منذ ما قبل التاريخ، وعلى امتداد الحضارة البشرية، اعتبر البكاء في حالة الرجل تقصيراً ومذلة وتعبيراً عن الضعف وليس عن الألم أو الحزن! "إبك كالنساء ملكاً لم تحافظ عليه كالرجال".. عبارة قاسية واجهها الملك عبدالله بن الأحمر من أمه، وهو يتأهب محزوناً ومهزوماً لمغادرة حاضرة ملكه حين سقط الحكم العربي في الأندلس. وكان يحق له البكاء من قلبه ولكنه لم ينل حتى من أقرب الناس إليه تعاطفاً. وقد كان الرجل صادقاً مع نفسه ومشاعره فبكى... ولم يقل متبرئاً منها ما قاله أبو فراس الحمداني: "لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة ولكن دمعي في الحوادث غال..." * الحياة أرجوحة تحملنا كالأطفال بكل مشاعرنا وانفعالاتنا الطفولية الى أعلى حيث البهجة، أو الى أسفل حيث الحزن والاكتئاب. وبين الصعود والنزول تتعالى ضحكاتنا أو شهقات احزاننا. وقد تملأ أعيننا الدموع... ولكن ليس مسموحاً لكل الدموع ان تسيل بحرية...! بعضنا يردها غصباً الى منابعها ويكتم تفجراتها في القلب... * منذ أول التقاءاتنا بما يؤلم ويوجع جسدياً أو نفسياً، نتحيز ضد دموع الرجل حتى قبل الرجولة... وللنساء حرية اكبر في ذرف الدموع. تسقط طفلة من الأرجوحة وتبكي... فنسارع الى حملها وتدليلها ومسح دموعها. ويسقط الطفل من نفس الأرجوحة... فنسارع الى تذكيره بأنه رجل وأن الرجل يتحمل الألم ولا يجب ان يبكي...! وتتعلم هي ان البكاء مسموح به وينيلها عطف الآخرين... ويتعلم هو ان البكاء مستهجن ويعرضه لاستخفاف الآخرين واحتقارهم له وتشكيكهم في رجولته. في البدء كلاهما يبكي عند الألم والجوع والغضب والقهر، ثم نغيّر من ذلك إذ نتفاعل مع دموعهما برد فعل مختلف. * منذ الطفولة نعلم أولادنا الذكور أن البكاء عيب، وأن الرجولة يجب ان تمنعهم من إظهار دموعهم. وفي مقابل ذلك نردد ان الدموع سلاح المرأة مرسخين التهمة الموحية بأن دموع المرأة يمكن استجلابها في اي وقت وكأن لها، بمكر متوارث، ان تحتفظ بقطعة بصل معنوي تفتح بها شرفات الدموع منهمرة متى شاءت. ونحن من سبب هذا الخلط في الأمور عبر طرق التربية التي نمارسها مع النشء. وربما كردة فعل ضد هذا الخلط لا أستطيع شخصياً أن أبكي إلا وحيدة بعيداً عن عيون الآخرين... على رغم انني من الفئة المحظوظة المسموح لها ان تعبر عن احزانها بحرية الدموع. * ما رأيت دموع أبي إلا في مواقف نادرة، وبصمت ناطق، غالباً أمام الموت الذي اختطف منه صديقاً غالياً... ويوم توفيت امي بعد عشرة خمسين عاماً. ثم يحاول ان يخفي دموعه ويمسحها بطرف غترته. ثم مؤخراً يوم جلس يسترجع معنا شريط حياة اختي ليلى الإبنة البكر التي اختارها بارئها مؤخراً فغادرتنا الى رحمته الواسعة. وفي مقابل ندرة دموع ابي وكل افراد عائلتنا من الرجال، رأيت أمي وأخواتي وزميلاتي في المدرسة، يبكين قهراً، ويبكين تعاطفاً، ويبكين فرحاً، ويبكين لأسباب اغلبها واهية، ولا يخفين دموعهن. ولكننا قلما نتقبلها على أنها انفعال طبيعي مثل دموع المرأة... وكم نظلم الرجل بهذا الحجر الاجتماعي على دموعه. اننا نحرمه من سلاح طبيعي يحميه ذاتياً من التمزق مضغوطاً في مشاعره المرة. وله بدلاً من ذلك ان يمزق غيره! مسموح للرجل ان يغضب ويندفع ليأخذ حقه بيده... وليس مقبولاً منه ان يتراجع الى العجز وإظهار الضعف امام الآخر والبكاء استعطافاً واسترحاماً وتذللاً. وربما جاء ذلك في بدايات الحياة البشرية المنظمة إدراكاً من الضعيف ان الرحمة ليست مضمونة. الرجل مطالب ان يكون سيد نفسه وقادراً على فرض مشيئته وتغيير الأوضاع التي لا يرضى عنها. أما المرأة فإن المعادلة الاجتماعية تضعها في تصنيف آخر... لا تستطيع التأثير المباشر ولا استخدام سلاح القوة... ولا بد لها، لكي تغير من افعال الآخرين تجاهها، من محاولة التأثير غير المباشر، لكي يتم تغيير هذه الأفعال بقرار من جانبهم. ومثلما تنقلب القطة على ظهرها لإظهار الضعف والاستكانة والتسليم أمام قط أقوى، أو مثلما ينكمش أي حيوان مقراً لغريمه بالتفوق الجسدي... تستسلم المرأة وتظهر ضعفها بسيل الدموع. دموع الرجل تشعرني بإنسانيته... ودموع المرأة تذكرني ببشريتها! ولذلك حين أرى رجلاً يبكي... قلما أشك في أنه يتظاهر بالبكاء! وقد أكون مخطئة في الحالتين...