في نهاية حزيران يونيو الماضي شهدت تيرانا للمرة الأولى تظاهرة تضم المئات من ألبان اليونان التشام الذين تجمعوا أمام السفارة اليونانية للمطالبة باسترداد حقوقهم أملاكهم التي فقدوها بعد طردهم الجماعي في نهاية الحرب العالمية الثانية. ودعت الى هذه التظاهرة "رابطة تشامريا" الاسم الالباني للاقليم الالباني المجاور لالبانيا الذي كان في الماضي يشتمل على وجود الباني كثيف، التي تحاول ان تثير من جديد مشكلة عشرات الألوف من الألبان الذين طردوا في شكل جماعي من موطنهم حين فقدوا هناك أملاكهم. وعلى حين ان الناطق باسم الخارجية اليونانية علّق على هذه التظاهرة بالقول ان "مشكلة تشامريا لم تعد موجودة" وأن "مثل هذه التظاهرات لا تؤثر على العلاقات الديبلوماسية بين البانيا واليونان"، ذهبت الصحف اليونانية الى حد اعتبار ان هذه التظاهرة انما هي مقدمة لتطورات جديدة في المنطقة ستشمل اليونان ذاتها نشرة "تشيك" 29/6/2001. وفي الحقيقة ان هذه التظاهرة الأولى من نوعها في تيرانا لا يمكن عزلها عن السياق الداخلي والإقليمي في البلقان الآن. فالألبان الذين كادوا طيلة القرن العشرين ينحصرون وينعزلون في البانيا فقط، خرجوا من "القمقم" الذي كانوا فيه و"ظهروا" للعالم في كوسوفو خلال 1998 - 1999، ثم في جنوب صربيا خلال 1999 - 2000 والآن في مقدونيا خلال 2001، بينما لا يزال وجودهم كامناً في الجبل الأسود واليونان. ولكن حال اليونان تختلف عن غيرها إذ تكشف من ناحية عن مدى التداخل بين الشعبين - البلدين المتجاورين عبر التاريخ، وعن استمرار هذا التداخل ظروف سياسية - ثقافية لا نجدها في أي بلد آخر. وهكذا يمكن القول ان الوجود الالباني في اليونان يعود الى القرن الرابع عشر على الأقل، حين قام الملك الصربي دوشان بالتوسع في البانيا واليونان وتوج نفسه في سكوبيا عام 1348 بلقب "الامبراطور والحاكم المطلق للصرب واليونان والبلغار والألبان". وفي هذا الاطار اندفع الكثير من الألبان باتجاه الجنوب وخصوصاً في أتيكا والجزر المجاورة اليونانية، وأصبحوا عنصراً ملحوظاً في تاريخ اليونان حتى استقلالها في 1829. ونظراً لأن اليونان عندما استقلت حينئذ لم تكن تتجاوز في حدودها شبه جزيرة المورة وفي سكانها المليون، فقد اعتمدت في توسعها اللاحق على الأراضي التي كان يسكنها مزيج يوناني - ألباني. ومن نماذج هذا المزيج ولاية يانينا التي ضمت أربعة سناجق دخل اثنان منها كيروكا سترا وبيرات ضمن حدود ألبانيا الحالية ودخل اثنان آخران بريفيزاويانينا ضمن حدود اليونان بعد الحرب البلقانية 1912 - 1913. وفي الواقع ان هذه الولاية، كغيرها من ولايات الدولة العثمانية في البلقان، كانت نموذجاً للتداخل الاثني - الديني ولذلك لم يكن من المصادفة ان تشمل حدود ألبانيا الحالية على أقلية يونانية وأن تشمل حدود اليونان على أقلية ألبانية بعد تصفية الحكم العثماني في البلقان. ولكن اليونان التي تضاعفت مساحتها نتيجة للحرب البلقانية وجدت نفسها كغيرها من الدول البلقانية صربيا وبلغاريا التي تأخذ بنموذج "الدولة القومية" في ورطة مع السكان غير المرغوب فيهم، ولذلك حاولت ان تضخم العنصر اليوناني بعدة وسائل تبادل السكان مع تركيا إضافة الى التذويب والتهجير... الخ. ويلاحظ هنا ان سياسة التذويب نجحت مع عدة مجموعات أثنية ارثوذكسية وخصوصاً السلاف والألبان في الشمال بفضل الكنيسة. ولكنها فشلت مع المجموعات الأخرى الأتراك والبوماق