"هو كتاب ممتع على الحقيقة لمن له مشاركة في فنون العلم، فإنه خاض كل بحر، وغاص كل لجة، ومن أحسن ما رأيته على ظهر نسخة من كتاب "الإمتاع" بخط بعض اهل جزيرة صقلية وهو: ابتدأ أبو حيان كتابه صوفياً، وتوسطه محدّثاً وضمنه سائلاً ملحقاً". هذا النص البسيط والموجز، يكاد لعمقه يلخص الروح الأساسية التي تهيمن على كتاب ربما يصح اعتباره حتى يومنا هذا، من اجمل وأعمق كتب التراث العربي، ومن اكثرها حياة: كتاب "الإمتاع والمؤانسة" لأبي حيان التوحيدي، الذي وصف دائماً بأنه "أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء"، وعده محمد كردعلي واحداً من أمراء البيان على مدى تاريخ الكتابة العربية. أما النص الذي ذكرناه هنا فهو من جملة ما كتبه القفطي في "أخبار الحكماء" في معرض حديثه عن التوحيدي، حيث يضيف، رابطاً الكتاب بسيرة مؤلفه: "إنه مما ألف التوحيدي في العهد الأول من حياته، حيث كانت نفسه لا تزال طماحة للدنيا، راغبة في الصلة برجال السلطان، مستعينة على ذلك بما تحسن من اسمار وتطرف به من احاديث، أم بما تحبّر من رسائل المدح والثناء، في مغالاة يزينها لعينه، ويبررها في نفسه، شدة حرصه على النفاذ الى نفوذ هؤلاء. كما يصور الكتاب في جملته نواحي اخرى من نفس مؤلفه، فهو يصوّر من جهة كفايته العلمية، الى جانب سوء تأتّيه من الناحية العملية، وفقره وحاجته واستخذاءه الى جانب تعاليه وتعدّيه على بعض الخاصة، وذوي النفوذ في عصره، وهما صورتان كادت تتجرد منهما مؤلفاته في العهد الأخير من حياته. ومن الكتاب استظهرنا بعض اسباب خذلانه في حياته العملية وأسباب حرمانه من جدوى ابن سعدان الوزير، كما ان هذا الكتاب بالذات كان سبب متاعبه ومخاوفه، ثم اختفائه وهجرته عن بغداد، حيث ابتدأت نقطة التحول في سلوكه العلمي والعملي...". ولئن كنا أسهبنا هنا في الاقتباس من نص القفطي عن التوحيدي، عبر ما نقله عنه الدكتور عبدالرزاق محيي الدين في واحد من افضل الكتب التي صدرت عن التوحيدي، فإن الدافع الى هذا هو ان نص القفطي يدخل مباشرة في نفسية التوحيدي وتقلباته وانعكاس ذلك على كتابه وهو الأهم بين كتبه، ومن ثم انعكاس الكتاب نفسه على حياته، إذ، إذا استثنينا بعض كتب السيرة الذاتية النادرة في التراث العربي، سنجد انه من النادر ان ارتبط كتاب في هذا التراث، بنفسية مؤلفه قدر ارتباط هذا الكتاب. ومع هذا ، يعتبر "الإمتاع والمؤانسة" كتاباً موسوعياً في الجزء الأهم منه. وفي الأحوال كافة لا بأس ان نذكر هنا أن عدداً من المؤلفين، من بينهم احسان عباس، يرى ان لا فضل للتوحيدي في هذا الكتاب، وعلى الأقل في الفصول المجموعة عن الفلسفة والحيوان والأحاديث والأكل وطبائع البشر والمعادن وما الى ذلك. لكن "ميزته الحقيقة تكمن في ما ألم به المؤلف من احداث ارتبطت بالقرن الرابع الهجري، وما قدمه من صور تعبر عن الحال الواقعية العامة، والحال الفكرية والثقافية للعلماء والأدباء، وفي تحليله شخصيات ذلك الزمن تحليلاً مختصراً، وفي نقد الواقع نقداً مخلصاً". إذاً، في هذا الكتاب المتأرجح بين الموسوعية والذاتية، رسم التوحيدي صورة فذة لعصره ولمفكري ذلك العصر ورجاله، ومن الواضح ان الطابع الذاتي يغلب على الصور التي رسمها، ما جعل مفكرين حديثين يشبهون كتاباته وصوره بالرسم الانطباعي. فالتوحيدي، منذ بداياته وحتى نهاياته، رأى العالم وأهله عبر مرشح الذات، وعبر مأساة حياته الدائمة. ولذا، ما قد ينبغي التوقف عنده دائماً، عند قراءة "الإمتاع والمؤانسة" كما عند قراءة