نخطئ كثيراً إذا ما طوينا صفحة أحداث "الفتنة" التي أطلت برأسها في مصر طيلة الاسبوعين الماضيين، وإذا ما تجاوزناها باعتبارها سحابة كدر وانقشعت. ذلك أنني أزعم بأن تلك الأحداث بما شابها من ملابسات وما كشفت عنه من مثالب وعورات، تمثل محطة مهمة في مسيرة الوطن، يتعين الوقوف عندها ملياً، والتعامل معها بأعلى درجات الصدق والمسئولية. (1) لا أحد يكاد يصدق أن مصر كلها، بطولها وعرضها وعمقها، اهتزت وتوترت طيلة اسبوعين على الأقل، بسبب شائعتين مكذوبتين، الأولى ادعت أن رجال الأمن في محافظة البحيرة اختطفوا زوجة كاهن لادخالها في الإسلام، والثانية أن الزوجة أقامت علاقة خاصة مع رئيسها في العمل، وهو مسلم، مهما أغراها بالتحول عن دينها، فاختطفها الرجل وأخفاها بعيداً عن أسرتها. سرت الشائعتان في أوساط أقباط مصر سريان النار في الهشيم، وتلقفهما نفر من أقباط الخارج، وكان لهما صدى مثير اتسم بالاحتجاج والغضب، الذي عبر عن نفسه بصور شتى، تراوحت بين التظاهرات والهتافات التي شهدتها بعض الكنائس الرئيسية في القاهرة، وبين الاشتباك مع رجال الأمن ورشقهم بالحجارة، مما أدى إلى إصابة 62 ضابطاً وشرطياً ونقلهم إلى المستشفيات. لم يخل الأمر من أصداء في الخارج، تولاها المتربصون والمتصيدون الذين زادوا النار اشتعالاً، وراحوا يستثيرون الحكومة الأمريكية والمنظمات الدولية، مطالبين اياهم بالتدخل لإنقاذ أقباط مصر من "القهر" والإبادة! وإذ تخللت التظاهرات في داخل مصر هتافات ونداءات بعضها كان جارحاً لمشاعر المسلمين، والبعض الآخر تطاول على هيبة الدولة والنظام. إلا أن ذلك فهم بحسبانه من تجليات الغضب غير المنضبط الذي استبد بالجميع، والذي أججه بعض المتعصبين والمتطرفين داخل الكنيسة وخارجها. ولكن أكثر ما أجج المشاعر ورفع من درجة التوتر أن بطريرك الأقباط، البابا شنودة، انضم بدوره إلى الغاضبين، وامتنع عن إلقاء "موعظة الاربعاء" (8/12)، حين كانت الحشود التي جاءت من كل صوب بانتظاره في مقر البطريركية، لتسمع منه كلمة تهدئ الروع وتسكن الخواطر، وخرج من باب خلفي متجهاً إلى دير وادي النطرون في صحراء مصر، معلناً الاعتكاف هناك، ومعبراً عن الاحتجاج بطريقته الصامتة والصاخبة. وحين ذاع الخبر بين رواد الكنيسة المنتظرين، تضاعف الغضب وتحول عند بعض الشباب إلى ثورة جامحة انفلت عيارها على النحو الذي قدمت. لقد اجتمعت في المشهد مختلف عناصر الإثارة. فموضوعها ليس امرأة عادية، وإنما هي زوجة كاهن من رموز الكنيسة. كما أن ما شاع عن كيفية تحولها عن دينها بدا مستفزاً، فالأمن أقحم طرفاً فيه، أو أن رئيسها المسلم أغراها، وفي المسألة اختطاف واختفاء، اتهمت فيه أجهزة الأمن بالتواطؤ والتستر. وفي غيبة المعلومات الصحيحة لما جرى، كانت كل ظروف إشعال الحريق مواتية. (2) الحقيقة أعلنها بيان النائب العام، الذي نشرته صحف الجمعة الماضي 17/12. وكانت مجلة "المصور" في عدد 16/12 قد سبقت بتجلية الأمر، وكذلك العدد الأخير من صحيفة "الاسبوع" (19/12). البيان الرسمي جاء قاطعاً في تكذيب الشائعتين، حيث تبين أنه لم يكن هناك إكراه ولا اختطاف ولا علاقة عاطفية أو غير عاطفية، وأن السيدة وفاء قسطنطين زوجة الكاهن، اختارت طواعية أن تدخل في الإسلام، وأن كل الضجة التي حدثت لم يكن لها ما يبررها، من التظاهرات الغاضبة إلى اعتكاف البابا