لم يعد السؤال المطروح على مراكز صنع القرار الاسرائيلي يدور في تقديري حول درس السبل الكفيلة بتفادي اندلاع حرب جديدة في المنطقة بعد انهيار "عملية السلام"، وانما اصبح يدور حول درس السبل الكفيلة بتبرير شن مثل هذه الحرب وضمان تحقيقها النتائج المرجوة منها. وإذا صحّ هذا التقدير فمعنى ذلك أن "حكومة الوحدة الوطنية" في اسرائيل بقيادة ارييل شارون انتهت فعلاً من مرحلة "دراسة الجدوى" لحرب جديدة تخطط لشنها ضد العرب وبدأت تدخل في مرحلة "الإعداد الفعلي لمسرح العمليات" بعدما خلصت الى أن الحرب باتت هي المخرج الوحيد من المأزق الراهن. وقد يبدو هذا الاستنتاج متسرعاً وأقرب ما يكون الى "الرجم بالغيب"، خصوصاً وأنه لا يستند الى معلومات مؤكدة يصعب على أي حال أن تتاح لباحثين من أمثالنا. ومع ذلك فنحن نعتقد اعتقاداً جازماً بأن أي قراءة واقعية ومدققة لطبيعة المأزق الذي وصلت إليه "عملية التسوية" وبخاصة في ضوء الأفعال وردود الافعال التي بلغت ذروتها العام الماضي، لا بد وأن تتوصل الى مثل هذا الاستنتاج بسهولة. فمن الواضح ان محصلة تفاعلات الصراع العربي - الاسرائيلي خلال العام 2000، وهو العام الذي شكّل خاتمة لقرن شاهد على تطور هذا الصراع منذ بداية انطلاقته الاولى، كانت أفضت الى بروز حدثين كبيرين كشفا حقيقة هذا الصراع مثلما لم تكشفه أي أحداث أخرى من قبل، وما أكثرها! الحدث الأول جسدته أعمال مؤتمر كامب ديفيد الثاني، وهو المؤتمر الذي قدم خلاله رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك عرضاً لتسوية نهائية للقضية الفلسطينية. والحدث الثاني جسده اندلاع انتفاضة الاقصى، وهي الانتفاضة التي جاءت بمثابة رد فلسطيني جماعي رافض لهذا العرض الاسرائيلي. وارتبط الحدثان عضوياً وساهما معاً، وعلى كل الأصعدة والجبهات، في إطلاق سلسلة من ردود الأفعال المتشابكة والتي نجحت في إعادة تذكيرنا بعدد من المسلمات والبديهيات كادت "عملية التسوية" ان تمسحها من ذاكرتنا. في مقدم هذه المسلمات ان الصراع العربي - الاسرائيلي هو فعلاً صراع وجود وليس صراع حدود، وتلك حقيقة يعيها الاسرائيليون ويتصرفون على أساسها بأكثر مما يعيها العرب، للأسف، أو يتصرفون على أساسها. فعلى الصعيد الاسرائيلي اتضح أن الصفقة المقترحة كانت مرفوضة كلياً من جانب قوى وتيارات سياسية اسرائيلية رئيسة سعت على الفور الى إسقاط باراك والخروج من التحالف الذي يقوده حتى قبل ان ينتهي المؤتمر الذي طرحت فيه. ولم يكن لهذا الرفض سوى معنى واحد وهو ان المجتمع الاسرائيلي لم يكن ناضجاً بما يكفي لقبول صفقة سياسية تتم بأي قدر من الجدية، ولذلك بدت احتمالات نجاح باراك في تمرير صفقته اسرائيلياً، بافتراض إمكان تمريرها فلسطينياً، محدودة إن لم تكن معدومة تماماً. ولو كان المجتمع الاسرائيلي جاهزاً ومهيأ وناضجاً لتسوية تستجيب للحد الأدنى من المطالب الفلسطينية، لما تصرف باراك على هذا النحو الأرعن والمتوت، ولكان استطاع ان يبلور صفقته مبكراً، ومنذ اللحظة الاولى لوصوله الى السلطة وأن يطرحها بطريقة توفر لها ما يلزم من وقت ومرونة لضمان استيعابها وهضمها على الساحة الاسرائيلية. فاذا ما وجّهنا بصرنا نحو ساحة الطرف الآخر من الصراع، فسنجد أن الصفقة المعروضة في كامب ديفيد لم تكن من النوع الذي يمكن لأي زعيم مهما بلغت درجة اعتداله ومرونته ان يمررها فلسطينياً أو عربياً أو اسلامياً، وذلك لأسباب كثيرة جداً، ربما كان أهمها على الاطلاق إصرار اسرائيل من ناحية، على مشاركة الفلسطينيين السيادة على الحرم القدسي الشريف، ورفضها من ناحية اخرى، أي حل مقبول لقضية اللاجئين انطلاقاً من القرار 194. ففي ما يتعلق بقضية المسجد الاقصى طرحت اسرائيل مفاهيم غريبة وغير مألوفة من قبيل "السيادة المشتركة" عليه أي سيادة فلسطينية