عندما سئل أدونيس مرّة، في منتصف الحرب اللبنانية، عن ازدواجية انتمائه السوري - اللبناني قال من غير تردد: "لا أستطيع أن أكون لبنانياً ولا أستطيع إلا أن أكون لبنانياً". لم يشعر أدونيس حينذاك بأي حرج حيال هذه الازدواجية الملتبسة أو هذا التناقض في الانتماء، فهو لبناني ولكن من غير أن يكون لبنانياً، بل هو لبناني وسوري في الحين عينه. قد تكون هذه الجملة خير مدخل لقراءة هذه الازدواجية التي عاشها الشعراء السوريون الذين حصلوا على الجنسية اللبنانية من دون أن يتخلوا عن انتمائهم الأول. أما الشعراء السوريون الآخرون الذين "تلبننوا" نهائياً وفي طليعتهم يوسف الخال فلم يكونوا معنيين بهذه المسألة الشائكة. فهم أضحوا لبنانيين أكثر من اللبنانيين أنفسهم وباتت جذورهم السورية في عداد "الذكريات" القديمة. كان من البديهي أن يهاجر الشعراء من دمشق الى بيروت وليس العكس وخصوصاً في الخمسينات عندما شهدت العاصمة السورية الكثير من الاضطهادات السياسية والفكرية. كانت بيروت تستعد لدخول زمن الحداثة العربية مهيّئة نفسها لتكون مختبراً ثقافياً وفكرياً وسياسياً. وسرعان ما جذبت الكثيرين من المثقفين العرب، مفكرين وشعراء وفنانين، جاؤوا اليها بحثاً عن فسحة حرّة وهرباً من الحصار المضروب على مدنهم. ولم يتوان بعض هؤلاء عن المشاركة الحقيقية في صنع صورة بيروت الستينات: بيروت - الحرية، بيروت - الحداثة، بيروت - الثورة، بيروت - الحلم. لم يبالغ أدونيس في وصف بيروت، عندما وصل اليها في العام 1956، ب"نهاية الكون" و"هامش الحرية" كما يعبّر. بعض الشعراء السوريين كانوا يحلمون بها كما لو أنهم يحلمون بمدينة مستحيلة وربما بامرأة مستحيلة. جاء أدونيس وزوجته الناقدة خالدة السعيد الى بيروت في 1956 وبعد قرابة عام حصلا على الجنسية اللبنانية. كانت شهرة أدونيس كشاعر سوري قومي سبقته الى الأوساط الأدبية ومهّدت الطريق أمامه ليدخل "عالم" بيروت من الباب الواسع. نزار قباني "هاجر" الى بيروت بعد زهاء عشر سنوات في العام 1966 وسرعان ما رسّخ نفسه كأيّ لبناني، مؤسساً الدار التي حملت اسمه. وقد أصرّ أن تكون الدار في بيروت التي "لا بديل لها" كما يقول. أما علاقة محمد الماغوط بهذه المدينة فتختلف وقد تشبه علاقة عمر أبي ريشة بها على رغم تباين التجربتين نفسهما. لم يكن محمد الماغوط معنياً بأن يصبح لبنانياً ولا سورياً - لبنانياً. علماً ان السنوات التي عاشها في بيروت و"ولادته" الشعرية في بيروت كانتا كافيتين لأن تسمه بالنزعة اللبنانية. وكانت هذه المدينة استقبلته في "خميس" مجلة "شعر" استقبال شاعر كبير وهامشي في آن. فعندما قدّمه أدونيس في 1958 قارئاً بعضاً من شعره ظن الجمهور أن أدونيس يقرأ من قصائد شاعر غربي مكرّس. لكن أدونيس، كما تكتب سنية صالح، "لم يلبث أن أشار الى شاب مجهول، غير أنيق، أشعث الشعر وقال: هذا هو الشاعر". هذه الصورة ستظل ترافق محمد الماغوط "الصعلوك الأبدي" الساخر والمتمرّد الذي لم يتوان عن انتقاد السلطة وعن هجاء دمشق دمشق الآخرين لا مدينته