مَنْ هو امرؤ القيس؟ هل هو الشاعر المريض ذو القروح أم هو الأمير المُطالب بعرشه؟ هل هو الملك الضليل ام الأمير الأسير؟ ولماذا سُمّي ب"الملك الضليل"؟ هل هو الشاب الذي طلب دعم القبائل في شمال الجزيرة العربية فخذلته ولم يتمكن من الثأر لدم أبيه القتيل، أم هو الفارس الذي أوقع بهذه القبائل القتلَ والذبح؟ هل هو نفسه الشاعر الصعلوك والمتشرد الذي كان يقود عصبة من شذاذ الآفاق، أم هو الزاهد الناسك المتأمل، شاعر البرق والمطر؟ هل هو الكندي ام الحميري؟ الغساني أم ساكن الحيرة في العراق؟ هل هو جندح أم عوف أم مالك أم عَدّي؟ في كل هذه الصور المتناثرة، يظهر امرؤ القيس الشاعر، فهو ملك وصعلوك وأمير وأسير وعليل وعاشق للنساء وزاهد متعبِّد وصديق القيصر جستنيان، وبالطبع سيكون امراً مُتعذراً الى النهاية، تصديق كل هذه الصور وقبولها على أنها صورة واحدة لشخص تاريخي واحد اسمه امرؤ القيس بن حجر صاحب المعلَّقة الشهيرة "قفا نبكِ" وصاحب الديوان المطبوع باسمه أيضاً. ولكن ولأجل إعادة بناء الرواية التاريخية عن هذا الشاعر، لا بد من تفكيك مرْويات الإخباريين الذين دونوا سيرته، وفي الإطار ذاته تفكيك الديوان المنسوب إليه، وإعادة قراءة السيرة والديوان، على حدّ سواء، بوصفهما مادة لا تاريخية تعرّضت للدمج أو الاختلاط والتداخل بين صور ومواد تعود في الجزء الأعظم منها، الى شخصيات اخرى معاصرة له أو أقدم عهداً منه. هناك، في الواقع، ما يزيد عن عشرين شاعراً، عرفوا في تاريخ العرب القديم ب"امرئ القيس" وبعضهم عاش على مقربة من الإسلام، بل إن بينهم مَنْ كان "صحابياً". وقد عدّد الآمدي المؤتلف والمختلف: 9 نحواً من عشرة شعراء عاشوا في الجاهلية وعرفوا باسم امرئ القيس. بيد ان المستشرق آلْوارد أضاف الى قائمة الآمدي هذه، ستة آخرين قال إنهم عرفوا - بالفعل - بهذا الاسم وكانوا شعراء. على أنني وأثناء بحثي الموسع في مادة قيس عثرت على عدد آخر يرفع القائمة الى ما يزيد على خمسة وعشرين شاعراً، عرفوا بأنسابهم وأشعارهم وكانوا قد تسمّوا باسم امرئ القيس. ولأن المساحة المخصصة في صفحة تراث، لا تسمح سوى بقدر محدود للغاية من الاستطرادات الضرورية، فسأقوم بعرض مكثّف الى أبعد الحدود. إن اهمية هذه القوائم تكمن - برأينا - في انها ستمكننا من إعادة بناء الرواية التاريخية عن الشعر الجاهلي وشاعره الأسطوري الأكبر امرئ القيس وبالتالي الحصول على تصوّر أدق لهذا الجزء العضويّ من تاريخ العرب القديم. قصة الديوان طبع ديوان امرئ القيس مراراً والنسخ التي اعتمدت عليها في دراستي هذه من محفوظات جامعة لايدن في هولندا. صدرت الطبعة الأولى من الديوان للمرة الأولى عام 1837 في باريس - طبعة دي سلان - تحت عنوان نزهة ذوي الكيس وتحفة الأدباء في قصائد امرئ القيس عن رواية الشنتمري. لكن آلوارد هاجم طبعة دي سلان ورفض قبولها، وقام، بالاعتماد على رواية السكريّ، بإعادة نشر الديوان بإلحاق بضع قصائد ومقطّعات صغيرة، أسهمتا - برأينا - في مفاقمة الاختلاط والدمج غير المعقول بين صور الشاعر وأشعاره المزعومة. ثم صدرت نحو العام 1958 في مصر طبعة اخرى من الديوان، اعتمدت كلياً على روايات الأصمعي وضمّت 28 قصيدة، ارتأى الطوسيّ أنها مُنْتَحلة وموضوعة من جانب المتأخرين. وبوجه الإجمال يمكن استنباط الصور التالية لامرئ القيس من الروايات الإخبارية والأساطير والديوان نفسه: 1- امرؤ القيس المُطالب بدم والده حجر الذي قتلته بنو أسد وزعيمها عَلْباء بن قيس. شمال الجزيرة العربية. 