كم كنا نتمنى لو ان القمة العربية الاخيرة نجحت في حل بعض الخلافات وان الدول المعنية عملت على ايجاد حلول لمشاكلها الداخلية المستعصية التي تنذر بأوخم العواقب وانهاء خلافاتها مع جيرانها حتى نتمكن من المساهمة في جهود رأب الصدع وتوحيد المواقف ومواجهة المخاطر الكثيرة خصوصاً اننا بكل اسف نعيش الايام السوداء للحقبة الشارونية التي لا تهدد الفلسطينيين فحسب، بل الامة العربية كلها. ولكن القمة انتهت بمثل ما ابتدأت: بيان ختامي يركز على دعم القضية الفلسطينية وشجب الممارسات الاسرائيلية وادانة الانتهاكات المتكررة لاتفاقات السلام واستنكار الارهاب الصهيوني... وهذا التركيز على القضية الفلسطينية في كل المؤتمرات والقمم العربية ضروري ومطلوب بل ان الرأي العام العربي من المحيط الى الخليج يطالب بمواقف اكثر حزماً وباجراءات فاعلة وعملية، لكن هذا التركيز يجب ان لا ينسينا اصل العلة في الموقف العربي على رغم الاعتراف بان وضع اسرائيل كشوكة في خاصرة الامة العربية كان ولا يزال هدفه الاول ضرب الوحدة العربية ومنع العرب من تحقيق اهدافهم المشروعة في التنمية والازدهار والوحدة والديموقراطية والحرية والاستقرار والعيش بسلام. وأصل العلة هذا، بعيداً عن العامل الصهيوني يدور في محاور عدة صارت معروفة للقاصي والداني مع التركيز على عاملين اساسيين اولهما داخلي يتعلق بالاوضاع الداخلية وتفاقم المشاكل والازمات نتيجة لغياب الفعل والموضوعية والعدالة والمساواة في الحقوق والواجبات والتفرد في الحكم والقرارات المصيرية والانقلاب على الشرعية والتمثيل الشعبي الحقيقي وما نجم عن كل ذلك من "صواعق تفجير" وشروخ وقنابل موقوتة قد تنفجر في اية لحظة لتضع البلاد في دوامة عنف ودمار وتفتيت. اما العامل الثاني الذي يدخل في نطاق "اصل العلة" فهو استمرار الخلافات العربية - العربية بدءاً من الشرخ الناجم عن الغزو العراقي للكويت في 2 آب اغسطس 1990 والتي فشلت القمة العربية في ايجاد مخرج له، وانتهاء بالخلاف المغربي - الجزائري حول قضية الصحراء وهو خلاف مصطنع يمكن حله في لحظات لو تم التفاهم على الحلول المطروحة والاعتراف بمغربية الصحراء من حيث الواقع والتاريخ والجغرافيا والحق والشرعية ومصالح الطرفين وضرورات قيام الاتحاد المغاربي من كبوته ومساهمته الفاعلة في تحقيق الاستقرار والازدهار وتلبية طموحات وآمال الشعوب التي قلّ ان يجتمع في غيرها من عوامل الوحدة والتجانس والقرابة وروابط الدم والنسب والدين والتاريخ والعادات والتقاليد. هذه الخلافات ما كان يجب ان تستمر مهما كان السبب لأن المصالح المشتركة والخطر الداهم الذي يتهدد الامة في هذه الحقبة الشارونية تستدعي التسامي فوقها والعمل على تجاوزها. ولكن هل يدرك من بيده الحل والربط هذا الواقع؟ وهل يعي هذه الحقيقة؟ وهل يريد فعلاً الالتفات للخطر الاكبر بعد نزع فتيل صواعق التفجير الداخلية والعربية العربية؟ اسئلة محيرة والجواب عليها يدخل في نطاق الالغاز والمعادلات الصعبة بعد ان عاشت أمتنا عصور الغرائب والعجائب طوال العقود الماضية ولكن مجال الحديث عنها يحتاج لوقفة اخرى للمصارحة وكشف الستار عن الجهات المتلاعبة بالمصير العربي بالجملة والمفرق!! اما موضوعنا اليوم فيتركز على الاوضاع الداخلية المتفجرة والتي تهدد الاستقرار الداخلي في مراحلها الاولى لتهدد بعد ذلك الاوضاع العربية وبالتالي تصب في خانة الصراع العربي الاسرائيلي وتساعدها على تنفيذ خططها الخبيثة ومؤامراتها المتواصلة لتهويد فلسطين وتكريس