بين مرحلة ومرحلة وحدث وحدث يتوجب، على العرب على مستويات القمة والقاعدة وما بينهما من نخبة ورجال فكر وإعلام وما يسمى بالمثقفين، التوقف عند المنعطفات وأخذ الوقت لفترة تأمل وتفكير وبحث عن الأوضاع والتحديات والأخطاء والخطايا والأفعال وردود الأفعال والأسباب والنتائج والبدايات والنهايات ومن ثم البحث عن وسائل التصحيح والتقويم وأساليب العلاج بعد تحديد مواطن العلل ثم محاولة وصف الدواء الناجع. واليوم بعد كل الذي جرى على امتداد الساحة العربية ونحن نقف أمام مرحلة مصيرية حرجة من مفاصل تاريخ الأمة العربية تحتاج أكثر إلى مثل هذه الوقفة المطلوبة بإلحاح لعل أصحاب القرار ومعهم أصحاب الرأي يتوصلون إلى دراسة موضوعية للأوضاع العربية وكشف مواطن الخلل والعلل والبحث عن «حكماء» يعملون ليل نهار لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وإيجاد العلاج لإخراج الشعوب من عنق الزجاجة وتحصين مناعتها لمواجهة المصاعب والأخطار ومواجهة مخططات الأعداء والطامعين وأولهم إسرائيل والصهيونية العالمية. ولا بد لإنجاح مثل هذه الوقفة وإيصالها إلى مراميها وتحقيق أهدافها من توافر عوامل الصراحة والصدق والجرأة والموضوعية والحكمة بعيداً من الخوف والتعصب وأمراض العرب المزمنة وأولها دفن الرؤوس في الرمال والهرب من مواجهة الواقع والتهرب من تحمل المسؤولية ومحاولة رمي أثقالها على الآخرين وتوجيه الاتهامات إليهم أو تعليقها على شماعة إسرائيل والقوى الأجنبية على امتداد الكرة الأرضية. ولتبسيط الأمور والبعد من تعقيدات البحث يتوجب علينا طرح أسئلة بديهية مطروحة في كل مكان من المحيط إلى الخليج، في الإعلام والمنتديات والندوات والمحاضرات وصولاً إلى مؤتمرات القمة وأحاديث المقاهي ومناوشات الشوارع، وهي أسئلة تتناول في الصميم إشكاليات الأزمات العربية وأصولها وأشكالها وأنواعها وأوجاعها وشؤونها وشجونها بكل وضوح. فكل شيء في علمنا أصبح جلياً ومفضوحاً وواضحاًً في آن، ولا يجوز الهروب من مواجهة الاستحقاقات الكبرى وتقويم الاعوجاج، وهذه مسؤوليتنا جميعاً تماشياً مع قول سيدنا عمر بن الخطاب عن كلمة الحق «لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها». السؤال الأول: لماذا وصلنا إلى هنا... أي إلى حال الضعف والوهن والتخاذل والتخلف؟ والجواب المنطقي والأكيد يكمن في الظواهر الآتية: - الفقر: نتيجة سوء التخطيط واستشراء الفساد ونهب الأموال والرشى وعدم الالتفات إلى أولويات الناس وصرخاتهم وحاجاتهم، والغلاء الفاحش والبطالة وغياب سياسات الضمان الاجتماعي والصحي والأمن الغذائي والاجتماعي. - التخلف: ويندرج في إطار الأمية والجهل وقصور مناهج التعليم وعدم التركيز على إلزامية التعليم وفتح المنافذ البديلة من مهنية وغيرها. إضافة إلى مساهمة الإضرابات والحروب الداخلية والخارجية في تخلف ملايين الأطفال عن التعليم بسبب الفقر والحاجة واليتم وعدم قدرة الأهل على إكمال تعليمهم وتركهم فريسة للجهل والشذوذ والتطرف والضياع في الشوارع أو في دخول ميادين العمل قبل الأوان ما يتسبب بتدمير طفولتهم وحاضرهم ومستقبلهم. وما زاد الطين بلة عدم مواكبة ثورة العلوم والتكنولوجيا التي تغزو العالم وتنقله إلى عالم آخر مختلف عن عالمنا بحيث أصبح الأمي العصري ليس الذي لا يقرأ ولا يكتب «ويفك الحرف» كما يقال، بل ذلك الذي لا يحسن التعامل مع الحاسوب (الكومبيوتر) والإنترنت ومشتقاته وتوابعه. - الفتن: وهي منتشرة على امتداد الوطن العربي وتطل برأسها عند أول هبة ريح، فمنها ما هو طائفي ومنها ما هو مذهبي ومنها ما هو عرقي وعنصري ومنها ما هو مصطنع نتيجة لخلاف بين دولة ودولة أو بين مزاج زعيم وزعيم. ومع أن أكثر العرب يلقي بالمسؤولية على إسرائيل والقوى الخارجية والمؤامرات والمطامع فإن الواجب يحتّم علينا أن ندل بإصبع الاتهام إلى أنفسنا لأن «دود الخل منه وفيه» كما يقول المثل. وأن علينا أن نحاسب النفس قبل أن نحاسب الآخرين. وقبل كل ذلك علينا أن نسأل عن سر ظهور هذه الفتن إلى العلن هذه الأيام بالذات مع أن أمتنا عاشت قروناً في ظل التعايش والمحبة والأمن والأمان إيماناً بقوله تعالى «إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم» صدق الله العظيم الذي أعطى المرأة والرجل حقوقاً متساوية وألغى الفروق بين الشعوب ووحّد بينهم في الإيمان والفروض والحقوق والواجبات بحيث لا يتميز الواحد عن الآخر إلّا