شنودة في الدير. ورغم وضوح الحقائق الأساسية للقضية إلا أن ثمة هوامش تكمل الصورة وتجلي بعضاً من جوانبها التي جرى إغفالها لسبب أو آخر، كما أن ثمة إشارات في المشهد ينبغي الوقوف عندها واستلام رسائلها. في إطار الهوامش أضيف إلى ما ذكر المعلومات التالية، التي استقيتها من الجهات التي باشرت الموضوع من أوله إلى آخره: @ إن السيدة وفاء قسطنطين البالغة من العمر 46 عاماً، وتعمل مهندسة زراعية (متخرجة منذ عام 1980)، مشهود لها بالكفاءة العالية ودماثة الخلق والمثالية في العلاقات والتصرفات. وطوال سنوات عملها حظيت بتقدير ومحبة الجميع، كما أنها بادلت من حولها المشاعر ذاتها. وهذا ما أجمع عليه زملاؤها في العمل. @ إن فكرة تحولها إلى الإسلام خطرت لها منذ سنة ونصف السنة على الأقل، وبدأت حين تابعت إحدى الحلقات التليفزيونية التي تحدث فيها الدكتور زغلول النجار عن الإعجاز العلمي في القرآن. وقد شجعها ما سمعت منه ومن غيره على التمعن في الموضوع والتوسع فيه. فقرأت كتباً عدة وسعت من معارفها وجذبتها إلى التعاليم الإسلامية، فتقدمت خطوات أبعد، حيث حفظت سبعاً من سور القرآن الطويلة، كما حفظت جزء "عم" كله (تلت بعضاً مما حفظته على مسامع من سألوها)، كما صامت الأيام الستة البيض، والتزمت قدر الإمكان بأداء الصلوات الخمس اليومية. @ رعت السيدة وفاء زوجها قس "أبو المطامير"، الذي قطعت رجله بسبب تفاقم إصابته بمرض السكر، إلى أن استقرت حالته، ووجدت أن ثمة صعوبة في الجمع بين وضعها كزوجة للكاهن، وبين اقتناعها بالتحول إلى الإسلام، فقررت أن تلتحق بأسرة مسلمة في حي السلام بالقاهرة، ارتبطت منذ أيام الدراسة بعلاقة صداقة حميمة مع إحدى بناتها. وقبل ثلاثة أشهر من مغادرتها لبيت زوجها في "أبو المطامير" هيأت ابنتها "شيرين" المتخرجة من كلية العلوم لإدارة البيت في غيابها. ودونت لها في دفترا خاصا ما يتعين عليها عمله لكي لا يختل شيء في وضع البيت. @ بعدما رتبت أمر بيتها بصورة نسبية، لجأت السيدة وفاء إلى أسرة صديقتها في القاهرة، وفي اليوم الأول من الشهر الحالي ذهبت مرتدية الحجاب بصحبة صديقتها وزميلتها القديمة إلى قسم الشرطة في الحي طالبة إشهار إسلامها. وحين استمع الضابط المختص إلى قصتها، وعرف أنها زوجة لكاهن، أدرك أن للأمر حساسية خاصة، فلم يشأ أن يستمر في الإجراءات الروتينية المتبعة في مثل هذه الحالة، وأبلغ رئاسته بالموقف. @ الإجراء المتبع في هذه الحالة، الذي تنص عليه التعليمات الإدارية، ألا يتم تسجيل إشهار تغيير الدين، إلا إذا رتب للشخص المتحول جلسة أو أكثر مع بعض رجال الدين الذي ينتمي إليه، معروفة باسم جلسات "إسداء النصيحة"، يحاولون فيها تبصيره وإثناءه عن عزمه. وإذا ما أصر على موقفه كان له ما أراد. وبناء على ذلك تم إخطار مطران البحيرة برغبة السيدة وفاء، مع دعوته لإيفاد من يشاء لإجراء لقاء إسداء النصح لها. @ كانت تلك بداية مشكلة نشأت بين مطران البحيرة وبين جهاز الأمن. فقد رفض المطران فكرة عقد جلسة أو جلسات إسداء النصح، وطلب تسليم السيدة وفاء للكنيسة الارثوذوكسية. في حين أن جهاز الأمن كان ملتزماً بالتعليمات الإدارية، ولم يكن مخولاً في تجاوزها. واستمر هذا التجاذب خمسة أيام، في الفترة من 3 إلى 8/12. وهي الفترة التي انتشرت فيها الشائعات واتهم جهاز الأمن بخطف السيدة والتستر