مسمياً إياها ب: "عربة السبايا الوردية". أصرّ الماغوط على سوريته إذاً وكانت بيروت مدينته وشاءها أن تظل هكذا. وشاء هو بدوره أن يكون "صعلوكاً" بيروتياً يحب لبنان "أكثر من التبغ والقصائد" كما يقول. ويجمع بين مصير لبنان ومصيره الشخصي قائلاً في احدى القصائد: "اذا صرعوك يا لبنان/ وانتهت ليالي الشعر والتسكّع/ سأطلق الرصاص على حنجرتي". ولعل الماغوط هو الشاعر السوري الوحيد الذي أحب لبنان حباً مجانياً. صحيح ان بيروت تبنّته كشاعر قصيدة نثر وأطلقته عربياً وطبعت دواوينه الشهيرة ومنحته جائزة قصيدة النثر، لكنه كان واضحاً تمام الوضوح في علاقته العاطفية بها، بعيداً من أي التباس أو أي نزعة أوديبية. الشعراء الآخرون الذين عاشوا في بيروت وكانوا سوريين ولبنانيين وجدوا في بيروت ما وجد فيها أدونيس، مدينة الحرية والحوار، مدينة الحداثة والحلم، مدينة الفرد والجماعة، مدينة الأفكار الكبيرة والقضايا الكبيرة، مدينة الغرباء الأهليين، مدينة عربية بامتياز. عمر أبو ريشة، نذير العظمة، رياض نجيب الريّس، كمال خير بك ولاحقاً سليم بركات ونوري الجراح وسواهما من جيلي السبعينات والثمانينات... ولاحقاً أيضاً جيل من الشعراء الشبان جاؤوا ويجيئون دوماً الى بيروت حاملين قصائدهم ودواوينهم باحثين في بيروت عن زاوية أو منبر أو دار... كانت بيروت وما برحت قبلة الشعراء السوريين على اختلاف أجيالهم. هذا الأمر يختلف مع الروائيين والرسامين وسواهم. فالازدواجية السورية - اللبنانية لم تتجلّ تجلّيها الحقيقي والعميق إلا عبر الشعر والشعراء. كان الشعر هو الجهة المعزولة أو الخالية التي استطاع الشعراء أن يحققوا عبرها انتماءهم المرجو أو "لا انتماءهم" ربما، وأن يعيشوا بحرية ويكتبوا بحرية. لا كلام هنا عن وحدة سورية - لبنانية ولا عن مصير مشترك أو ثقافة واحدة. بل حوار وعطاء متبادل وانتماء الى الحرية. جاء أدونيس الى بيروت ليشهد ولادته الثانية أي ولادته الشعرية كما يعبّر وليظل ذلك الشاعر السوري ولكن بروح لبنانية وشغف لبناني. محمد الماغوط الذي حقق في لبنان مشروعه الشعري حمل معه لبنان عندما عاد الى دمشق ليقيم فيها كمدينة نهائية. نذير العظمة انطلق انطلاقته الفعلية من بيروت ومن مجلة "شعر" تحديداً ثم هاجر. نزار قباني لم يغادر بيروت إلا قسراً. عمر أبو ريشة الذي درس في بيروت وطبع فيها ديوانه الكامل ظلّ يشعر حتى لحظاته الأخيرة ان هذه المدينة مدينته. رياض نجيب الريس الذي هجر الشعر الى الصحافة والنشر أسس في بيروت شركته وجائزة حملت اسم يوسف الخال لم تلبث أن احتجبت. سليم بركات وجد في بيروت الفرصة الملائمة لتحقيق مشروعه الشعري والسياسي الخاص جداً. ونوري الجراح جعل من بيروت منطلقاً شعرياً الى منفاه الكبير. الشعراء السوريون هم الذين يجيئون الى لبنان كما لو أنه وطنهم الثاني. هذا الشعور كان سارياً في الخمسينات والستينات. ولم يكن يحسّ الشاعر السوري انه غريب في مدينة غريبة. وإذا عدنا الى مجلة "شعر" التي أسسها الشاعر يوسف الخال في بيروت شتاء 1957 