اي نصر آخر للتوحيدي، انما هو الحال النفسية الذاتية التي يكتب وهو يعيشها. ولكأن التراجم الكثيرة التي يصفها للآخرين، صور شفافة تحكي عنه هو شخصياً. غير ان هذا ليس، طبعاً، كل شيء. فهناك ايضاً، ومن دون ريب، الجانب الموسوعي. فالتوحيدي لم يضع الكتاب، أصلاً، من تلقائه وليعبر عن ذاته، بل انه وضعه كما يقول القفطي، انطلاقاً من علاقته بأبي سليمان المنطقي، استاذه في الفلسفة الذي "كان منزله في دار السلام مقبل اصحاب العلوم القديمة - وكان لانقطاعه عن الناس ولزومه مجلسه يشتهي الاطلاع على اخبار الدولة وعلم ما يحدث فيها ... وكان ابو حيان من بعض المعتصمين به، وكان يغشي مجالس الرؤساء ويطلع على الأخبار ومهما علمه من ذلك نقله وحاضر به، ولأجله صنف كتاب الإمتاع والمؤانسة" ذلك الكتاب الذي قال عنه ابو الفضل الشيرازي "خاض كل بحر وغاص في كل لجة". وحتى اليوم، لا تزال الصفحات التي أفردها التوحيدي في كتابه لإخوان الصفاء، اهم مرجع تحدث عنهم في تلك الأزمان المبكرة. ونعرف، طبعاً، ان كل الذين كتبوا عن اخوان الصفاء ومذهبهم ورسائلهم انما كان اعتمادهم على ما كتبه التوحيدي عنهم كبيراً، بل لعله كان اول من كشف عن اسماء رؤسائهم من امثال ابو سليمان البستي المقدسي وأبو الحسن الزنجاني والمهرجاني والصوفي. ونذكر هنا ايضاً أن التوحيدي يجيب حين يسأله سائل عما إذا كان رأى رسائلهم: "قد رأيت جملة منها وهي مبثوثة من كل فن بلا إشباع ولا كفاية، وفيها خرافات وكنايات وتلفيقات وتلزيقات، وحملت عدة منها الى شيخنا ابي سليمان المنطقي ... فنظر فيها اياماً وتبحرها طويلاً، ثم ردّها علي وقال: تعبوا وما أغنوا، وتعبوا وما أجدوا، وحاموا وما وردوا، وغنوا وما أطربوا، ونسجوا فهلهلوا، ومشطوا ففلفلوا...". عاش ابو حيان التوحيدي حياة غريبة، مملوءة بالبؤس واليأس. وكان من فرط التشاؤم ودوام الشكوى ان تجوهل ادبه الكبير، لصالح شخصيته التي كانت تثير المؤرخين وتستفزهم سلباً، خصوصاً أنه قد اسيء فهمه دائماً. الى درجة ان ابن الجوزي تحدث عنه بوصفه واحداً من "زنادقة الإسلام الثلاثة: ابن الراوندي، ابو حيان التوحيدي وأبو العلاء المعري" معتبراً التوحيدي "أشرّهم على الإسلام" لأن الآخرين "صرّحا بزندقتهما، وهو مجمجم ولم يصرح". ولقد احتاجت سمعة التوحيدي الى الانتظار زمناً طويلاً قبل ان يوافق مؤرخون لاحقون على ما قاله عنه، باكراً، محيي الدين بن النجار من انه "كان صحيح الاعتقاد"، وهو ما جاراه فيه السبكي، قبل ان يأتي عبدالرحمن بدوي في القرن العشرين ليعتبره، أديباً وجودياً"!! ولد التوحيدي في شيراز أو واسط أو نيسابور في زمن يتراوح بين 310 و320ه. ثم انتقل الى بغداد، التي عاش فيها معظم سنوات حياته. وفيها درس على السيرافي والرماني وتعمق في المذهب الشافعي ودرس التصوف. وذكر هو دائماً ان أبا سليمان المنطقي كان استاذه الأكبر كما ذكر انه حضر مجالس يحيى بن عدي. وهو ظل طوال حياته فقيراً يتكسب من نسخ الكتب، وعجز عن تحصيل الثروة حتى وإن كان عاشر الوزراء والكبراء، وذلك بسبب طبعه السيئ وشكواه الدائمة. فعاش في نكد ويأس جعلاه يستاء من الجميع ويقدم في آخر أيامه على إحراق كتبه. وكتبه كثيرة ابرزها، "الإمتاع والمؤانسة"، و"القابسات" و"مثالب الوزيرين" وهو واحد من كتب النثر الهجائي الشهيرة، وعاد عليه بالويلات. وله أيضاً "الهوامل والشوامل" و"الصداقة والصديق" و"الإشارات الأليفة" و"البصائر والذخائر". والمرجح انه توفي في العام 414ه. 1023م. ودفن في شيراز.