وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    تباطؤ النمو الصيني يثقل كاهل توقعات الطلب العالمي على النفط    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    مترو الرياض    إن لم تكن معي    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تجديد ذكراه في الألفية الثانية لوفاته . أبو حيان التوحيدي : أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه
نشر في الحياة يوم 14 - 07 - 1998

إذا كان "حسن السؤال نصف العلم"، فإننا حين نذكر أبا حيان التوحيدي، فإنما نذكر رجلاً تحصل في عقله مسبقاً هذا النصف من العلم باعتباره فيلسوف السؤال، كما وصفه المرحوم زكريا ابراهيم، وذلك قبل تحصيل نصفه الآخر عن طريق المباحثة والمدارسة وجودة الجواب.
وتوضيحاً لهذا النعت الذي فيه من القلق العظيم أكثر مما فيه من الاطمئنان، لثروة أبي حيّان التوحيدي الفكرية والثقافية، نستأنس بما نعته به ياقوت الحموي 575 - 626 ه في "معجم الادباء"، حين ذكره فقال: "شيخ الصوفية وفيلسوف الادباء وأديب الفلاسفة ومحقق الكلام ومتكلم المحققين وإمام البلغاء". وقد بالغ ياقوت في تقصيه لأحوال التوحيدي وقراءاته المتأنية لآثاره، بسب شدة انبهاره بها وتعظيمه لها حتى أثار اهتمام من جاء بعده من المؤرخين والدارسين، فقال الصفدي: "وقد طوّل ياقوت في ترجمته زائداً الى الغاية".
والواقع ان ترجمة ياقوت الطويلة التي خصّ بها أبا حيّان التوحيدي، تعكس درجة الاهتمام بحياة وثقافة هذا الرجل الفرد الذي انشغل به الباحثون قديماً وحديثاً، فجعلهم في لَبْث من أمرهم: أهو في صف المتكلمين من معتزلة وأشاعرة كالنظام والعلاّف وأبي الحسن الأشعري، أم في صف الفلاسفة كالكندي والفارابي وابن سينا، أم في صف المتصوفة كالحلاّج ومحي الدين بن عربي والسهروردي المقتول. أم ان التوحيدي من طائفة الادباء الفلاسفة" حيث الادب عنده جوهر والفلسفة عرض، ام من طائفة الفلاسفة الادباء" حيث الفلسفة عنده هي الجوهر والادب هو العرض. ام انه من طبقة العلماء العظماء، حيث هم فلاسفة بالجوهر وأدباء بالجوهر ايضاً. اسئلة كثيرة تحتشد في الذهن، كلما ذكر أبو حيّان!
ويبدو ان التنوّع المذهل في الثقافة، هو وجه الشبه القوي الذي كان ولا يزال يوازي بين أبي حيّان التوحيدي وأبي عثمان الجاحظ. وقد انطوى هذا النموذج الثقافي والفكري على مبدأ الحرية الذي يرفض القيد، كما انه لا يحجر على حركة العقل او الوجدان في تعرّف الاشياء وإبداعها. فآمن بوحدة "النوع الانساني" في علاقات النزعة الانسانية التي تتخلل تراثنا العربي والتي تبدأ من معنى العروبة بوصفها مبدأ الخصوصية والهوية، لتصل الى الوحدة الانسانية التي تقوم على تنوع الحضارات والثقافات. وعلى الرغم من قوة حضور هذا النموذج في شخصية أبي حيّان التوحيدي، فقد احتفظ بصفات طبعت ثقافته بطابعها، وتجلى في نوع الكتابة التي تميّز بها وفيها. ذلك النوع الذي بدأ من الدائرة الجاحظية ليجاوزها، محققاً التركيبة الفريدة التي اشار اليها ياقوت عندما وصف أبا حيّان بأنه فيلسوف الادباء وأديب الفلاسفة.
