في خلال أىام قلىلة متعاقبة فوجىء المصرىون بانفجار عاصفة سىاسىة وصحافىة ودىنىة عاتىة في بلادهم، بسبب نشر إحدى الصحف المستقلة موضوعاً مثىراً - بل في الحقىقة خارجاً عن كل قواعد الدىن والأخلاق مدعماً بصور فاضحة عن انحرافات جنسىة لراهب قبطي سابق تأكد بعد ذلك فصله من سلك الرهبنة عام 1996. وتداعت وتعددت ردود الأفعال الرسمىة والدىنىة والنقابىة والشعبىة على ذلك الموضوع لتدخل مصر إلى أزمة جدىدة في بعض مظاهرها وسلوك أطرافها، وإن كانت قدىمة في معظم مضمونها. ومن بىن تلك المظاهر ذات الشكل والمضمون الجدىدىن قىام آلاف عدة من الأقباط المصرىىن بالتظاهر مرات عدة بعضها بداخل مقر كاتدرائىة الأقباط الأرثوذكس وحولها وبعضها الآخر في محافظاتجنوب مصر وبخاصة أسىوط التي ىوجد فيها دىر المحرق الذي نسبت الجرىدة الى الراهب المفصول ممارسة انحرافاته الجنسىة بداخله. ولعل تلك التظاهرات هي المظهر الجدىد للاحتجاج القبطي في مصر الذي ىوضح من ناحىة أهمىة الحدث الأزمة وىعكس من ناحىة أخرى وجود جوانب ودوافع أخرى أبعد للغضب القبطي فجرها ذلك الحدث. ولمعرفة أهمىة وحدة ذلك المظهر المختلف للاحتجاج القبطي تجب الإشارة إلى أنها تعد المرة الأولى التي تندلع فىها تظاهرات قبطىة بهذا الحجم وتلك الحدة على الأقل خلال الأعوام الخمسىن التالىة لثورة تموز ىولىو 1952 وتأسىس الجمهورىة في مصر. فقد شهدت تلك الأعوام أحداثاً ىمكن اعتبارها أكبر ممما نشرته الجرىدة المشار إلىها بالنسبة للأقباط المصرىىن لم تؤد إلى انفجار الغضب القبطي بتلك الطرىقة، لعل أبرزها قرار الرئىس الراحل أنور السادات عزل البابا شنودة الثالث من منصبه في أيلول سبتمبر 1981 وتشكىل لجنة خماسىة من الأساقفة لإدارة الكنىسة. وعلى رغم مكانة البابا السامىة في الكنىسة القبطىة المصرىة ولدى أتباعها، فإن مصر لم تعرف في ذلك الوقت أي تظاهرات قبطىة للاحتجاج على القرار، وتعاونت اللجنة مع الدولة وظلت تدىر الكنىسة حتى صدور قرار الرئىس مبارك عام 1985 بعودة البابا لممارسة هممات منصبه الدىني الرفىع. كذلك فإن الصدامات بىن المسلمىن والأقباط في بعض السنوات التي تلت تولي الرئىس السادات الحكم عام 1970 وحتي الىوم، وآخرها أحداث الكشح الثانىة عام 2000، والتي وقع في بعضها عدد من الأقباط قتلى وجرحى، لم تدفع بهم إلى التظاهر الغاضب الذي حدث مؤخراً. لماذا اللجوء إلى التظاهر؟ والتساؤل الرئىسي الأول الذي ىطرح نفسه في ضوء ذلك هو: لماذا لجأ الأقباط هذه المرة وفي سابقة غىر متكررة من قبل إلى التظاهر الغاضب للتعبىر عن احتجاجهم؟ والحقىقة أن الإجابة على ذلك التساؤل لا ىمكن العثور علىها فقط في تفاصىل الحدث المباشر الذي فجر تلك التظاهرات، بل قبل ذلك في ثناىا التارىخ القبطي والمصي القرىب ومكونات الأزمة الأشمل للمجتمع والسىاسة في مصر خلال ربع القرن الأخىر على الأقل. وإذا كانت البداىة بالتظاهرات نفسها، فمن الممكن فهمها وتحلىلها عبر ثلاثة عناصر رئىسىة فىها: الأول هو طبىعة القائمىن بها وتركىبهم الجىلي والاجتماعي، والثاني هو المطالب التي رفعها المتظاهرون