهجيرهم من اراضيهم بواسطة ما ارتكبت ضدهم من مذابح وحشية، لذلك عمدت الجمعية العامة الى تضمين قرارها الرقم 273 بقبول اسرائيل عضواً في المنظمة الدولية ثلاثة شروط هي: وجوب تنفيذ اسرائيل توصية التقسيم 181، ووجوب تنفيذ قرار عودة اللاجئين 194، ووجوب تعهدها احترام ميثاق الاممالمتحدة. وقد أثار حفيظة الدولة اليهودية عدم تنعمها من الناحية العملية بكل مزايا العضوية وحقوقها واقتصار وضعها على التمتع بحق التصويت، مع منعها من الحق في الترشيح لمجلس الامن وغيره من اجهزة الاممالمتحدة كونها غير منضمة لأي من المجموعات الجغرافية وحرمانها من المشاركة في جهود الاممالمتحدة كعمليات حفظ السلام كونها احدى القوى الاساسية المعادية للسلام وغير ذلك من الامور. وفي ما يبدو امام الرأي العام العالمي انه تحول اسرائيلي من معاداة السلام الى الرغبة في صنعه، وقعت اسرائيل في العام 1993 مع الفلسطينيين على اعلان مبادئ بشأن ترتيبات الحكومة الذاتية الانتقالية، او ما سمي باتفاق اوسلو، الذي نص في ديباجته على ان الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي "يتفقان على ان الوقت حان لانهاء فترة من المواجهة والنزاع، ووجوب الاعتراف بحقوقهما المشروعة، وبحقوقهما السياسية المتبادلة، والسعي الى تعايش سلمي بكرامة وامن متبادلين، والى تحقيق تسوية سلمية عادلة ودائمة ومصالحة تاريخية من خلال العملية السلمية المتفق عليها". واوضحت المادة 1 من الاتفاق ان الهدف من المفاوضات هو التوصل الى تسوية دائمة تؤدي الى تطبيق قراري مجلس الامن 242 و338. فيما ذهبت المادة 5 الى تأكيد ان المرحلة الانتقالية تبدأ بالانسحاب من قطاع غزة ومنطقة اريحا ولمدة خمس سنوات، على ان تبدأ مفاوضات الوضع الدائم في اقرب وقت ممكن لا يتعدى بداية السنة الثالثة من الفترة الانتقالية. واعتبرت قضايا القدس واللاجئين والمستوطنات والترتيبات الامنية والحدود والعلاقات والتعاون مع الجيران... من قضايا الوضع النهائي. اليوم ونحن في العام 2001 اي بعد سبع سنوات من الاتفاق لم تنفذ اسرائيل التزاماتها في ما يتعلق بالمرحلة الانتقالية او في ما يتعلق بالمرحلة النهائية. وكان مردّ النكوث الاسرائيلي لتنفيذ تلك الالتزامات الشرعية: - افتقار العملية السلمية الى ضمانات لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه! قارن ذلك مع انسحاب اسرائيل من جنوبلبنان قبل ان تبدأ المفاوضات بسبب المقاومة اللبنانية الباسلة. - المحاولات الاسرائيلية لتعديل المرجعية السلمية من قواعد الشرعية الدولية الى قواعد الهيمنة الاستعمارية الاسرائيلية، وهو ما برهنه باراك في محادثات كامب ديفيد الثانية! - الاخلال الاسرائيلي الفاضح بقواعد المعاملة بالمثل، اي بقاعدة "التبادلية" التي نص عليها اتفاق اوسلو في ديباجته ونصوصه، وتمثل الاخلال في قيام حكومات اسرائيل المتعاقبة ببناء مستعمرات جديدة مع التوسع في القائمة منها بزعم ان ذلك يعد من قبيل "الحق في النمو الطبيعي"، وكلها افعال من طرف واحد، وهي بطبيعتها اعمال غير مشروعة بل هي جريمة من جرائم الحرب، في حين رفضت تلك الحكومات حق السلطة الفلسطينية في اعلان دولتها بزعم انه تصرف