لن نغرق في بحيرة السياسة اليومية ذات المزاج المتقلب، إذا ما اعترفنا بأن الحياة الثقافية في كل من سورية ولبنان هي واحدة في تحققها الكلي. اللغة والجغرافيا والتاريخ والاقتصاد، كانت المهد الذي نمت فيه الثقافة بأنواعها المختلفة لتعبر عن مزاج متشابه بل مشترك في معظم الأحايين. وبعيداً من وضوح التوحد في الثقافة الشعبية لهما في طرق التفكير والفنون المعبرة عن حيوية الأفراد والجماعات وأساليب الانتاج، فإن النشاط الثقافي الذي يتجلى في الآداب والفنون التشكيلية والموسيقية، والتي تفاعلت أساليبها وقوانينها مع السلوك الحضاري للثقافة البشرية، يؤكد على كثير من التماثل بين منتجي الثقافة في كل من الكيانين السياسيين اللذين تمازجا ليصبحا وكأنهما زخرفة واحدة في واجهة الثقافة الانسانية. وسنكتشف في البؤر المنتشرة في أنحاء العالم وهي تجمع المهاجرين من سورية ولبنان، أن نوعاً من التطابق في تعبيرهما عن الثقافة الشامية في أشكالها المختلفة، يؤكد على الوحدة الروحية وتشابك الجذور الثقافية التي ضربت في عمق التماثل الجغرافي. وفي شكل غير منظور للتركيب الثقافي يمكن اعتبار تقارب اللهجات في كل من البلدين عاملاً في اعطاء التوصيل أهمية بالغة في تمازج الثقافتين الذي يؤدي الى نوع من الثقافة الواحدة. وإضافة الى تشابه المنتج الثقافي في كل منهما، فإن الحاجة الى اتفاقيات ثقافية لم تكن أمراً ملحاً في التاريخ القصير للبلدين، فكانت على مداره تعبيراً عن التفاعل لا عن العلاقات الرسمية التي ترسم عادة بين الحدود الثقافية لتخلق تفاهماً وتقارباً، لأن الثقافة واحدة في شكل حقيقي وفاعل. أي ان ما يسمى بالتقاليد الدولية في العلاقات الثقافية يمكن اعتباره بامتياز وحدة ثقافية متفاعلة، وذلك هو الواقع الذي نتلمّسه في شواهد كثيرة. في الشعر على سبيل المثال فقد تجلّت عظمة الكلاسيكي منه في نموذج كسعيد عقل اللبناني وفي نموذج عمر أبو ريشة وبدوي الجبل السوريين، كما ان الحداثة التي مثلتها مدرسة مجلة "شعر اللبنانية كان يشارك فيها شعراء من سورية كأدونيس ومحمد الماغوط. ونلمس التشابه في الشعر الشعبي في كلا البلدين، كما اهتزت نفوس أهل سورية للرحابنة وفيروز وكذلك لوديع الصافي وماجدة الرومي وغيرهم بقدر ما تمايل الناس في لبنان مع صباح فخري وأصوات أخرى حملت عبء التمثيل الشرعي للوجدان الغنائي في المنطقة بأسرها. وتماثل انفجار الحداثة في الفن التشكيلي عند فنانين لبنانيين كبول غيراغوسيان يقابله من الفنانين السوريين فاتح المدرّس، فكأنما هناك توقيت متزامن للتطور الفني في كلا البلدين. ولا ينكر أن قياس معدل المثاقفة مع العالم عند السوري واللبناني يكاد يكون في تقاربه تطابقاً في الظروف المهيئة للنمو الثقافي، فالانفتاح على الثقافة العالمية دليلالى رحابة صدر الثقافة الواحدة في وقوفها من المخزون الحضاري المتراكم على الأرض المشتركة. وتدل الظواهر الاجتماعية الأساسية في الحكم على الثقافة العامة لكل من البلدين الى أن الكثير من العادات والتقاليد وطرائق المعيشة، تنبع من ظروف متماثلة تمهد الطريق أمام المزيد من التقارب في العقل الثقافي الذي لا بد من الاختلاف في مفاصل عدة منه كدليل الى الحيوية الاجتماعية، التي أثبت التاريخ الضارب في العمق انه يساعد على التقارب في الوقت الذي يقف وراء التميز والتفرد، لذا فإن خروقاً تقوم بين أفعال ثقافية في البلدين لا يمكن أن تشير بأي حال من الأحوال الى اختلافات جوهرية، فكما يحدث في التباين القائم بين ثقافة الجنوب وثقافة الجبل في لبنان، فإن تبايناً يحدث بين ثقافة المدن الكبرى وثقافة المناطق الزراعية الواسعة في سورية، وهكذا هي النظرة الى الفروق بين عوامل ومنتجات الثقافة في كل من البلدين، فإن التباين هو التوافق والعكس هو الصحيح أيضاً. وتقود التعددية التي تسم الحياة الاجتماعية بأبعادها السياسية والثقافية في كل من سورية ولبنان الى تبيّن الجوهر الثقافي فيهما، والذي يؤكد على التماثل في عملية فهم كل من الثقافتين لمعنى التمثيل الواسع الأفق لظاهرة التعددية فيهما، والتي أغنت، على مرّ المراحل التاريخية، بنية الحياة الثقافية. فكأن قدر الجغرافيا - التاريخية للمنطقة الممتدة من شواطئ البحر الى عمق البادية هو الطيف اللوني المتدرج والمتناسق لثقافة المنطقة، وكأن هذا الطيف اللوني هو الراية الواحدة للثقافة المتعددة الألوان. وواقع الحياة الثقافية السورية في مثل هذا الادراك لأرضية وبنية وطموح الثقافة، هو على ما يبدو تأكيد على التوأمة مع واقع الحياة الثقافية اللبنانية. وهما تعبيران عن ثقافة غنية متفاعلة منفتحة تتجاوز بآلية خلفيتها التاريخية البانورامية أيّ احتمال في الانغلاق على نفسها. ومن ذلك فإن آفاق المستقبل تمنح الفرصة لرؤية المزيد من التفاعل الذي يؤكد على استمرار التمازج الذي يؤدي الى تطور أفضل، خصوصاً في ردمه احتمالات التباين في بعض من الأفعال الثقافية على مستوى المشاركة الوجدانية والحياتية. وفي ظني ان الاستقرار السياسي الذي سيتمثل أكثر ما يتمثل في وضع حدٍّ للعدوان الخارجي على كل من الدولتين. سيعزز الفرصة في خلق بحيرة من استمرار التفاعل الثقافي الحر والذي يبشر بقدرة ثقافة المنطقة على مشاركة أوسع في ساحة الثقافة العالمية. * كاتب سوري.