فوق أرض الحرم وسيادة اسرائيلية تحتها أو من قبيل "السيادة لله" أي لا سيادة لأحد فوق أرض الحرم أو تحتها. أما بالنسبة الى قضية اللاجئين الفلسطينيين فقد رفضت اسرائيل الاعتراف بمسؤوليتها أصلاً عن مأساتهم، ولم تبد استعدادها لعودة أي لاجئ إلا في إطار "مفهوم إنساني" محوره لمّ شمل العائلات وليس باعتباره حقاً مقرراً ومعترفاً به. بوسع أي محلل سياسي مبتدئ أن يدرك أنه كان يستحيل على الرئيس ياسر عرفات قبول صفقة من هذا النوع: فموافقته على توطين اللاجئين في مناطق وجودهم تؤلب عليه أكثر من نصف شعبه الفلسطيني الذي يعيش في المنفى على أمل العودة منذ نصف قرن، وموافقته على اقتسام السيادة مع اسرائيل على المسجد الاقصى تعزله عن كل أمته الاسلامية. ولذلك فما ان أيقن عرفات ان الخيار المطروح عليه هو هذه الصفقة أو لا شيء على الاطلاق حتى أدرك على الفور أن عليه أن يعود أدراجه من حيث دفعت به اوسلو، وأن مكانته الحقيقية تبرز حين يكون في طليعة شعبه المنتفض دفاعاً عن حقوقه المشروعة، وليس عندما يجد نفسه محاصراً في غرفة مظلمة بحثاً عن تسوية بخسة وبأي ثمن. غير أن رد الفعل الاسرائيلي على انتفاضة الشعب الفلسطيني المشروعة كان مذهلاً في صلفه، سواء على المستوى الرسمي أو المستوى الشعبي. فبدلاً من أن يبذل الشعب الاسرائيلي وبخاصة اوساط اليسار فيه، جهداً فكرياً إضافياً للتعرف على مأساة الشعب الفلسطيني الأعزل والمقهور وحقيقة مطالبه وتفهم صعوبة موقف ياسر عرفات المغلوب على أمره، وبدلاً من أن يُمنح عرفات وباراك وقتاً إضافياً لإنجاز تسوية بدت أكثر قرباً من أي وقت مضى، راح هذا الشعب يعبر، وبطريقته الخاصة، عن موقفه الرافض لكل ما تمثله الانتفاضة الفلسطينية ويرد عليها بانتفاضة مضادة وغير مشروعة بلغت ذروتها في الانتخابات التي جرت على مقعد رئاسة الوزارة. وفي زخم تلك "الانتفاضة المضادة" قرر الشعب الاسرائيلي منح ثقته بغالبية غير مسبوقة لمجرم الحرب ارييل شارون وتنصيبه في مقعد رئيس الوزراء بينما مكانه الطبيعي هو قفص الاتهام أمام المحاكم الدولية. بعبارة أخرى يمكن القول إن الشعب الاسرائيلي قرر تفويض السفاح شارون بذبح الشعب الفلسطيني وتأديب وترويع كل من يجرؤ على دعمه أو مساندته. وفي سياق هذا الزخم اختفى "معسكر السلام" تماماً وعاد "معسكر الحرب" ليسيطر كلياً على الساحة السياسية في اسرائيل. واللافت ان التحليلات الصادرة عن أكثر الاصوات اعتدالاً في اسرائيل الآن ترى أن فرصة حقيقية للتسوية قد ضاعت، وأن عرفات هو المسؤول الأول عن إهدار هذه الفرصة التي يصعب ان تتكرر في المستقبل، وأن كل الاطراف العربية خصوصاً مصر والسعودية تتحمل بدورها جانباً مهماً من المسؤولية التاريخية لأنها حجبت تأييدها عن ياسر عرفات، أو لم تشجعه، وربما تكون حرضته على رفض الصفقة، أو حتى هددته. أما الاصوات الاخرى "الأقل اعتدالاً" فقد بنت تحليلاتها على مقولات عنصرية سافرة تراوح خطابها بين عودة الى مفردات كانت بدأت تتوارى نسبياً منذ أوسلو، مثل الحض على التعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية بوصفها منظمة ارهابية لا تستحق سوى المطاردة والإبادة، وبين الدفع باتجاه التصعيد العسكري وشن الحرب على الجميع: مواقع السلطة الفلسطينية، كوادر حماس والجهاد وحزب الله، وترويع كل من تسول له نفسه تقديم يد العون الى لبنان أو السلطة الفلسطينية بما في ذلك سورية وايران، ووصل الأمر الى حد توجيه تهديدات سافرة بضرب منشآت مصر الحيوية وعلى رأسها السد العالي. في سياق هذا الهوس الجماعي في اسرائيل أصبح حزب العمل شريكاً في حكومة "وحدة وطنية" يقودها يميني متطرف بحجم شارون، وهي حكومة لا تملك أية خطة، او حتى أية نية، للتسوية. فما يطرحه شارون ليس تسوية نهائية وانما تسوية موقتة طويلة الأمد