2- الأمير المُطارد من قبل ملك الحيرة المنذر بن ماء السماء 516- 554م والذي بحث عن مأوى بين القبائل شمال الجزيرة العربية، بعد ان قُتلت أسرته كلها وانتُزع منها العرش. 3- الفارس المهيب الذي هزم القبائل وأوقع في بعضها القتل والذبح خطأ. 4- الملك الضليل الذي فقد عرشه وسافر الى بيزنطة للقاء القيصر جستنيان من أجل الحصول على مساعدة عسكرية لاسترداد عرشه. 5- الشاعر المريض ذو القروح. 6- الشاعر ساكن الحيرة في العراق. 7- الشاعر الغسّاني الذي تغنّى بمواضع في الشام وعاش فيها. 8- الشاعر الحميري الذي سعى عند القيصر لمساعدته على غزو عدن. 9- الشاعر النجديّ الذي تغنّى بمواضع نجديّة ووصف شمال الجزيرة العربية وصفاً دقيقاً، يدلّل على عمق ارتباطه بها. 10- الشاعر الذي بكى الديار وعرف بكونه امرأ القيس بن حذام، أو خَذَام. 11- الشاعر الصعلوك المتَهتّك الذي انغمس في ملذّات الخمر والنساء وكان يقود عُصَبةً من شذّاذ الآفاق. 12- الشاعر الذي مات في أنقرة. 13- امرؤ القيس اليمني شاعر دلمون. 14- امرؤ القيس الذي عُرف بالطمّاح. 15- امرؤ القيس الكلبي. 16- الأمير الأسير الذي وقع في يد الغساسنة ثم حُرِّر. 17- امرؤ القيس الذي أسره ايلشرح يحضب اليمني في معركة قرب عدن. 18- امرؤ القيس شاعر البرق والمطر. فمن هو، من بين هؤلاء، صاحب المعلَّقة والديوان؟ قائمة الآمدي استدراك على الأسماء والأنساب يُعَدِّدُ الآمدي المؤتلف والمختلف: 9 بعض الشعراء الذين عرفتهم العرب باسم امرئ القيس نحو العام 370ه على النحو الآتي: 1- امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرّار وهو شاعر كنديّ، جاهلي، ذهب شعره وضاع. والحارث جدّه، هذا، يُزعم أنّه نفسه الحارث الكندي ملك الحيرة الذي نصّبه الفرس بعد طرد ملكها المنذر بن ماء السماء، بعد صعود قبّاذ بن فيروز 488- 531م في فارس. 2- امرؤ القيس بن عابس بن المنذر بن السمط وهو صاحب قصيدة: قف بالديار وقوفَ حابسِ ونأي ذلك غير يائسِ ماذا عليك من الوقو فِ بهامد الأطلال دارسِ 3- امرؤ القيس بن بكر بن امرئ القيس بن الحارث الكندي. وهذا شخص آخر لا علاقة له بأسرة الحارث الكندي، أعلاه، ملك الحيرة الذي قتله المنذر بن ماء السماء بعدما استردّ عرشه بمساعدة قبائل العراق إثر موت قباذ وصعود أنو شروان في فارس. 4- امرؤ القيس بن عمرو بن الحارث بن معاوية الأكبر بن ثور بن مرْتع الكنديّ. وهذا شاعر جاهلي آخر لا صلة له بالاثنين اللذين يحملان اسماً مشابهاً. وقد أورد ابن الأثير أسد الغابة: 1: 155 اسمه فضلاً عن الآمدي: امرؤ القيس بن بكر بن الحارث. 