عليها، كما اتهم من جانب البعض بتعمد تعويق تسليمها إلى الكنيسة، في حين أن مسئوليه لم يفعلوا أكثر من التزامهم بالتعليمات الصادرة في الموضوع. @ في هذه الاثناء رتبت بعض قيادات الكنيسة الارثوذوكسية التظاهرة التي حدثت أثناء القداس الذي أقيم بمناسبة وفاة الزميل سعيد سنبل، وجرى استدعاء عناصر متعددة من مختلف أنحاء البلاد. وفي حضور عدد من كبار المسئولين عبرت الحشود عن غضبها ورفعت لافتات الاحتجاج وبدا أن الموقف موشك على الانفلات أو الانفجار. @ حين نقلت هذه الصورة إلى القيادة السياسية، صدرت التعليمات بتسليم السيدة وفاء إلى الكنيسة. وتم الاتفاق على إيداعها في بيت بضاحية عين شمس بالقاهرة، مخصص لإقامة السيدات اللاتي يجري إعدادهن للانخراط في سلك الرهبنة (المكرسات). وكان ظنها أنها ذاهبة لكي تشهد جلسات "إسداء النصح"، ولذلك استغرق الأمر بعض الوقت لاقناعها بأخذ حوائجها والانتقال إلى بيت عين شمس (ذكرت صحيفة الاسبوع في 19/12 أنها كانت صائمة في ذلك اليوم، وطلبت تأجيل الموعد لحين الإفطار واداء صلاة المغرب). @ مساء يوم 8/12 خرجت السيدة وفاء من مقر اقامتها مرتدية حجابها، وسلمت إلى بيت "المكرسات" في ضاحية عين شمس الذي أغلقت أبوابه ونوافذه. وانقطعت صلة الأجهزة المختصة بها، التي اقتصر دورها على حراسة البيت من الخارج، في حين ظل كبار رجال الكنيسة يترددون عليه طول الوقت. وبعد ظهر يوم 14/12، بعد ستة أيام خرجت السيدة وفاء من البيت مرتدية غطاء الرأس (إيشارب) عليه صورة السيدة العذراء، في حين تدلى على صدرها صليب كبير. حيث حملتها سيارة سوداء إلى مقر نيابة عين شمس، مصحوبة ببعض المحامين الأقباط وعدد من القسس. وأمام وكيل النيابة، وخلال أربع دقائق قالت السيدة وفاء بصوت خفيض أنها ولدت مسيحية وعاشت وسوف تموت مسيحية. وهو ما اعتبر من الناحية القانونية عدولاً من جانبها عن طلب إشهار إسلامها. وعند هذا الحد انتهى دور أجهزة الأمن، وحملت السيدة في سيارة اتجهت بها إلى دير وادي النطرون، ومن ثم أسدل الستار على هذا الفصل من القصة. (3) الملابسات والأصداء أهم من الواقعة وأخطر. فتحول امرأة أو رجل عن دينه أمر لم يعد مستغرباً، بل صار واردا في هذا الزمان. ولدى الجهات المختصة في مصر قائمة بحالات عديدة كانت في مثل حساسية موضوع السيدة وفاء، تمت معالجتها في هدوء، وبغير خسائر تذكر. وحين وقعت على بعض تلك الحالات استوقفني أمران، أولهما أنه حدث تسرع غير مألوف في نقل القضية إلى الرأي العام في الداخل والخارج، فضلاً عن أن ذلك تم بصورة مشوهة ومستفزة، وثانيهما أن ردود الأفعال اعتمدت أسلوب التصعيد والصدام ولي الذراع. وذلك يعد تطوراً نوعياً يثير عددا من التساؤلات حول حقيقة دور الكنيسة، وما إذا كانت تمثل قيادة روحية أم قيادة سياسية. وتمتد تلك التساؤلات لتشمل طبيعة علاقة الكنيسة بالدولة، وحدود التزاماتها بالقانون والنظام العام. هذه ملاحظة أولى على المشهد. الملاحظة الثانية أن ما جرى كان في شق كبير منه نتيجة غياب المعلومات الصحيحة عن الرأي العام. ومن أسف أن الإعلام المصري فشل في الاختبار، وعجز عن تقديم تلك المعلومات الصحيحة للناس في الوقت المناسب. فالإعلام الرسمي المتمثل في التليفزيون والإذاعة، وكذلك الصحف القومية إما تجاهلت الموضوع في بدايته أو عالجته بابتسار شديد. أما الصحف