من طرف واحد بالرغم من كونه في ذاته عملاً مشروعاً كما منعت اسرائيل عودة اللاجئين بزعم ان عودتهم مؤجل نظرها الى مفاوضات الوضع النهائي، وجاءت في المفاوضات الاخيرة لتقرر عدم موافقتها على عودتهم. ليس هذا فحسب بل ان حكومة شارون تطالب السلطة الفلسطينية اليوم، عبر وثيقة جورج تينيت، بالقبض على بعض عناصر حركتي "الجهاد" و"حماس"، في حين لم تعط هذه الوثيقة للفلسطينيين في المقابل حق مطالبة اسرائيل باعتقال عناصر جيشها قتلوا او اصابوا مدنيين فلسطينيين اثناء الانتفاضة، على نحو ما وثقته "لجنة ميتشل" في تقريرها. ولا بد من تأكيد ان هذه الاسباب وغيرها دفعت الفلسطينيين الى انتفاضتهم الثانية الجسورة منذ 2000/9/28 وحتى اليوم. تحاول الولاياتالمتحدة والاتحاد الاوروبي اعادة الطرفين الى طاولة المفاوضات ارتكازاً الى المبادرة المصرية الاردنية، وتوصيات لجنة ميتشل، ووثيقة تينيت وغيرها من الوثائق. ويستوجب نجاح تلك المحاولات أولاً تطبيق قاعدة التبادلية، والاصرار على وجوب ان تكون قواعد الشرعية الدولية وقراراتها هي المرجعية القانونية لتلك المفاوضات، واخيراً اهمية وجود ضمانات لتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه، ويجب ان تكون تلك الضمانات ذكية فعلاً ولا تصل الى حد العقوبات الغبية. واقترح ثلاث ضمانات ذكية لضمان جدية المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية وهي: 1- ان يصدر منتظم الطيران الدولي "الايكاو" قراراً ينص على حظر الطيران الدولي من مطارات اسرائيل واليها، اذا اقدمت سلطات الاحتلال الاسرائيلي على اغلاق مطار غزة، او امتنعت عن تسليم مطار قلنديا في القدس الى السلطة الفلسطينية لتشغيله. ولا يلغى الحظر الدولي الا عند فك الحظر عن مطاري غزة وقلنديا. وسبق لهذا المنتظم الدولي، وتطبيقاً لقرار الجمعية العامة للامم المتحدة الرقم 2107، ان الزم اعضاءه بالامتناع عن تقديم الخدمات للطائرات التابعة لحكومات البرتغالوجنوب افريقيا وروديسيا. وفي هذا السياق نذكر بقرارات جمعية المنتظم الرقم 19-1 A في 1973-2-28 بإدانة اسرائيل لاسقاطها الطائرة الليبية المدنية فوق سيناء، والرقم 20 A في 1973-8-30 بإدانة اسرائيل لخرقها سيادة لبنان وتحويل مسار طائرة مدنية والاستيلاء عليها، والرقم 21-7 A في 15 - 10 - 1974 بوجوب امتناع الدول الاعضاء عن تشغيل اية رحلة جوية من مطار القدس قلنديا والىه، ما لم تعط اذناً مسبقاً من السلطات الاردنية حال كون القدس تقع ضمن الاراضي المحتلة، وكذلك قرارات مجلس المنتظم بادانة اسرائيل على الانتهاكات المشار اليها. 2- ان تصدر منظمة الاقطار المصدرة للنفط قراراً بإلزام الدول المنتجة للنفط الاعضاء وغير الاعضاء وكذلك الشركات المتعاقدة معها، بحظر تزويد اسرائيل البترول او بالغاز الطبيعي ومشتقاتهما، اذا قامت سلطات الاحتلال الاسرائيلي بحظر تزويد الاراضي الفلسطينية تلك المواد، وبمدة الحظر ذاتها، طالما ان تلك الانتهاكات الاسرائيلية تمثل انتهاكاً لاتفاقات جنيف التي تتصدى لحماية المدنيين الخاضعين لسلطة الاحتلال العسكري. 