5- امرؤ القيس بن حُمام بن مالك. وهذا دعاه الإخباريون بعدْلِ الأصِّره وهو الذي زُعم انه هرب من المعركة بعد غارة شنّها زهير بن جنّاب الكلبي، وعيّره عُبيد بن الأبرص في قصيدة شهيرة، كما هجاه المهلهل. والمثير ان المهلهل الذي هجا امرأ القيس هذا، كان يتلقّب بلقب امرئ القيس أيضاً. لكن ابن حُمام هذا يرد في شعر امرئ القيس بن حجر الأول في هذه القائمة بصفته أول شاعر جاهلي بكى الديار. قال ابن حجر: عوجا على الطللِ المُحيل لعلّنا نبكي الديار كما بكى ابن حُمامِ ولم يفطن الآمدي، ولا آلوارد، ولا البغدادي خزانة الأدب الى مغزى الدمج بين ابن خذام وحُمام، كما لم يهتمّ اي منهم بالمعنى الذي ينطوي عليه الخلط بين شاعر الأطلال ابن حُمام، وبين امرئ القيس بن حجر، وهذا سوف ينسب له الوقوف على الاطلال اعتباطاً. 6- امرؤ القيس بن بحر الزهيري - الكلبيّ - وهو شاعر كلب القائل: طَعْنتُ غداة القاعِ شملة طعنة تركتْ أبا أوسٍ صريعاً مُجْدلا وأجْررتهُ رمحي فغودد ثاويا عليه سباع القاع يَردين خجلا ومن الواضح أن شعر امرئ القيس هذا، الفروسيّ، لا ينسجم مع أشعار امرئ القيس المريض ذي القروح ولا مع الأشعار المنسوبة الى الأمير الأسير أو الصعلوك ولا كذلك مع الشعر المنسوب الى الشاعر الهارب من الغارة. ومع ذلك فقد اختلطت صورة امرئ القيس الكلبيّ، الفارس، بصور الأمير والأسير والعليل، وترسّخت في مرويات الإخباريين العرب صورة شاعر محارب يهزم القبائل. 7- امرؤ القيس بن الحارث بن زهير بن جَشْم واسمه الحقيقي عَدْيّ وهو الذي يُعرف بالمهلهل الشاعر الشهير. 8- إمرؤ القيس بن عَدْيّ الكلبي. وهذا الشاعر لم يتعرّف الآمدي الى نسبه مع أنه اطلع على كتاب أشعار كلب عند القبيلة. 9- امرؤ القيس بن كلاب بن رام العقيلي ثم الخويْلدي. 10- امرؤ القيس بن مالك الحميري وهو صاحب القصيدة التي ترد في ديوان امرئ القيس: يا هندُ لا تنكحي بوهة عليه عقيقته أَحسبا هذه هي، بالضبط، قائمة الشعراء الذين عرفوا باسم امرئ القيس كما ثبّتها الإمام الآمدي الناقد الحصيف، وقد أضاف إليها البغدادي خزانة الأدب: 335 شاعرين آخرين هما من الإسلام المبكر. أ- امرؤ القيس بن الأصبغ الكلبيّ. ب- امرؤ القيس بن الفاخر بن الطمّاح. ولكن، واستدراكاً على قوائم الآمدي والبغدادي واستطراداً قائمة آلوارد أستطيع أن اضيف عدداً آخر من الشعراء الذين عرفوا باسم امرئ القيس ولم يرد أي ذكر لهم عند آلامدي والبغدادي وآلوارد، مستنداً في هذا الى الروايات الإخبارية والأساطير والديوان نفسه: 1- امرؤ القيس بن زيد مَنْاة بن تميم بن مُرّ بن أدّد طبقات ابن سلاّم 2:555. تاريخ اليعقوبي:1. 2- امرؤ القيس بن عوف. وهذا كما ارتأى جام في النقوش التي قرأها أنه كان حاكم دويلة صغيرة من أرض عدن تدعى خَصْصتن جواد علي، نقلاً عن جام: 3:316 وهو برأينا الأمير الذي سعى عند الروم لمساعدته على بسط نفوذه على سبأ وريدان. ولكن محاولته أخفقت عندما أُسر في معركة مع قوات الملك اليمني إيْلشرح يَخضْب 65ق.م. - 50 ق.