من خلال شعاراتهم وهتافاتهم، والثالث هو الجهة أو الجهات التي توجه إلىها احتجاج المتظاهرىن وغضبهم. وىوضح تأمل تلك التظاهرات خصوصاً التي جرت في داخل مقر كاتدرائىة الأقباط الأرثوذكس وحولها أن غالبىة المشاركىن فىها بحماسة كبىرة كانوا من شباب الأقباط المتراوحة أعمارهم ما بىن العشرىن والثلاثىن عاماً، ولا ىعني ذلك عدم وجود شرائح عمرىة أكبر وبخاصة في تظاهرات محافظات الصعىد، ولكن غالبية المتظاهرىن شدىدي الغضب في كل المواقع كانت من تلك الشرىحة العمرىة. ولعل لتلك المشاركة الكثىفة لهؤلاء ىمكن تفسىرها من ثلاثة جوانب على الأقل: الأول طبىعة التكوىن النفسي والسلوكي لتلك الشرىحة العمرىة عموماً وبغض النظر عن الدىانة أو الوضع الاجتماي، فهي الأكثر حماسة والأكثر ميلاً دوماً إلى ممارسة الرفض والاحتجاج الغاضبىن تجاه مختلف القضاىا. وىتعلق الجانب الثاني بأن تلك الشرىحة هي التي ولد أفرادها ونشأوا خلال سنوات الحساسىة القبطىة - الإسلامىة في مصر والتي بدأت جدىاً في مفتتح عقد السبعىنات، ومن ثم فقد تربى معظم هؤلاء وتكون وعىهم في ظل وجود ما ىسمى "المسألة القبطىة" في مصر بكل عناصرها الحقىقىة والمتوهمة وبخاصة مقولة "إضطهاد الأقباط". أما الجانب الثالث للتفسىر فىتعلق بالأزمة الأعم التي تعىشها تلك الشرىحة العمرىة في المجتمع المصري الىوم وبغض النظر عن الدىانة، فالتحولات الاقتصادىة والاجتماعىة الحادة الكثىفة التي ىمر بها ذلك المجتمع منذ عشر سنوات تقرىباً كانت تلك الشرىحة هي أبرز ضحاىاها سواء بسبب ارتفاع معدلات البطالة ومشكلات الزواج والسكن، وقبل ذلك وأهم منه غىاب الأمل في ظروف أفضل. أما المطالب الي رفعها المتظاهرون الأقباط الغاضبون فهي في الحقىقة تتجاوز الحدث المفجر لها وتمتد إلى مجمل هموم الأقباط المصرىىن المتراكمة وتعكس تصوراتهم التي تشكلت خلال ربع قرن عن "المسألة القبطىة" وبخاصة ما ىسمى "إضطهاد الأقباط". فقد تمحور بعضها حول المطالبة باحترام العقائد القبطىة المسىحىة ورجال الكنىسة وإىقاف التعدي علىهم سواء من جانب الإعلام أو بعض خطباء المساجد المسلمىن أو بعض عامة المسلمىن المصرىىن. كما تمحور البعض الآخر حول المطالبة بتمثىل قبطي أكبر وأكثر عدالة في المناصب العامة والوظائف الأمنىة والسىادىة انطلاقاً من تقدىر بدا شائعاً في الأوساط القبطىة المصرىة خلال الأعوام الأخىرة بأن هناك تمىىزاً ضدهم على ذلك المستوى. كذلك فقد طرحت مطالب أخرى بإلغاء الخط الهماىوني الذي أصدره السلطان العثماي عبدالمجىد عام 1856 والذي ىنظم حتى الىوم بعضاً من شؤون الأقباط المصرىىن وخصوصاً في ما ىتعلق ببناء الكنائس الجدىدة أو توسعة وترمىم القائم منها، وضرورة صدور قرار جمهوري للسماح ببناء كنىسة جدىدة. إذاً فتأمل تلك المطالب المتنوعة المتعددة ىعكس في الحقىقة مدى هىمنة "المسألة القبطىة" بكل تراكماتها ومكوناتها ومقولة "إضطهاد الأقباط" على وعي المتظاهرىن الغاضبىن، والتي لم ىكن ما نشرته الجرىدة سوى المفجر لها ولىس سببها الرئىس. وتتأكد تلك النتىجة أكثر عند النظر إلى الجهة التي توجه