لم يرد اسم ادونيس كسكرتير للتحرير إلا بدءاً من العدد الرابع نجد أنها كانت مشرعة منذ العدد الأول على الأسماء العربية. وقد وسمت بالنزعة السورية القومية تبعاً لانتماء يوسف الخال وأدونيس الى الحزب السوري القومي. إلا أن يوسف الخال كان أُخرج من الحزب في العام 1947 وكانت نزعته اللبنانية الحضارية بدأت تعتمل فيه ولكن من غير أن يزول أثر الحزب القومي من نفسه. ولو عدنا الى "شعراء" مجلة شعر وأصدقائها لوجدنا أن معظمهم هم إما من أصل سوري وتلبننوا يوسف الخال، فؤاد رفقه، أو هم لبنانيون - سوريون أدونيس، خالدة سعيد، أو سوريون لبنانيو الاقامة والهوى نذير العظمة، محمد الماغوط.... لكن مجلة "شعر" كانت لبنانية بامتياز، لبنانية في المعنى الجوهري الذي تفترضه "الحال" اللبنانية أو "الفكرة" اللبنانية. هذه "الحال" أو "الفكرة" هي التي دفعت أدونيس الى تبني "الهوية" اللبنانية من دون أن يتخلى لحظة عن هويته اللبنانية. وهذه "الفكرة" أىضاً هي التي جعلت أدونيس يخوض معركة "الحداثة" في بيروت جنباً الى جنب مع رفاقه اللبنانيين أنسي الحاج، شوقي أبي شقرا وسواهما وكأنه واحد منهم. الجميع هنا متساوون في انتمائهم الى المعترك الحداثي اللبناني. وإذا كان يوسف الخال "تلبنن" باكراً وتخلى كلياً عن جذوره السورية واعتنق بعدما أخرج من الحزب السوري، "الفكرة اللبنانية"، فإن فؤاد رفقه ظل محافظاً على خيط ولو ضئيل يربطه بجذوره السورية. فهو، بينما كان ينشر قصائده في مجلة "شعر" في العام 1958، كان يؤدي خدمة العلم في الجيش السوري ليحافظ على جنسيته السورية بعدما حصل على الجنسية اللبنانية في منتصف الأربعينات. أما يوسف الخال الذي لم تستهوه أصلاً القومية اللبنانية ولا العربية فوجد في الانتماء اللبناني حال من الخلاص الحضاري: لبنان موئل تأتلف فيه العقلانية والدين المتمثل في نظره بالمسيحية. هذه الفكرة اللبنانية أخذها الخال عن استاذه في الجامعة الاميركية شارل مالك متأثراً بأمثولة اللاهوتي توما الأكويني الذي وفق بين المحبة والعقل. قد يكون من الصعب الكلام عن الازدواجية السورية - اللبنانية في مقام مثل مقام يوسف الخال أو فؤاد رفقه أو حتى محمد الماغوط وسواهم. فالازدواجية الحقيقية تجلّت أفضل تجليّاتها في تجربة شاعرين هما: أدونيس ونزار قباني. فكلاهما كان سورياً بانتماء لبناني ولبنانياً بانتماء سوري. إلا أن نزار امتدح بيروت في شعره جهاراً وسمّاها "ست الدنيا" ورثاها في الحرب داعياً اياها الى النهوض من كبوتها. أما أدونيس فكتب عن بيروتولبنان شعراً هادئاً وغير منفعل مستعيداً رموز التاريخ والحضارة. واللافت أن الشاعرين لن يتخليا شعرياً عن جذورهما ولا عن المعنى الذي تفصح عنه دمشق "الأخرى" على رغم انتمائهما الواضح الى المدرسة اللبنانية. نزار قباني يعترف بصراحة أن الشعراء اللبنانيين النهضويين هم الذين أثروا فيه شعرياً أمين نخلة، الياس أبو شبكة، صلاح لبكي، سعيد عقل وسواهم وأن بيروت هي التي حرضته على كتابة الشعر وعلّمته القراءة والكتابة. أما