حين رأيت قبل سنوات فوتوغرافيات صالح العزاز السعودية مطبوعة في بطاقات بريد، تفتحت تلك المساحة الضيقة من الخيال عن تلك البلاد الواسعة، مساحة تقتصر على جدة والرياض ومواسم الحج في مكةالمكرمة وامتدادات الرمل في الربع الخالي. فنان بالكاميرا يعرف بلاده جيداً ويوزع مناظرها على العالمين، فإذا هي واسعة مثل قارة، وإذا بطبيعتها متنوعة لا واحدة، وببشرها وحيوانها ونباتها ضاربون في خصوصيات وألوان لا يمكن اختصارها في نمط واحد. لكن صالح العزاز ليس مجرد مصور يروج لمناظر سياحية، إنه كاتب بالكاميرا، ومثل أي كاتب حديث يهمه الأسلوب لا الموضوع، لذلك يمكن النظر الى صوره كأعمال فنية عالمية ترتبط بالمكان السعودي فقط لأن الفوتوغرافيا محتاجة الى شكل تختاره وتسجله من وجهتها زاوية وإضاءة ولوناً وظلاً. وبهذا المعيار يصدر كتابه الفني "المستحيل الأزرق" حيث صور البشر والحيوان والنبات والحجر والطين والرمل، عبر لقطات للأشياء في حركتها ولونها وظلالها، للأشياء في نقائها البعيد من الفساد وفي حداثتها وقد داخلتها كيمياء التغيير الحاملة تحولات، أي نهايات. صور توازيها مقاطع شعرية من قاسم حداد، الشاعر البحريني الذي من مدينته الصاخبة عند زاوية شبة جزيرة العرب عرف حداثة الاختلاط التي تفور حياة وتحولاً وموتاً، وفي خلفية بلاده عبر ماء قليل تحوّل لاحقاً الى جسر طويل، عرف حداد ان سهوباً وصحارى تمثل النقاء الأبدي وكالملح لا يداخلها فساد. وفي شعره كان دائماً ذلك الخطّان: سيرة سهوب الجزيرة وصحرائها ومسار الإنسان الحديث عند أطرافها يجسد عملياً ما يُروى عن صراع وجداني بين الثبات والتحول، بين النقاء وتلوث لا بد منه كما التنفس. تقاسيم الصور وكلامها، هذا فنان يلتقط الصورة وذاك فنان يكتب كلامها شعراً، فيتجاور شعر المشهد وشعر اللغة الناهضة الى حفر المشهد في الوجدان، الى تجريده بالكلمة التي في البدء كانت وقرأناها باسم ربنا الذي خلق. "المستحيل الأزرق" لأن الزرقة حاضرة في الصور، ولأن المستحيل هو ما يبحث عنه المصور والشاعر ولا يبلغانه. فهذه الصورة لن تتكرر ومثلها كلامها الشعري. مرة واحدة تمر الريح في مقدارها ومؤثراتها، ومرة واحدة الضوء ومستوى اللون والظل، ومثلهما الكلمة لا تستعاد كما هي أبداً، ندوّن الكلمة على الورق فتتغير أيضاً بتغيّر قارئها. هناك في "المستحيل الأزرق" كتاب نغيره ويغيرنا بصوره وكلامه: أمام صورة صنبور معدني في مساحة رمل يكتب قاسم حداد: يا حارس الماء ماذا قرأت من الرمل فالماء يأتي من المستحيل. يا حارس الماء جفت ينابيعنا في القرى وجفّ الثرى في مساء النخيل. فيا أيها الحارس المعدني ارفع الظل عن غفلة الأرض يأتي من المنتهى والمجامر ماءٌ نحيل. والكلام العربي هذا مثبت بالفرنسية بترجمة عبداللطيف اللعبي وبالإنكليزية بترجمة نعيم عاشور، والمراجعة لسلمى الخضراء الجيوسي. وفي مطلع الكتاب الذي يستهوي البصر والخيال والرؤيا نجد أيضاً البسملة، وشيجته الى سائر كتُب العرب.