المصريون هم الأوائل في استخدام اللهجة المحكية في الأدب العربي: قصة ورواية وشعراً. ان انتشار اللهجة المصرية بواسطة فنون الغناء والدراما قد حسم موضوع التلقي، وشجع على استخدامها في الأدب ثقة من قدرتها على التعبير والتوصيل، ما أدى - في المقابل - الى دوام وتطور قدرة اللهجة على اختزان التجربة الجمعية وإرهاف قدراتها التعبيرية. وقد تميّزت المحكية المصرية بانفرادها بالانتشار خارج محيطها. فالفنون المصرية الرفيعة في الغناء والدراما قد قرّبت اللهجة المصرية من كل متلقٍ عربي تقريباً وجعلتها أقرب الى لهجته الثانية، وربما أقرب من الفصحى للأميين وأنصاف المتعلمين. ومنذ بدايات القرن العشرين وشيوع وسائل البث والتسجيل، وكل عربي يتلقى من الفنون المصرية ما يوازي - وفي مناطق عدة - ما يزيد على ما يتلقاه من فنون بلهجته المحلية، وما يفوق اي نتاج بلهجة اخرى. أتذكر أننا حين عرض لدينا فيلم "ثورة الجزائر" عرض بترجمة فصحى وكان ناطقاً باللهجة الجزائرية. لقد أرست هذه المكانة المكينة للهجة المصرية قواعد كتابة تطمئن الكاتب الى حسن تلقي القارئ سواء أكان مصرياً أو عربياً. فالكاتب لا يضطر الى وضع بعض الكلمات بين أقواس للفت انتباه القارئ الى وضع قراءة استثنائي، وهو غير مضطر لتغيير الحروف من أجل قراءة سليمة، كأن يضع همزة محل القاف، أو أن يحار في حرف "الجيم" الذي سيلفظ G، هل يكتبه ب"غ" أم ب"ك" فوقه شحطة. وهكذا نجد معظم الكتّاب والكاتبات من مصر يستخدمون اللهجة المحكية في الحوارات والأقوال المضمّنة في السرد، وبعضهم يستخدمها في السرد أيضاً إذا ما اقتضت ذلك طبيعة الراوي. اللبنانيون واللبنانيات يستخدمون اللهجة المحكية في نطاق أضيق قليلاً. فاللهجة اللبنانية على رغم شيوعها من طريق الفنون الغنائية، إلا أنها أقل انتشاراً عن طريق الفنون الدرامية، ولا تزال عصية على القراءة في الأدب. على سبيل المثال، وجدت المحكية اللبنانية في أوسع استخداماتها في الأدب لدى حنان الشيخ "بريد بيروت". وبالنسبة إلي كان ذلك من اكثر عناصر انجذابي إليها قبل اكتشافي عناصر الإبداع فيها، وهي عناصر مكتملة متكاملة تجعلها من بين اهم الروايات العربية في عقد التسعينات "على الأقل". ولكنني دهشت لأن أكثر من كاتب وكاتبة في العراق لم يتمكنوا من مواصلة قراءتها، وكما أوضحوا، بسبب ما وصفوه بالإفراط في استخدام اللهجة اللبنانية. وأحسب انه لسبب آخر أيضاً يتعلق بالبناء الزمني للرواية الذي يغطي مساحة زمنية شاسعة من دون ان يعنى بتسلسل الوقائع التاريخية. ومرة أخرى، فقد كان ذلك بالنسبة إليّ، عنصر جذب، لأنني عشت احداث الحرب اللبنانية ولا أجد صعوبة في تعشيق البناء الزمني للرواية بالبناء الزمني للواقع كما عرفته. نعود الى مسألة اللهجات في الأدب. يستخدم الخليجيون والمغاربة والجزائريون المحكية باقتصاد، ومن اجل الدلالات البليغة، وفي هيئة كلمات أو عبارات قصيرة يضعونها بين أقواس ومنهم من يشرح معناها. السوريون والأردنيون والفلسطينيون اكثر ارتياداً لمساحات تعبير تتطلب حيوية اللهجات المحكية. وعلى العموم، هناك إدراك متنام لأهمية اللهجات في إنجاز الدلالة البليغة على وعي الشخصية الروائية وطرق تعبيرها عن نفسها. اما في العراق فهناك مشكلة حقيقية في استخدام اللهجة في الأدب. أولاً بسبب عدم الاتفاق على مسألة أصوات الحروف. فبعض "القاف" لدينا تلفظ G وتكتب بحرف جيم ذي ثلاث نقاط. لكن بعض "الكاف" يظل كافاً فصيحاً. وهذان أكثر حرفين يسمان اللهجة العراقية ويفترض ان يُكتبا بطريقة صحيحة ومتفق عليها بالنسبة الى قراء عراقيين وغير عراقيين، وهذا غير ممكن، طباعياً من ناحية ولافتقاره الى "الشفرة" المطلوبة لإدراكه تلقائياً ومن دون لعثمة أو تأتأة. أظن ان "الرجع البعيد" لفؤاد التكرلي هي أشهر رواية عراقية مكتوبة حواراتها باللهجة المحكية. وأتذكر أنني قد عانيت وأنا أقرأها للمرة الأولى، ربما لأنني اضطررت الى الانضباط الى طريقة قراءة غير معتادة. أما أوسع استخدام للعراقية الدارجة في ما عدا "الرجع البعيد"، فقد وجدتها في رواية "الغلامة" لعالية ممدوح. وقبل هذه الرواية لم تستخدم الكاتبة اللهجة العراقية في "الولع 1995" لكنها استخدمتها بوفرة في "حبات النفتالين 1986" وحرصت على "مداراة" الكلمات والمصطلحات العامية فحافظت على بنية الكلمة والجملة العامية بحروفها المميزة وموسيقى النطق والإلقاء. وفي "الغلامة" حرصت عالية ممدوح على تجنّب استخدام الحروف ذات الإشكالية الصوتية، واستخدمت بدلاً منها حروفاً فصيحة، لكن في مواضع كثيرة أفلتت كلمات وعبارات وأشعار من هذا الحذر. فكلمة مثل "قلبي" حين لا تكتب ب"كاف" عليها شحطة، بل تكتب بكاف مجردة سوف تقرأ "كلبي" كما وردت في الرواية. وكلمة "عليكِ" يفترض كتابتها بحرف جيم ذي ثلاث نقاط وإذا ما كتبت بحرف جيم "عليج" سوف لن يفهمها حتى قارئ عراقي، قد يضطر الى التلعثم قبل ان تستقيم على لسانه. ثم ما أدرانا ان حرف الجيم بثلاث نقاط سوف يلفظ ch في مصر والمغرب والسودان كما في العراق. هذا عدا عن حاجة الكثير "ربما جميع" من الكلمات المكتوبة بالعامية الى التشديد والتحريك والفصل عن بعضها بعضاً لكي توضع في نسق مناسب للقراءة، عدا عن بعض التعبيرات التي احتاجت الى التقويس، وبالتأكيد الى الشرح والتوضيح. اعتقد أن على الكاتب المدرك لأهمية اللهجة في الأدب مواصلة البحث عن وسائل ترويض إشكالات كتابتها وقراءتها، في انتظار معجزة تجعل اللهجات المحكية العربية في مثل شهرة وانتشار اللهجة المصرية. * كاتبة عراقية.