أدونيس فيسمّي بيروت "مدينة البدايات" في مقابل تسميته دمشق "مدينة النهايات". ويعتبر أن لا هوية مسبقة لمدينة بيروت، فمن يدخلها يشعر انه يدخل أفقاً مفتوحاً. ويقول انها كانت تتيح لكل جماعة أو لكل شخص إمكان أن يصنع هويته باستمرار بينما هو يصنع فكره ويعمل. أما دمشق في نظره فهي "المدنية المكتملة والمنتهية". إنها "تنويع على أساسين راسخين: السياسة والتجارة". انها مدينة "مطمئنة ووادعة" و"من غير الممكن أن يحدث فيها انفجار ما، أدبياً كان أم فكرياً أم سياسياً". لكنه يعتبر أيضاً أن بيروت "قُتلت في صورتها التي عشنا فيها". ويندد بالحال التي وصلت بيروت اليها بعد الحرب، فالانفتاح بدأ يضيق ليحل محله الانغلاق والطائفية. قد لا يكون مفاجئاً ان يكتب الشعراء السوريون عن لبنانوبيروت أكثر مما كتب ويكتب الشعراء اللبنانيون عن سورية. السبب الرئيس ان بيروت كانت حلم الشعراء السوريين فيما كانت دمشق جزءاً من الماضي في ذاكرة الشعراء اللبنانيين. أما المفاجأة الحقيقية فهي أن يكون الشاعر سعيد عقل في طليعة الشعراء اللبنانيين الذين امتدحوا دمشق وسورية وكتبوا عنهما كما لم يكتب الشعراء السوريون نفسهم. وقصائده السورية التي غنتها فيروز هي أيضاً من أجمل ما يمكن أن يكتب عن دمشق أو الشام وعن سورية وأهلها. إنها المفارقة اللبنانية: شاعر قومي لبناني يناضل ضد الهيمنة السورية على لبنان هو صاحب أجمل ما كُتب عن سورية من قصائد "أصيلة". غير ان سعيد عقل لن يكون وحده في هذا المضمار. فالشاعر جوزف حرب استحال في الآونة الأخيرة الى شاعر مناسبات في سورية وكذلك طلال حيدر وعصام العبدالله وسواهم. وهؤلاء اعتلوا المنابر السورية في حفلات رثاء أو تأبين أو مديح. وهؤلاء يمثلون نموذجاً عن الشعراء اللبنانيين الذين كسروا القاعدة وذهبوا الى سورية ولكن طبعاً لا ليقيموا فيها أو يتجنّسوا. الطرفة الوحيدة التي يتندّر بها أهل الشعر والأدب في سورية، جاعلين منها مأخذاً على الشعراء اللبنانيين، هي ظاهرة الشاعر فوزي المعلوف الذي عاش سنوات في دمشق وعيّن خلالها أميناً لصندوق دار المعلمين ثم أمين سر المعهد الطبي العربي قبل أن يهاجر الى البرازيل في العام 1921. وإذا كانت مرحلة الستينات هي العصر الذهبي لظاهرة الازدواجية الشعرية السورية - اللبنانية فإن السنوات اللاحقة راحت تخفف من وطأة هذه الظاهرة. وعندما حلّت الحرب اللبنانية استحالت هذه العلاقة الى قضية شائكة ومعقدة تبعاً للصراع السياسي الملتبس الذي ساد العلاقة نفسها. إلا أن "الانقطاع" الذي حصل ظاهراً أخفى وراءه حالاً من التواصل الشعري بين بيروتودمشق. فالأجيال الجديدة في بيروتودمشق أكبت على قراءة أدونيس وأنسي الحاج ومحمد الماغوط وسواهم. وكان لهؤلاء الشعراء آثار واضحة على نتاج أجيال لبنانية وسورية. هذا محمد الماغوط حاضر في القصيدة اللبنانية والسورية الراهنة بشدة. وهذا أنسي الحاج حاضر بدوره روحاً وعصباً في القصيدة السورية واللبنانية الشابة والمتمردة... أما أدونيس فآثاره الشعرية والفكرية هنا وهناك.