المستقلة والمعارضة، فقد عنى بعضها بالإثارة (العنوان الرئيسي لصحيفة صوت الأمة في 12/12 كان عن استغاثة أقباط المهجر بشارون لإنقاذ أقباط مصر من الإضطهاد) كما أسهم البعض الآخر في التحريض والتهييج (كان ذلك موقف صحيفة الأهالي، فعناوين العدد الصادر في 15/12 لم تكتف باستثارة الأقباط وإنما حملت أجهزة الأمن مسئولية ما جرى وادعت أن تلك الأجهزة عطلت تنفيذ توجيهات الرئيس بحل المشكلة. وأن وزير الداخلية تهرب من الحديث في الموضوع). الملاحظة الثالثة أن المجتمع بدوره رسب في الاختبار. ذلك أننا طوال الفترة التي ظهرت فيها المشكلة على السطح، في الفترة من أول ديسمبر إلى 14 منه، كان طرفا الموضوع هما الكنيسة الارثوذوكسية ووزارة الداخلية. ولم نسمع صوتاً لأي مؤسسة أخرى في المجتمع، لا الأزهر ولا الاحزاب ولا منظمات المجتمع المدني المعنية بحقوق الإنسان. حتى عقلاء الأقباط التزموا الصمت واكتفوا بمشاهدة "المباراة" من مقاعد المتفرجين. وإزاء ذلك فإنني أزعم أن الحدث كان بمثابة لحظة كاشفة، فاجأتنا بحقيقة الفراغ السياسي الكبير الذي تعيشه مصر، والذي وجدت "الداخلية" نفسها مضطرة إلى ملئه كيفما اتفق. ملاحظتي الرابعة أن حالة الغضب المبالغ فيها التي عبر عنها الأقباط المتظاهرون - لاحظ أنهم توجهوا إلى الكنيسة وليس إلى أي من مؤسسات الدولة - تدل على أن ثمة احتقاناً متراكماً يتعين الاعتراف بوجوده، وتحري أسبابه وجذوره، كما ينبغي التعامل معه بكل جدية ومسئولية، لأن التأجيل من شأنه أن يكرر مثل الأزمة التي مررنا بها، فضلاً عن أنه يفسح المجال للمتطرفين والمتعصبين لكي يكونوا أصحاب الصوت الأعلى في الساحة. (4) ما العمل؟ - لست الأقدر على إجابة السؤال، لكني اقترح مدخلين للتعامل مع الموضوع، أولهما يدعو إلى عدم السماح للمتعصبين والمتطرفين والعناصر المشبوهة في الداخل أو الخارج بخطف الملف والحديث باسمه. وذلك لن يحدث إلا إذا تقدم الصفوف العقلاء الغيورون على مصالح الوطن وكرامة أهله، واثبتوا حضوراً في مشهد الحل. وثانيهما أن يرصد الاحتقان في الساحة المصرية كلها، وليس لدى فئة دون أخرى، حتى إذا ما ثبت أن الاحتقان في الساحة القبطية فرع عن أصل في مجمل الشارع المصري، فربما نبهنا ذلك إلى أننا بصدد أزمة مجتمع لا أزمة فئة بذاتها فيه. ولربما بدا الحل الديمقراطي لأزمة المجتمع، الذي يجعل الجميع شركاء في صناعة حاضره ومستقبله، باباً للتعامل مع الأصل، الأمر الذي يعالج ما تفرع عنه، فيستأصل الاحتقان فيه أو يخفف من حدته. يتداول بعض المثقفين المصريين اقتراحاً يتحدث عن لجنة للحكماء يمثل فيها الطرفان، وتتولى معالجة المشكلات العارضة التي تنشأ بين الحين والآخر. وهو اقتراح لا أجد له مبرراً لأن الأمر أكبر من أن تتصدى له لجنة اهلية. فضلاً عن أن في مصر مجلساً قومياً لحقوق الانسان، يضم نخبة طيبة من أهل الخبرة والثقة، وبه شعبة مختصة بالحقوق المدنية، تستطيع أن تنهض بما يراد للجنة المقترحة أن تقوم به. علماً بأن المشكلة في بعض جوانبها ليست في مجرد تقدير الحقوق وإنما تكمن في قوة مؤسسة الدولة ومدى هيبتها، وفي استعداد الأطراف المختلفة لاحترام النظام العام والانصياع للقانون، كما أنها تكمن في غيبة المشروع السياسي الذي يستنهض همم الجميع ويصهرها في بوتقة الوطن، لكي يوظفها لصالح حلم النهضة والتقدم المشترك.