م. في هذا الوقت، كما لاحظ جام op. cit. p. 390 - 381. كانت كندة مملكة صغيرة مستقلة، وقد اشترك احد ملوكها ويدعى مالك مع ملك أمير دويلة خَصْصتن إمرؤ القيس، في هجوم عسكري منظّم ضد قوات إيلشرح يحضب وأخيه يأزل بين إلاّ أنهما منيا بهزيمة فخرية إذ أُسرا وأبقيا كرهينة عند الملك اليمني. جرت المعركة قرب مأرب وربما قرب شعب مأرب كما ارتأى جواد علي، لأن هذا الموضع قريب بالفعل من عدن. في النهاية أُطلق سراحهما بشروط اعلان الولاء لليمن والامتناع عن مهاجمة قوات ملك سبأ وذي يردان: ايلشرح يحضب. هذا الأمير الأسير، ليس هو، بكل تأكيد، المقصود في أشعار عبيد بن الأبرص، ونحن نرى أنه صاحب القصائد الموجودة في الديوان، والتي يرد فيها خبر سفره الى روما للقاء القيصر وطلب مساعدته. وهذه القصائد اختلطت بقصائد اخرى لامرئ قيس آخر عرض عليه الرومان قيادة جيش من المرتزقة لغزو اليمن ولكنه رفض ذلك: الديوان: 95، 33. ولو شاء كان الغزو من أرض حمير ولكنه عَمْداً الى الروم أنفرا أما الأمير الأسير الذي ورد ذكره في معلقة الحارث بن حلّزة الأنباري: 497 والمعلّقة: وفَكَكنا غُلّ امرئ القيس عنه بعد ما طال حبسُه والعناءُ فهو امرؤ القيس بن المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة، وهو أخ عمرو بن هند مضرّط الحجارة من أبيه، وكانت غسان قد أسرته عندما قتل المنذر في يوم عين أباغ الشهر نحو 554م. ولتوضيح الأمر أكثر: فإن امرأ القيس هذا ابن لملك الحيرة وأخ لولي العهد عمرو بن هند، وقد وقع أسيراً بيد الغساسنة في الشام بعد معركة قتل فيها ملك الحيرة المنذر بن ماء السما وأُسرَ ابنه الأمير الشاب. ولكن عمرو بن هند شنّ في وقت لاحق، حرباً خاطفة ومحدودة وتمكّن من تحرير امرئ القيس هذا، وقد امتدحه الحارث بن حلّزة في معلّقته وذكر خبر تحرير الأمير. ويبدو ان الإخباريين خلطوا بين الأسماء والعصور على نحو فظيع، لأن بين الأسير الأول في عدن والأسير الثاني في الشام نحواً من 600 عام. 3- امرؤ القيس بن تملّك الديوان، والانباري: 459. 4- امرؤ القيس بن خَذام أو قطّام الديوان: 162. 5- امرؤ القيس بن حمانة بن وائل ابن الكلبي، ابن عساكر: 8:340، أسد الغابة: 2:237. 6- ذو القروح وهو اسم لشاعرين أحدهما امرؤ القيس بن حجر والآخر كعب بن خفاجة، وشعره موجود في كتاب بني عقيل كما لاحظ الآمدي. 7- امرؤ القيس بن الحُمام بن مالك بن هبل بن كنانة بن بكر بن عوف من بني عذرة في الشام ابن قتيبة، الشعر والشعراء: 92. وفي الديوان الذي يحمل اسم امرئ القيس بن حجر، يظهر الشاعر بصفته ذا القروح وتنسب له بعض القصائد التي تدلّ على مرضه القديم. الديوان: 118: فلو أنّها نفسٌ تموت جميعة ولكنها نَفْسٌ تساقطُ أنْفُسا وبُدّلتُ قَرْحاً دامياً بعد صحةٍ فيا لكَ من نُعمى تحولن أبْؤسا لقد طمح الطمّاحُ من بُعدِ أرضه ليُلْبسني من دائهِ ما تلَبّسا وهذه القصيدة تلمح الى أن شاعرها كان رجلاً عليلاً بداء قديم، كما في قصيدة لمِن طَلَل، الديوان: 121: لمِنْ طَلَلٌ دائرٌ آيهُ تَقادمَ في سالفِ الأحْرُسِ فإمّا تريني بي عُرّةٌ كأني نكيبٌ من النقرسِ صَيّرني القَرْحُ في جُبّة تخالُ لبيساً ولم تُلْبسِ ترى أثر القَرْحِ في جلدهِ كنقشِ الخواتمِ في الجرجسِ أو كما في قصيدة ألمّا على الربع القديم، الديوان: 117: فإمّا تريني لا أغَمّضُ ساعةً من الليل إلاّ أن أكبّ فأنْعسا تأويني دائي القديم فغلسا أحاذرُ أنْ يرتد دائي فأنْكسا * باحث عراقي في شؤون التراث مقيم في هولندا. والمقال فصل من كتاب جديد يصدر قريباً.