لماذا كتابة أبي حيّان؟
ذلك ان هذ النوع من الكتابة التي عرف بها التوحيدي، تجاوزت الانفعالات الذاتية، او محاكاة السابقين، او الاندراج في خدمة الدواوين والسلاطين والتزلف لذوي الجاه والسلطة. لقد تجاوزت كل ذلك لتصل الكتابة بالافق المفتوح للابداع، وبمغامرات العقل وكشف الروح، كما الرؤيا التي تضيق عنها العبارة. انها الكتابة / المساءلة، التي لا تكف عن تغيّرها من اجل نقض عناصر الثبات، انها التعريض الذي ينقلب على التصريح، او كما قيل: "لغة الكتابة النقيض المتعددة الاوجه والابعاد، تعدد كتابة السؤال المعلّق ما بين الهوامل والشوامل، او تعدد موجات الحوار المتردد في مجالس الامتاع والمؤانسة، او مجالس المقابسات التي تضيف الى البصائر والذخائر، او تعدد معاني الاشارات التي لا تكون الا على وجه الاستعارة والاعارة، قرينة الرمز الذي يمطر سماء المحبة، ويغني ضمائر الحكمة، ويجلي عرائس الحقائق التي تظل في حاجة الى الكشف".
سحابة العمر
لقد حاول كثير من الباحثين القدماء والمحدثين، الوقوف على تاريخ حياة هذا العلم الثقافي الكبير، فقالوا ان مولده يجب ان يكون بين سنتي 310 ه / 922 م و320 ه / 932 م في مدينة شيراز او في مدينة نيسابور او واسط، وانه انتقل في تاريخ مجهول الى بغداد. اما تاريخ وفاته فكان في حدود سنة 414 ه / 1023 م كما اجمع عدد من المؤرخين، وقد سجل تاريخ وفاته هذا على قبره بمدينة شيراز، وعليه، فهو قد دخل الألفية الثانية للهجرة، ما يأذن بتجديد ذكراه!
تلقى أبو حيّان علومه النحوية في بغداد على يدي أبي سعيد السيرافي وعلي بن عيسى الرمّاني، أما علومه الفقهية في المذهب الشافعي فقد أخذها عن القاضي أبي حامد المروروذي وسمع الحديث من أبي بكر بن عبدالله الشافعي. وأخذ التصوف عن جعفر الخلدي. وكان أبو سليمان المنطقي، أكثر أساتذته تأثيراً عليه، خصوصاً في مجال الفلسفة، على الرغم من تصريحه في كتاب "المقابسات"، بأنه كان يحضر مجالس الفيلسوف يحيى بن عدي في بغداد.
وإذ أكدته مهنة الوراقة، حيث كان يتكسب حياته من نسخ الكتب في بغداد، فإنه كان كثير الشكوى، لأن نكد الزمان تمكن منه "الى الحد الذي لا يسترزق فيه مع صحة نقله وتقييد خطه وتزويق نسخه وسلامته من التصحيف والتحريف بمثل ما يسترزق البليد الذي ينسخ النسخ ويمسخ الأصل والفرع".
وكان التوحيدي يأمل بالتخلص من حرفة الشؤم / الوراقة، حين انتقل الى الري، غير ان الصاحب بن عباد، كان في انتظاره هناك، لينسخ له رسائله، وهي في ثلاثين مجلدة. وقد رفض ذلك لأنه يأتي على العمر والبصر، وهذا ما اوعز صدره وصدر وزيره ابن العميد عليه، ولم يجد عندهما مؤمله، فانتقم لنفسه منهما في كتاب "اخلاق الوزيرين او مثالب الوزيرين"، بعد ان امضى في بلاط الصاحب ثلاث سنين، وفارقه الى بغداد بغير زادٍ ولا راحلةٍ، سنة سبعين وثلاثماية، ذاكراً انه لم يعطه في مدة مقامه درهماً واحداً.
حقيقة ان التوحيدي، لم يحسن اسلوب الاستجداء من الحكام وأهل السلطة والشأن، ولو كان كثير الشكوى من صروف الزمان. ومردّ ذلك، ان اسلوبه في الشكوى، كان جافاً مشوباً بالادلال والتعاظم، حتى انه كان يستعلي على المسؤول، ويفهمه ان هذا حق له لا احسان اليه. وهذا ما كان ينفره منه، ويجعله يمعن في حرمانه. اما ابن مسكويه، فقد قرّعه على كثرة الشكوى، كذلك فعل ياقوت الحموي، على الرغم من اعجاه به، فقال انه سخيف اللسان، قليل الرضى عند الاساءة اليه. الزم شأنه والثلب وكانه "دائم الشكوى من صرف زمانه، ويبكي في تصانيفه على حرمانه".