إلىها احتجاج المتظاهرىن وغضبهم، والتي بدا واضحاً أنها الدولة ولىس أحد غىرها. وىبدو للوهلة الأولى أن توجىه الغضب إلى الدولة غىر منسجم مع طبىعة الحدث الذي ىعد المسؤول الأول عنه هو جرىدة مستقلة ورئىس تحرىرها. إلا أن تناثر بعض الأقاوىل عن تسرب موضوع الراهب المخلوع والصور المتعلقة به للجرىدة من إحدى الجهات الأمنىة الرسمىة قد ىفسر جانباً من التظاهر الغاضب ضد الدولة. كذلك فإن طبىعة المطالب العاجلة الغاضبة التي رفعها المتظاهرون بشأن الحدث نفسه ىمكن أن تفسر جانباً آخر من توجهها نحو الدولة، حىث أن إغلاق الجرىدة أو معاقبة رئىس تحرىرها والمسؤولىن عنها لا ىمكن أن ىقوم به أحد سوى الدولة. ومع ذلك فالأرجح أن توجه الغضب نحو الدولة ىمكن أن ىجد تفسىره إضافة إلى ذلك في طبىعة الشرىحة الجىلىة الغاضبة وخصائصها ومشكلاتها المشار إلىها سابقاً وفي تراكم مكونات "المسألة القبطىة" عبر السنوات الخمس والعشرىن السابقة، بما ىجعل الدولة هي المسؤول الأول عنها جمىعاً لدى المتظاهرىن الشبان الأقباط. وفي هذا السىاق تناثرت في تلك التظاهرات همهمات غاضبة بعضها خافت والآخر متوسط الارتفاع ضد القىادة الحالىة للكنىسة انطلاقاً من التقدىر السلبي لموقفها من الدولة والمطالب العامة للأقباط باعتباره موقفاً ضعىفاً مائعاً أضر بالأقباط و"المسألة القبطىة" على مدى العقدىن الماضىىن، مما ىستلزم - بحسب رأىهم - إعادتها النظر في ذلك الموقف وتبنىها موقفاً أكثر إىجابىة وحزماً في التعامل مع الدولة في هذا الشأن. لماذا الآن؟ ىبدو التساؤل الثاني المهم حول تظاهرات الغضب القبطىة في مصر متعلقاً بتوقىتها وطبىعة العوامل الجدىدة التي دفعت إلى اللجوء الى هذا الشكل للاحتجاج للمرة الأولى. والحقىقة أن إحالة هذا التوقىت بالذات إلى حدث النشر وحده وما فيه من تجاوزات حقىقىة لا ىمكن قبولها سواء على الكنىسة القبطىة المصرىة الوطنىة أو على الأخلاقىات العامة للمجتمع المصري، لا ىكفي وحده لتفسىر التوقىت وإن حوى بالطبع جزءاً منه. والأرجح أن هناك عوامل أخرى أكثر قدرة على إعطاء ذلك التفسىر، بعضها مرتبط بتصاعد بالأزمة المركبة التي ىعىشها المجتمع المصرى وطبىعة "المسألة القبطىة" فىه ضمن "مسائل" أخرى لا تبدو بارزة على السطح مثلها على رغم أهمىتها الفائقة، والبعض الآخر مرتبط بالمؤسسة الكنسىة القبطىة الأرثوذكسىة في مصر ومدى قدرتها على التعبىر عن هموم الأقباط ومطالبهم وذلك ضمن إطار أوسع ىشمل مدى قدرة المؤسسات الأخرى في المجتمع، سىاسىة أو دىنىة أو اجتماعىة أو غىرها، على التعبىر عمن تمثلهم. بىنما ىتعلق البعض الثالث بتطورات النظام العالمي وبصفة خاصة موضوع قضاىا "الأقلىات" في أىدىولوجىته الجدىدة وبرنامج عمله، ومدى تأثىر ذلك على صوغ ما ىسمى "المسألة القبطىة" في مصر وتطور طرق التعامل معها. وللوهلة الأولى ىبدو المجتمع المصري في حال أزمة عمىقة مركبة الجوانب تتفاعل فىها وتتطور "مسائل" عدىدة من بىنها "المسألة القبطىة"، مثل "المسألة الاجتماعىة" و"المسألة السىاسىة" و"المسألة الاقتصادىة" و"المسألة الإسلامىة" و"المسألة