الاحتلال وبناء المزيد من المستعمرات الاستيطانية. قد يقول قائل انه من الافضل عدم الربط بين الازمات الداخلية والصراع العربي - الاسرائيلي لان المسببات والعوامل الداخلية اكبر بكثير، كما انها نجمت عن ممارسات قيادات واحزاب وافراد يفترض ان قاسمها المشترك الاكبر عربي الهوية والانتماء ولهذا فان الحل يجب ان ينبع من الداخل، والرد على هذا القول منطقي لأن تفاقم المشاكل العربية نجم عن الاستغلال المتمادي للخطر الصهيوني في قمع المطالب الداخلية وتأجيل الحلول وتعليق المشاكل والأزمات على شماعة اسرائيل بعد تبني شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" واستخدامه السيء في اسكات كل صوت يرتفع وقطع كل اصبع يدلّ على موطن العلل. ولكن هذه الحقيقة لا تحجب حقيقة اكبر وهي ان اي نقطة ضعف في الوطن العربي تعتبر ثغرة تنفذ منها اسرائيل والمطامع الاجنبية، وأي أزمة داخلية لا بد ان يكون لها انعكاسات على الجيران والامة العربية ككل اذا كان ايماننا صحيحاً بأنها كالجسد الواحد أو "كالبنيان المرصوص اذا اشكتى منه عضو تداعى له سائر الاعضاء بالسهر والحمى". ولو استعرضنا حال الامة، قبل القمة وبعدها، لوجدنا ان الكثير من الاعضاء يئن من الشكوى، وان هناك الكثير من الالغام والقنابل الموقوتة كان آخرها محاولات افتعال ازمة او اشعال فتنة في مصر بسبب مباشر هو ما نشرته صحيفة صفراء واسباب غير مباشرة لا يعلمها الا الله عزّ وجلّ... ومن يحرك مثل هذه الفتن او يحرض عليها بين الحين والآخر! وربما يحتاج التفصيل إلى عودة اخرى في مقال منفصل لكني اخترت اليوم حالتين قد يظهر للبعض انهما بعيدتان عن القضية المحور ولا تأثير فيهما على العرب واخطار الحقبة الشارونية ولكن من يتمعن بعمق فيهما يدرك الابعاد ويعيد الى الواجهة مخاوف محاولات التفتيت وقضم اجزاء من الوطن العربي واقامة دويلات وكيانات هزيلة تكون يد اسرائيل هي العليا بعد ان تعم الفوضى في الديار العربية نتيجة لانتشار التطرف وتيار العنف. الحالة الاولى تمثل السودان المنكوب منذ الاستقلال حتى يومنا هذا بين انقلاب وانقلاب وديكتاتورية وديكتاتورية ومناظرات ومشاحنات بين الاحزاب الرئيسة التي لم تدرك بعد الاخطار التي تتهدد السودان بسبب عدم قدرتها على الحوار والتفهم والوفاق وتبني الخيار الديموقراطي الذي يضع حداً للتفرد والاستئثار بالحكم وبترك القرار النهائي للشعب الذي عانى الأمرين بعدما وقع بين مطرقة الانقلابات وسندان الاحزاب والقيات المتناحرة. ومن ثقوب هذه الصراعات والمناحرات والانقلابات تسللت العناصر المغرضة التي لها غاياتها واهدافها واجندتها الخاصة والجهات الاجنبية التي تحرضها وتدفعها للتمرد وتدعمها بالمال والسلاح كما يجري بالنسبة لجنوب السودان الذي يشهد تصعيداً خطيراً في الحرب المكلفة التي تدمر وتهدم وتشرد الملايين وتسعى في النهاية لتنفيذ مؤامرة انفصالية بكل ما يمثله من غنى وثروات بشرية وطبيعية وحيوانية وزراعية اضافة الى البعد الافريقي ثم البعد المائي وصولاً الى البعد الصهيوني الذي يضاعف من تغلغله في افريقيا للسيطرة على منابع مياه النيل لتهديد امن مصر والسودان. والسودان الذي كان يوصف بسلة الغذاء كان يمكن ان يشكل محور الامن الغذائي العربي، يعاني الآن من مجاعة في بعض مناطقه، وثرواته النفطية المكتشفة حديثاً تتعرض للتهديد والوعيد من قبل المتمردين يومياً، بل ان الحرب امتدت اخيراً الى مناطق في الشرق فيما الشعب يعاني من البطالة وهجرة الادمغة والخبرات