بمقدار تقواه. كل هذا تخلينا عنه في مسيرتنا اللاهثة نحو أسراب المادة والضياع والتشتت وتغلبت علينا طباع التعصب والعنصرية والأنانية والفردية حتى وصلنا إلى هنا. قرون من الزمن والجميع سواسية إلى أن ابتلينا هذه الأيام بالحديث عن السنّة والشيعة والطوائف الأخرى، وعن المسيحيين والمسلمين، وعن العرب والأكراد والبربر، ونسينا بطولات الغابرين وعلى رأسهم طارق بن زياد البربري وصلاح الدين الأيوبي الكردي والمئات بل الألوف من القادة والعلماء والمصلحين، لا فرق ولا ميزة بين عربي وعجمي إلا بالتقوى وبما يقدم لأمته فيما نعيش الآن كل هذا التدهور المتواصل في حالات التقوقع والتعصب والارتداد إلى الإقليم والعشيرة والعائلة وتوسيع الشروخ بين مغربي ومشرقي وبين خليجي وشامي وبين سوداني ومصري وصولاً إلى الشروخ الداخلية في كل بلد ومدينة وانتساب. - الضعف والهوان: وهذا مرض شائع ووباء ينتشر في الجسد العربي لينهشه ويشل من حركته تمشياً مع قول الشاعر: ومن يهُن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميّت إيلام. وقد يقول قائل إن إسرائيل هي السبب وإنها تملك ترسانة حربية تقليدية وغير تقليدية تفرض من خلالها سطوتها على العرب مجتمعين، ولكن الحقيقة المرة والغائبة هي أن قوة إسرائيل تكمن في ضعف العرب وتشتتهم وخلافاتهم. وهنا أيضاً نعود إلى هداية الله عز وجل الذي قال في كتابه الكريم: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل». وهدانا إلى سبيل القوة والعزة في قوله: «واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا». ولكننا لم نُعد ما يلزم لقوتنا وصمودنا في وجه الأعداء، ولم نعتصم بحبل الله وتفرقنا وتشرذمنا حتى تمكن منا العدو ونال منا الأعداء فرادى وجماعات وتحولت أكاليل الغار في تاريخنا الغابر إلى أشواك عار تشوه رؤوسنا وتخفضها خجلاً بعد أن فقد العرب دورهم وتخلوا عن زمام أمورهم للآخرين من أعداء وجيران وقوى إقليمية صارت هي صاحبة الأمر والنهي في أمورنا. - التطرف والإرهاب: آفتان تنهشان الجسد العربي جنباً إلى جنب مع الآفات الأخرى ومكائد الأعداء ومؤامراتهم، وهما ناجمتان عن كل ما تقدم من نقاط وعلل وأزمات. ولا حل أمنياً لهما إلا وفق برنامج متكامل للتخلص من كل الآفات ونشر الوعي والتوجيه الصحيح والتحذير من مغبة المضي في هذا النهج المدمر. - غياب الوطنية: وهذا بدوره ناجم عن تراكمات الخطايا والأخطاء وتزايد الظواهر السلبية في المجتمع واتساع رقعة خيبات الآمال ومعها آفات الحقد والكراهية والقرف من الممارسات القمعية والتمادي في الاستخفاف بالإنسان وحقوقه ومنها حقه في المشاركة وممارسة دوره كاملاً والتعبير عن رأيه بصراحة من دون خوف ولا ترهيب. - الظلم: وهو تابع لما تقدم لأنه ناجم عن مجموع الآفات وغياب العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات وعدم احترام القوانين والتمييز بين المواطنين وتكبيل القضاء بالترهيب والترغيب وشل القدرات وتفريغ المؤسسات وتهريب الكفاءات وفقدان الثقة بالنزاهة والصدقية والحق. ولا حل لقضايا العرب، ولا تقويم لأوضاعها إلا بالانطلاق من هذه البداية: أي رفع الظلم وإحقاق الحق واحترام حقوق الإنسان ووقف أي انتهاك لها. فبالعدالة تعود اللحمة الى أوطاننا، وبالمساواة ننطلق في طريق الوحدة وبسيادة القانون نؤمن الإصلاح وضرب رؤوس الإفساد وإعادة بناء الأوطان وتوحيد الصفوف والإعداد للقوة وتعزيز مشاعر الوطنية وحب الوطن والالتزام بقضايا الأمة. فلا قوة لأمة بلا عدالة، ولا قدرة لمواطن على الدفاع عن أرضه وعرضه إذا كان مقيداً بقيود الظلم ومكبلاً بالكوابح التي تسحق الإنسان وتنتهك حقوقه. وعندها يمكن مطالبة الإنسان المواطن بالقيام بواجباته والدفاع عن وطنه ومواجهة الأعداء والمساهمة في البناء والإبداع ووضع طاقاته في خدمة وطنه والتضحية بالغالي والنفيس من أجل رفعة شعبه وأمته، مع مطالبته بالنضال لتحقيق هذه الأهداف النبيلة الواردة في التوجيه الإلهي «إن الله لا يغيّر بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم». أما استمرار الشكوى من الأوضاع المتردية وعدم المساهمة في إصلاحها فلا رد عليه سوى «كما تكونون يولى عليكم»، ولهذا من غير المستبعد أن يتم الالتفاف على الثورات العابرة أو تكرارها في زمان آخر وأمكنة أخرى لندخل في دوامة أسئلة جديدة لا نهاية لها لأنها تحمل العذاب والدمار والتفتيت. * كاتب عربي