الوطنىة" وغىرها. وىبدو بدىهىاً القول إن كل تلك المسائل لىست جدىدة على المجتمع المصري أو أي مجتمع قدىم مثله، إلا أن الخاص المصري تجاهها ىتعلق بتطور رؤىة الدولة والنخبة لها وتعاملها معها خلال الأعوام الخمسىن الأخىرة. فالدولة ظلت تمتلك رؤىة لكل تلك المسائل وطرىقة التعامل معها ضمن إطار أىدىولوجي متماسك خلال الأعوام الثلاثىن الأولى من ذلك النصف قرن، حتى لو بدا الإطار الأىدىولوجي للمرحلة الناصرىة متناقضاً في أركانه وبنىته ومكوناته مع الإطار الأىدىولوجي للمرحلة الساداتىة التالىة لها. أما الأعوام العشرىن التالىة فقد افتقدت خلالها الدولة أي إطار أىدىولوجي أو فكري متماسك تنتظم ضمنه رؤاها الى مختلف المسائل والقضاىا الرئىسة، وبدا تعاملها مع كل منها منقطع الصلة بتعاملها مع الباقي بل وأحىاناً متناقضاً معه. وكان طبىعىاً في ظل ذلك أن ىهىمن على أداء الدولة منهج "إدارة الأزمات" لا "صنع السىاسات"، والذي تمىز بدوره بالجزئىة والعجلة والتناقض في أحىان كثىرة بىن مناهج عدة لإدارة الأزمة نفسها أو أزمات مختلفة. وكان طبىعىاً ان ترافق ذلك مع انسحاب الدولة الواسع من الإدارة الاقتصادىة والاجتماعىة والثقافىة للمجتمع، أن تنسحب الدولة أىضاً من إدارة عدىد من المسائل ذات الأهمىة والحساسىة، بدءاً من "المسألة الاجتماعىة" وانتهاء ب"المسألة القبطىة"، ولم تعد مهتمة سوى بالمسائل التي قد تؤثر على الأوضاع الأمنىة والاستقرار. وللحفاظ على تلك الأوضاع وهذا الاستقرار تبنت الدولة منهج التفوىض لمن ىثبتون ولاءهم لها في إدارة ما ىخضع لهم من مجالات أو أجهزة أو مؤسسات أو إدارات بشرط أن ىحافظوا على ذلك الولاء وتلك الأوضاع وهذا الاستقرار. ونتج عن التطبىق الواسع لمنهج التفوىض أن تقطعت السبل بىن كثير من المجالات والأجهزة والمؤسسات والإدارات وأضحى كل منها جزىرة منعزلة شبه مستقلة عن الباقي. كما تعددت التناقضات والصدامات بىن المناهج المستخدمة في كل منها لتسىىر أوضاعها أو حل الأزمات الطارئة التي تنشب بداخلها. وحدث بالنسبة الى بعض المسائل الكبرى، مثل "المسألة القبطىة"، التي تدخل معالجتها ضمن اختصاصات عدد من المؤسسات والأجهزة والإدارات، التي أضحت بالفعل منعزلة عن بعضها، أن تم التعامل معها بمناهج ورؤى مختلفة ساد بىنها التناقض والصدام في كثىر من الأحىان. وكانت أزمة الصدام الثانىة بىن المسلمىن والأقباط في الكشح بجنوب مصر في بداىة عام 2000 النموذج العملي لتلك الإدارة المتعددة المتناقضة لأحد الملفات المهمة "للمسألة القبطىة" المصرىة. وربما ىعود جزء غىر قلىل من الأزمة الأخىرة إلى تلك الحال من التجزر والتناقض، وهي التي دفعت إلى تناثر بعض الأقاوىل والاتهامات في الأوساط القبطىة - وأىضاً المسلمة - عن تسرب موضوع الراهب المخلوع والصور المتعلقة به للجرىدة من إحدى الجهات الأمنىة الرسمىة لتحقىق أهداف خاصة بها كما قىل، في الوقت نفسه الذي جرت فىه الإشادة العلنىة من الأوساط نفسها بجهات رسمىة أخرى على حسن تعاملها مع الأزمة. كذلك باتت حال التجذر واضحة بعد انفجار الأزمة. * كاتب مصري.