الى جانب ذلك، فقد اعتبر التوحيدي ثالث زنادقة الاسلام وأشرهم بعد ابن الراوندي والمعرّي، لأنهما صرّحا بزندقتهما ومجمج ولم يصرّح، كما يقول ابن الجوزي. اما الذهبي فقد جعله سيء الاعتقاد ضالاً ملحداً. كذلك فعل ابن فارس، اذ وصفه بالكذب وقلة الدين والورع، وبالقدح بالشريعة. وهناك من انصفه مثل محب الدين ابن النجار، الذي قال عنه انه كان صحيح الاعتقاد، وكذلك فعل تاج الدين السُّبكي اذ قال في التوحيدي: "ولم يثبت عندي الى الآن من حال أبي حيّان ما يوجب الوقيعة فيه". وأضاف قائلاً: "ووقعت على كثير من كلامه، فلم أجد منه إلا ما يدل على انه كان قوي النفس مزدرياً بأهل عصره".
قلق الوجود
وازدراء أبي حيّان لأهل عصره، هو وليد الاحساس بالمسافة بينه وبين الدهماء. ذلك ان روح الفلسفة التي كانت قائمة في نفس التوحيدي، هي نفسها، داعية الانفصال والعزلة من اجل ممارسة التأمل الفلسفي، بعيداً عن الاستغراق في الاشياء وعدم التطابق مع الواقع القائم، وتأكيداً لعدم الاستسلام لسلطة الدهماء او الحشد. وإذا كان ألد اعداء الفلسفة هم الدهماء، فليس غريباً ان يأتي موقف الفلاسفة من الجماهير او عامة الناس، موقفاً سلبياً وعدائياً في كثير من الاحيان، يلخص مشروعية النضال ضد سلطة الكثرة او الحشد / الجمهور. اذ هذه المشروعية لا تقل اهمية عن مشروعية نضال الجمهور ضد سلطة الاستعباد.
وعزلة وانفصال أبي حيّان عن الناس، انما هي عزلة سيكولوجية، افترضها ضرورات الفلسفة وهي تتابع إلحاحها الدؤوب على صاحبها، من اجل اقتناص برهة التأمل الصافية غير المشوبة بالالتباسات. وهذه العزلة السيكولوجية، انما هي عزلة الفلسفة التي اسست للاغتراب الفلسفي، المتصل بالتفكير الفلسفي المحض ونزوعه المعهود الى المثال، وذلك على قاعدة الانخراط في المجتمع، لا اعتزاله عزلة الراهب.
فالتوحيدي، عايش الاغتراب بوصفه تجربة، حيّه بين الناس، وداخل الصف الاجتماعي التراتبي وصولاً الى حواشي السلطة. وهذا ما اتاح له فرصة التحليل المفصّل لتجربة الاغتراب، في اطار المجتمع، لا في اطار المحبس، الذي يحبس الفلاسفة انفسهم فيه كالعادة.
وهذا الامر هو الذي قرنه بسقراط في العصر اليوناني، والحلاّج والسهروردي في العصر الاسلامي، وأوغسطين في العصور الوسطى الاوروبية، وبسكال في مستهل العصر الحديث. فهؤلاء الفلاسفة جميعاً، لم يعتزلوا المجتمع من اجل الفلسفة، بل ذهبوا اليها وعايشوها في المجتمع وعانوا منها كذلك، بوصفها تجربة قاسية للغاية، تركت بصماتها القوية على عقولهم ونفوسهم، من دون ان يتمكن الجمهور بوصفه حشداً، من فتّ عضدهم وثني ذراعهم، وحملهم على التراجع عن آرائهم.