يمكن ان تتضمن قيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح، مقطعة الاوصال، داخل مساحة لا تتجاوز 56 في المئة من مساحة الضفة وغزة على أقصى تقدير ومن دون القدس. أما موضوع عودة اللاجئين فينصح شارون بأن يسقطه الفلسطينيون كلياً من حسابهم. ومن الواضح ان تسوية كهذه، حتى ولو سميت بالموقتة، لا يمكن ان تمر إلا فوق جثة الشعب الفلسطيني كله. وهكذا وضعت "الانتفاضة المضادة" جميع الاطراف، وعلى رأسها حكومة شارون، أمام معضلة غير قابلة للحل. فهذه الحكومة وعدت شعبها بأن تحقق له كل شيء تقريباً: أمن الدولة وأمن المواطن، مع المحافظة وعدم التفريط في أي شبر من "ارض اسرائيل الكبرى" وخلال مئة يوم فقط. وها هي الآن تجد نفسها عاجزة عن تحقيق أي شيء بعد انقضاء ضعفي هذه المدة. فالانتفاضة الفلسطينية الباسلة لا تزال مستمرة، وقدرة المقاومة الفلسطينية على الرد على الوحشية الاسرائيلية تبدو اقوى من أي وقت مضى. وهذا العجز يعرّض الحكومة الاسرائيلية للتآكل، وبالتالي للتفكك والانهيار التدريجي على المدى الطويل. ومع استمرار هذا الوضع تقترب اللحظة التي يتعين فيها على شارون الاختيار بين طريقين لا ثالث لهما: التفاوض مع عرفات أو فرض حل عسكري يبدأ بإعادة احتلال الضفة. والتفاوض المطروح حالياً لن يكون إلا بشروط عرفات أو على أقل تقدير، بشروط المجتمع الدولي، وليس بشروط شارون على أي حال. وشارون بدأ يدرك الآن أن ائتلافه الحاكم سيتعرض للانهيار بمجرد أن تبدأ مفاوضات يدخلها عرفات صامداً مرفوع الرأس وليس مهزوماً. وفي هذا السياق يمكن فهم الاستنتاج الذي توصلنا اليه وبدأنا به هذا المقال، وفحواه عدم وجود خيار آخر حقيقي أمام شارون سوى التصعيد ومحاولة فرض حل عسكري وبأن حكومة اسرائيل بدأت تعد مسرح العمليات لحرب مقبلة تخطط لها فعلاً. ربما يكون شارون نجح في إزاحة المبادرة المصرية - الاردنية، موقتاً على الأقل، بعدما تم اختزالها في تقرير ميتشل، حتى لا يلزم نفسه ببدء المفاوضات من النقطة التي كانت توقفت عندها في طابا، أو بقبول ضامنين دوليين لما قد تسفر عنه المفاوضات من اتفاق. وربما يكون نجح أيضاً في إزاحة تقرير ميتشل، موقتاً على الاقل، بعدما تم اختزاله في خطة تينيت، حتى لا يلزم نفسه بوقف النشاط الاستيطاني وقفاً كاملاً تماماً عند مرحلته الاولى مرحلة التثبت من وقف اطلاق النار، أو عند مرحلته التالية على أكثر تقدير مرحلة التبريد، لكنه ينوي أن لا يتحرك بعد ذلك قيد أنملة على الاطلاق. لكن التوقف عند الوضع الحالي وتحويله الى وضع دائم هو المستحيل بعينه. لذلك فلا مناص من تحريك الوضع، لكن في ظل استمرار حكومة شارون، سيكون تحركاً في اتجاه الحرب بالطبع وليس في اتجاه الحل. هكذا يبدو مصير حكومة شارون كأنه اصبح رهناً بالفرار الى الأمام، من خلال التصعيد المستمر وفتح جبهات جديدة وإلقاء مسؤولية استمرار نزيف الدم، بما في ذلك الدم الاسرائيلي، على الآخرين دائماً: حزب الله، سورية، لبنان، ايران ومصر. ولأن الشعب الاسرائيلي لم يعد في حال تسمح له بلحظة صدق مع النفس يتأمل خلالها حقيقة ما حدث، ويحاسب نفسه ويحاسب حكومته قبل أن يحاسب الآخرين، فإن الحرب باتت وكأنها اصبحت قدراً لا مفر منه. والحقيقة أن غالبية المجتمع الاسرائيلي، وليس شارون وحده، هي التي باتت تدفع في اتجاه الحرب. ذلك أن غالبية الاسرائيليين مقتنعة الآن بأن الحرب باتت هي الوسيلة التي لم يعد يجدي سواها مع كل هؤلاء الذين رفضوا، أو حرضوا على رفض أكرم عرض اسرائيلي للتسوية قدمه اليسار الاسرائيلي الذي يطلق عليه الآن "اليسار الغبي"! فهل يمكن هذه الحقيقة أن تصدم أياً من هؤلاء الذين ما زالوا يبيعون لنا وهم التسوية في مصر وبقية العالم العربي؟! * رئيس قسم العلوم السياسية في كلية الاقتصاد - جامعة القاهرة