وتدمير المؤسسات العريقة مثل الجامعات والقضاء والجيش والاحزاب الكبرى. وقبل أيام مرت ذكرى انقلاب الثلاثين من حزيران يونيو الذي كني بالانقاذ فاذا بهذا الانقاذ يحتاج الى انقاذ بعد الخلافات مع جبهة الترابي والانشقاقات وعدم القدرة على تحقيق الوحدة الوطنية والديموقراطية واجراء انتخابات عامة والفشل في وقف حرب الاستنزاف في الجنوب وتأمين لقمة العيش للمواطن المغلوب على امره واعادة العز للسودان الذي كان مضرب المثل في العلم والثقافة والانضباط والتمسك بمبادئ التسامح والحرية والديموقراطية، ورفض العنصرية والتمييز العرقي والديني وسط بحر من مئات الاعراق والقبائل والطرق والاهم من كل ذلك رفض اللجوء الى العنف بأي شكل من الاشكال. أما الحالة الثانية فتتمثل في اقسى صورها في الجزائر حيث شهدت هذه البلاد الغنية والفتية اسوأ طعنات شرسة من الداخل والخارج ومن اهل الدار قبل اهل الديار البعيدة والقريبة بعد نضال كان مضرب المثل في التضحية والجهاد من اجل طرد الاستعمار وتحقيق الاستقلال الناجز. فبلد المليون شهيد في حرب التحرير تكاد تصبح بلد المليون شهيد ثان في حروب التكفير والتهجير واثارة النعرات وتعميم ممارسات الارهاب والقهر. فمنذ الاستقلال لم تشهد الجزائر يوماً مستقراً الا فيما ندر، انقلابات وحروب وسياسات خاطئة في الاقتصاد والسياسة والتصنيع والفساد ونهب الثروات وخلافات ومناصرات ومؤامرات بين اهل الحكم المعلنين والخفيين وزج البلاد في حروب وازمات مع المغرب وغيره ومحاولات من كل الجهات لفرض الرأي الواحد واللون الواحد على شعب يريد الحياة بحرية واستقرار ولا يريد سوى العيش بكرامة بتأمين فرصة عمل ولقمة عيش ونوم هانئ يبشر بفجر يحمل اليه الامل بغد افضل. كل هذا الدم المسفوك من اجل من؟ ولماذا؟ ومن هو المستفيد والمحرض والمشارك؟ وما هي الادوات؟ بعد اكثر من 15 عاماً من الاضطرابات والفوضى واعمال العنف والارهاب تحولت المسألة من جماعات اسلامية ونظام وحكومة الى فتنة داخلية تدعو للتفتيت والتفريق بين الاخوة ورفاق درب واحد ودم واحد وتاريخ مشترك لم يعرف سوى المحبة والتساكن والتضامن والتزواج المختلط. ويتحدث البعض عن مؤامرات خارجية وأياد أجنبية تحرض على التفريق بين العرب والبربر ولكن ما من احد يسأل عن اسباب ثورة البربر وتحركهم الاخير، وعن المسؤول عن عدم تلبية مطالبهم المحقة وايصالهم الى حافة اليأس بعد حالات تذمر وتعبير عن النقمة يعرف تفاصيلها القريب والبعيد... نعم قد يكون هناك من يحرض ويفرق، ولكن علينا التفتيش عن الاسباب والممارسات والعوامل التي اوصلت البلاد الى ما وصلت اليه واولها واهمها العامل الاقتصادي وضياع الشباب وعدم تمكنهم من ايجاد فرص عمل شريف يقيهم الفقر والحاجة وشرور التشرد والانحراف. لقد استمعت قبل ايام الى وزير الاعلام السوداني يناشد الاعلام العربي مساعدة السودان على تخطي ازمته الراهنة وعدم صبّ الزيت على النار. وكنت اتمنى لو ان احداً ردّ عليه قائلاً: ساعدوا انفسكم حتى يساعدكم الاعلام العربي... وكل عربي! فقط بالحكمة والتعقل والشورى والمشاركة الشعبية يمكن تجاوز المحن الراهنة في عدد من الدول العربية. فالعنف لا يولد سوى العنف، واستمرار لعب دور النعامة لا نهاية له سوى ما نشهده اليوم... والانقاذ الحقيقي يجب ان يبدأ بالحوار والتضامن ومشاركة كل الاطراف في تصحيح الاوضاع والاعمار والتنمية حتى تتمكن كل دولة عربية من تحمّل مسؤولياتها والمشاركة في صد مخاطر الحقبة الشارونية. * كاتب وصحافي عربي.