السفير مارتن انديك أشهر من نار على علم إسرائيلي، وهو "أبدع" هذه المرة قبل عودته من تل أبيب إلى واشنطن، معدداً وصاياه لليهود مثله، عارضاً شهادة خبرته بوصفه محنكاً في خدمتهم، لعله يقفز إلى موقع أعلى... وأمامه فرصة لا تتكرر. فالرئيس جورج بوش، كما يقول السفير، محب لإسرائيل بالفطرة، عاشق لمصالحها بالغريزة، لا يمكن أن يطعنها في ظهر ارييل شارون، هذا الكائن الذي يتحدث عنه مارتن كأنه "بطل" انتظره طويلاً لينقذ الدولة العبرية من عثرات السلام وتنازلاته. يشيد انديك بسياسة "ضبط النفس" التي ينتهجها رئيس الوزراء الإسرائيلي، ولا غرابة في ذلك، فالسفير لا يرى إلا بعين يهودية، بالتالي ليس قصف المدنيين الفلسطينيين وتشريدهم وخنقهم سوى تمرين على ضبط ايقاع المعركة. وبرسم العرب الذين قد يفكرون في فعل شيء ما، أكثر من دور الشاهد الصامت على نكبة شعب، بعض ما قاله أنديك، وفي واشنطن كثيرون من أساتذته: "على إسرائيل أن ترغم عرفات على الايفاء بالتزاماته، وهي ربحت المعركة الآن، فقبول الفلسطينيين توصيات لجنة ميتشل يعني ببساطة أن الانتفاضة انتهت... إدارة بوش تشكك في قدرات عرفات ودوره في السعي إلى حل دائم، وأوسلو جلبت الازدهار لإسرائيل والفقر للفلسطينيين". وفيما تزداد التسريبات يومياً عن العملية الإسرائيلية "الشاملة" لتدمير السلطة في الضفة الغربية وقطاع غزة، يتساءل انديك بصيغة تحريض عن كيفية إعادة الرئيس الفلسطيني "شريكاً"، وهل يتسنى ذلك باحتلال شامل، يمكن أن تعتبره الإدارة مرحلة انتقالية تقلب شروط التفاوض، بعد إلغاء السلطة... وايجاد البديل. وعلى رغم تذاكي السفير، الذي يصمت كثيراً وما أن ينطق بنصائحه حتى يذكّر الإسرائيليين بأنهم ليسوا وحدهم، بل وراءهم القوة العظمى التي رضخت لمصالح اللوبي اليهودي، أوقع أنديك نفسه في تناقض غبي: يشيد بضبط شارون نفسه لكنه لا ينكر التوغلات اليومية في مناطق السلطة الفلسطينية، بل يعترف أيضاً بايقاد الاستيطان والمستوطنين جذوة الغضب كلما هدأت نار الانتفاضة. إنما في كل الأحوال يستحق هذا السفير "المعجزة" الذي يلقن إسرائيل دروساً في مصالحها على حساب دم الفلسطينيين وأرضهم، وسام اليهود الأميركيين، وهؤلاء اعفاهم أركان إدارة بوش من أي جهد للضغط على واشنطن، بل بارزوهم في الدفاع عن أمن الدولة اليهودية. وهكذا بات مجرد استقبال الرئيس عرفات في البيت الأبيض مسألة تُملي بها إدارة الرئيس "الحكيم" للولايات المتحدة شروطاً أكثر صهيونية من أطماع شارون وغرائزه الجنونية. كلهم "حكماء" في واشنطن، لذلك وجب التريث قبل التدخل لوقف حمام الدم في الضفة وغزة بانتظار "نضج" طرفي الصراع... بالأحرى أن يخر الفلسطيني صاغراً أمام الحاخامين، والذين باتوا المذهب الأكبر في إسرائيل كما في الولاياتالمتحدة، ولن يكون بعيداً ذلك اليوم الذي تعتبر فيه الإدارة اسحق رابين خائناً للأمن القومي الأميركي، إذ رضي بمصافحة الفلسطينيين فاستحق مصيره! إن لم يكن آن أوان التدخل الأميركي لإنقاذ أرواح وأطفال من مسلسل الجنون الإسرائيلي، أي حاجة إليه إذا اتيح لشارون تحويل الضفة وغزة إلى مخيمات ثكلى وأيتام وجوعى؟ في واشنطن كثيرون من "حكماء" اليهود، ولكن يبدو حتى الآن ان ليس بين أركان الإدارة عاقل يدرك عواقب انفلات القوة والغرائز.