3- تعديل مكانة اسرائيل في الاممالمتحدة من دولة عضو بعضوية موصوفة الى مراقب فحسب، وبذلك بموجب قرار تصدره الجمعية العامة للامم المتحدة بصيغة الاتحاد من اجل السلام يتضمن تعديلاً لقرارها السابق 273، ويمنح القرار اسرائيل فرصة رفع مكانتها في المنظمة الدولية الى دولة عضو عند تنفيذها لهذا القرار الصادر عام 1949. والضمانة الاخيرة تحتاج الى شيء من التوضيح: فاسرائيل دأبت على انتهاك احكام ميثاق الاممالمتحدة بل امعنت في ذلك، ما كان مؤداه على نحو ما نصت عليه المادة 6 من ميثاق الاممالمتحدة ان تقوم الجمعية العامة بفصلها بناء على توصية من مجلس الامن بيد ان الفيتو الاميركي وقف طوال خمسين عاماً او يزيد حائلاً دون صدور مثل تلك التوصية من المجلس! كما انه كان يحق للجمعية العامة بموجب حكم المادة 5 من الميثاق ان توقف اسرائيل موقتاً عن مباشرة حقوق العضوية ومزاياها، بقرار من مجلس الامن، لكن الفيتو الاميركي عطّل صدور قرارات تتضمن اجراءات المنع والقمع ضدها بالرغم من ان مجلس الامن في حالات كثيرة منع اسرائيل من اجراء اي تغيير جغرافي او ديموغرافي في الاراضي المحتلة ومنعها من اقامة اية مستعمرات في تلك الاراضي. ومع هذا فلا يوجد ما يحول اليوم دون قيام الجمعية العامة باتخاذ اي من الاجراءين بموجب قرار يصدر منها بصيغة الاتحاد من اجل السلام، وهو بتلك الصيغة يعد بمثابة قرار مزدوج صادر من الجمعية العامة يتضمن توصية كان يتوجب ان تصدر من مجلس الامن فصدرت من الجمعية العامة بموجب صيغة الاتحاد من اجل السلام وقرار الجمعية العامة الاصيل بفصل اسرائيل عملاً بحكم المادة 6 من الميثاق. او بموجب قرار من الجمعية العامة باتخاذ اعمال المنع او القمع تجاه اسرائيل بصيغة الاتحاد من اجل السلام لضمان حلولها محل مجلس الامن في اتخاذ تلك القرارات بعد ذلك تصدر قرارها بوقف اسرائيل عن مباشرة حقوق العضوية ومزاياها اتفاقاً مع نص المادة 5 غير انه قد يؤخذ على القرار الاخير امكانية ايقافه من مجلس الامن طالما انه يحق له بموجب المادة 5 ان يرد للعضو مباشرة تلك الحقوق والمزايا. ومن ثم فقد يذهب البعض الى اهمية التمسك بالخيار المستند الى حكم المادة 6 والقاضي بفصل اسرائيل من الاممالمتحدة. غير اني ارى ان الامر هنا يتعلق بالبحث عن ضمانات ذكية لا عقوبات غبية، وتلك الضمانات اجدها في تعديل مكانة اسرائيل في الاممالمتحدة من دولة عضو الى مراقب طالما انها لم تنفذ شروط عضويتها المنصوص عليها في القرار 273. وقد سبق للجامعة العربية ان سعت الى ذلك في العام 1998، ما اثار حفيظة نتانياهو وقتذاك، فأعلن اثناء زيارته للامم المتحدة تهديداً صريحاً للرئيس عرفات من مغبة اعلان الدولة الفلسطينية او تعديل مكانة اسرائيل في الاممالمتحدة. وليس سراً ان الرئيس الاميركي بيل كلينتون هدد نتانياهو بترك العرب يخوضون معركة تعديل مكانة اسرائيل اذا لم يوقع على اتفاق واي بلانتيشن، ووقع نتانياهو الاتفاق ولكنه كعادته لم ينفذه. وها هي الفرصة سانحة اليوم امام الجامعة العربية بادارة امينها العام الجديد للعمل على تحقيق تلك الضمانات الثلاث، لضمان جدية المفاوضات، ومنع اسرائيل من التمادي في السلوك المخادع والبطش الباطل. والله الموفق. * مستشار مصري، رئيس في محاكم الاستئناف العالي.