والألبان المسلمين التي تحولت جزراً معزولة في تراقيا ومقدونيا وابير. وهكذا كان من اللافت للنظر ان الألبان الأرثوذكس انصهروا في سرعة بواسطة اللغة - الكنيسة الرسمية الواحدة التي تجمعهم مع اليونان الأرثوذكس، بينما كانت المشكلة مع الألبان المسلمين في الجزء المجاور لألبانيا الذي يطلق عليه الألبان "تشامريا". وهكذا تعرض وجود الألبان في هذا الاقليم لهزة قوية خلال الحرب البلقانية 1912 - 1913 وخلال الحرب العالمية الأولى 1914 - 1918، مما دفع بالكثير من سكانه الى الهجرة لألبانيا المجاورة على أمل الرجوع في وقت لاحق. وتحول هؤلاء وغيرهم الى مادة للابتزاز السياسي خلال السنوات اللاحقة في العلاقات المتوترة ما بين البانياوايطاليا واليونان. فقد قام حاكم البانيا الجديد أحمد زوغو. الذي كان يحظى بدعم ايطاليا الفاشية. بتحويل البانيا الى مملكة في 1928 واعلان نفسه "ملك الألبان" وليس ملك البانيا لإثارة مشاعر الألبان في البلاد المجاورة يوغوسلافيا واليونان، والاستفادة من ذلك في حصار المعارضة في الداخل البانيا. من ناحية أخرى فقد قامت ايطاليا بعد احتلالها لألبانيا في نيسان ابريل 1939 بالاستعداد لاحتلال اليونان. ولذلك حاولت ان تستقطب تأييد الألبان ل"تحرير" اقليم "تشامريا". ومع ان ايطاليا لم تحرم من تأييد بعض الأفراد. وخصوصاً من أولئك الذين كانوا ينتظرون العودة. إلا ان ايطاليا كقوة محتلة فشلت في استقطاب الألبان وفشلت في حربها مع اليونان في خريف 1940. وبعد فشل ايطاليا في حربها مع اليونان قامت المانيا في نيسان ابريل 1941 باحتلال اليونان ثم البانيا بعد ذلك 1943 حيث حاولت بدورها القيام بدور "المنقذ" للألبان السماح لهم بالتواصل عبر الحدود وتأسيس مدارس في اللغة الالبانية... الخ. ومع ان المانيا ايضاً لم تحرم من يؤيدها في ذلك الا ان غالبية الألبان في اليونان كانوا جزءاً من الموقف العام في البلاد. وفي هذا الاطار اندلعت حركة المقاومة ضد الاحتلال الألماني، ثم المواجهة بين اليمين واليسار في نهاية الحرب، التي انعكست على الألبان بمأساة غير متوقعة. فقد تأسس أولاً في نيسان "جيش التحرير الشعبي" المعروف باسم "الايلاس"، الجناح العسكري للحزب الشيوعي اليوناني. وظهرت بعده "العصبة الجمهورية الوطنية اليونانية" المعروفة باسم "الادس" التي كانت تمثل اليمين الجمهوري. وقد انضمّ الكثير من الألبان الى "الإيلاس" الذي كان منفتحاً أكثر على الأقليات في شمال اليونان، حيث غدت هناك قوته الرئيسية. وتفيد المصادر ان حوالى ألف من الألبان انضموا حينئذ الى "الايلاس"، بما في ذلك الكتيبة التي حملت اسم أحد أبطالهم علي ديمي، والتي غدت في اطار اللواء 15 ل"الإيلاس". وهذا الرقم ألف مقاتل ليس بقليل في موازين القوى حينئذ بين "الايلاس" و"الادس". وفي المقابل فقد تمركز قائد "الادس" الجنرال زرفاس في اقليم ابير - تشامريا المجاور لالبانيا، الذي يتميز بالأحراش المناسبة لحرب العصابات. وسعى الجنرال زرفاس في صيف 1944 الى الضغط على الألبان للانضمام الى قواته ضد "الايلاس"، ولكنه فشل في ذلك مما دفع قواته الى القيام بمجازر ترهيبية خلال تموز يوليو 1944، ولكن المجازر اللاحقة التي حدثت في شهر تشرين الأول أكتوبر 1944، عشية المواجهة الشاملة بين "الإيلاس" و"الادس"، كانت تصفوية تهدف الى "تطهير عرقي" مما أدى الى هجرة الكثير من الألبان الى البانيا المجاورة. ولكن انتصار "الايلاس" في هذه المواجهة أعاد الأمل الى الألبان وسمح للكثير منهم بالعودة الى موطنهم في نهاية 1944 وبداية 1945. إلا ان انسحاب قوات "الايلاس" من المنطقة في 13 شباط فبراير، أمام تقدم قوات الجنرال بلاستيراس القادمة من أثينا الملكية، كان بداية للمأساة الحقيقية للألبان. فقد قامت قوات الجنرال بلاستيراس، كما تؤكد تقارير البعثة العسكرية البريطانية، بمجازر جماعية قضت فعلياً على الوجود الالباني هناك بعد لجوء من بقي على الحياة الى البانيا المجاورة. وهكذا من أصل 35 ألف الباني كانوا هناك قبل الحرب لم يبق هناك سوى عشرات العائلات. ويلاحظ هنا ان النظام الجديد في البانيا نظام أنور خوجا لم يثر موضوع الألبان في اليونان تشامريا ولا الألبان في يوغوسلافيا كوسوفو الا بما يخدم هذا النظام في الداخل. وهكذا فقد اختار أنور خوجا سياسة التقارب مع اليونان، وخصوصاً بعد وصول الحزب الاشتراكي الباسوك الى الحكم، وأصدر كتابه المعروف "شعبان صديقان". وفي المقابل فقد عمد الحزب الاشتراكي بعد وصوله الى الحكم الى طي صفحة الماضي الحرب الأهلية والسماح للكثير من المنفيين بالعودة الى اليونان واسترداد أملاكهم، إلا ان هذا لم يشمل قط الألبان التشام في البانيا. ومن هنا لم يكن من المستغرب ان يعاد فتح هذا الموضوع بعد سقوط نظام أنور خوجا، وبالتحديد مع وصول "الحزب الديموقراطي" الى السلطة في البانيا، حيث أصبح صالح بريشا رئيساً جديداً للبلاد. ويلاحظ ان عهد صالح بريسا 1992 - 1997 تميز باهتمام فاعل بموضوع الألبان في الجوار، وبالتحديد في يوغوسلافيا واليونان. وهكذا في هذا الإطار تشكلت "رابطة تشامريا" التي أخذت تحشد الوثائق والأعضاء للمطالبة بحقوق الألبان - التشام الذين طُردوا من موطنهم. وفي المقابل يلاحظ ان الحزب الاشتراكي الشيوعي السابق الذي أعاد تنظيم نفسه تحت قيادة فاتوس نانو وتمكن من العودة الى السلطة في 1997، يقود سياسة "واقعية" مع يوغوسلافيا واليونان، ويتميز بعلاقات وثيقة خصوصاً مع اليونان بالذات. فالحزب الاشتراكي يعتمد في صورة رئيسية على دعم الجنوب الالباني التوسك، الذي يتمركز فيه الألبان الأرثوذكس، بينما يعتمد الحزب الديموقراطي في تأييده على الشمال الألباني الغيغ المسلم في غالبيته والمرتبط أكثر مع كوسوفو المجاورة. وفي مثل هذه الحالة يعتبر موضوع ألبان اليونان التشام أحد قضايا الخلاف التنافس بين الحزبين الرئيسيين في البانيا الحزب الاشتراكي والحزب الديموقراطي. وفي هذا الاطار لم يكن من المستغرب ان تنطلق مظاهرة الألبان التشام في تيرانا خلال الانتخابات المهمة التي تشهدها البانيا الآن، بين الدورة الأولى 24/6 وبين الدورة الثانية التكميلية 1/7. وفي الوقت نفسه فقد جاء فتح هذا الملف المحرج لليونان في الوقت التي تتزايد فيه ضغوط المنظمات الدولية على اليونان لاعادة النظر في سياستها تجاه الأقليات فيها التي لا تعترف بوجودها أصلاً الأتراك والبوماق والفلاش والغجر والألبان. ولذلك فإن هذا الموضوع الألبان/ التشام كغيره من مواضع البلقان الشائكة يمكن ان يسهم في تعزيز العلاقات أو توتير العلاقات بين البلدين. وذلك بحسب التعامل معه من قبل الأطراف المعنية. ففي البانيا هناك أقلية يونانية مؤثرة حوالى مئة ألف ونسبة معتبرة من الأرثوذكس حوالى 20 في المئة من سكان البلاد وعمالة البانيا متزايدة في اليونان لا بد ان تؤخذ في الاعتبار في مثل هذا الموضوع. * كاتب أردني.