فأبو حيّان لم يكن فيلسوفاً يمارس الفلسفة بوصفها عملية عقلية وعلمية مجردة، وانما عمل على التخويض في شؤونها بوصفها تجربة حيّة معاشة، وهذا ما نلمسه بشكل خاص في اهم كتبه وأعذبها وهو كتاب "الاشارات الالهية". فقد بلغ فيه التوحيدي اعلى درجة من درجات النضوج الفكري، "اذ عبّر فيه عن شخصيته وتجاربه الحيّة، وأحواله النفسية، على نحو يبرز فيه الجانب الشخصي، وهو جانب من الصعب ان نتلمسه في سائر مؤلفاته ك"الامتاع والمؤانسة" و"المقابسات" و"الصداقة والصديق". ففي الاشارات الالهية"، نجد الاستقلال الروحي عند التوحيدي، وهو دليل قوي على نضوج صاحبه وغنى تجاربه في حياة، يستمر منحى التطور فيها على نحو آخذٍ بالاطراد باستمرار، وليس في الكتاب ادنى اشارة الى احياء احداث. واذا ذكر شخصاً، فإنما هو شخص متخيّل على اغلب الظن، تتم معه دائرة الحوار النفسي او المناجاة، مما يعكس مدى احساس التوحيدي بالاغتراب والتوحد مع الذات. يقول التوحيدي في كتاب الاشارات، معبراً عن عظمة معاناته واغترابه: "إلهنا! ان ذكرناك نسيتنا، وإن اشرنا اليك ابعدتنا وإن اعترفنا بك حيّرتنا، وإن جحدّناك احرقتنا، وإن توجهنا اليك اتعبتنا".
ان اقسى اشكال القلق الوجودي الذي كان التوحيدي يعانيه، كان قد تمثل في محنته الرمزية التي تستبطن محنة وجودية حقيقية، عاناها أبو حيّان وعاينها في وقائع احراق كتبه وإتلافها بنفسه. اي بمحض ارادته ومبادرته لذلك، مع سبق الاصرار على حرق كتبه ومحوها من الوجود.
ولا شك انه لم يكن للسلطة السياسية ودوائر المحنة و"التفتيش" اي دخل مباشر في هذه القضية، وإن كنّا نقول بدور غير مباشر، استفزّ التوحيدي، وأراه في المنام ما يوحي اليه بالاقدام على احراق كتبه بيديه، لا بأيدي سواه، امعاناً في الانتقام منه. وهذا النحو من الاتلاف الذاتي او الانتحار الرمزي، يستحق من الباحثين وقفة تحليل وتأمل، لا سيما وان بطله، كان قد ترك رسالة بعث بها الى القاضي أبي سهل، علي بن محمد، يدفع بها عن نفسه اسباب كل معتبة او ملامة.
ان عوامل كثيرة هي التي جعلت أبا حيّان التوحيدي يتملكه شعور حاد بالعبث الوجودي الذي كان يسحقه من الداخل، كما جعلته يعاني من شعور الغربة واليأس من الغير، وشقاء الوعي بالعالم، الى الحدّ الذي جعله يتجاوز الاشفاق على نفسه بالاشفاق على زمانه وبكائه والاستغراق فيه بركةً من دموع.
فمن شعور الرجل بالعبث، جراء ممارسته القسرية لمهنة الوراقة او النسخ والتي سماها "حرفة الشؤم" وفيها "ذهاب العمر والبصر"، كتب يقول: "لقد استولى عليّ الحرف، وتمكّن مني نكد الزمان، الى الحدّ الذي لا استرزق مع صحة نقلي، وتقييد خطّي، وتزويق نسخي، وسلامته من التصحيف والتحريف، بمثل ما يسترزق البليد الذي ينسخ النسخ، ويمسخ الاصل والفرع". وفي مكان آخر، يعبّر عن حضور تجريبي للحياة، يعلل به منطق الهشاشة والزوال دينياً وفلسفياً. ف"كل شيء هالك الا وجهه" و"كل من عليها فان"، وأنه "لا ثبات لشيء من الدنيا وان كان شريف الجوهر كريم العنصر، ما دام مقلباً بيد الليل والنهار، معروضاً على احداث الدهر وتعاود الايام".
ويظهر التوحيدي مرتدياً عباءة الميسنتروبيا المتوحشة النافرة: "والله لربما صلّيت في الجامع، فلا ارى الى جنبي من يصلّي معه، فإن اتفق، فبقّال او عصّار او ندّاف او قصّاب، ومن اذا وقف الى جانبي اسدرني بصنانه وأسكرني بنتنه، فقد امسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق مستأنساً بالوحشة، قانعاً بالوحدة، معتاداً للصمت، ملازماً للحيرة، محمّلاً للأذى، يائساً من جميع من ارى".
وبلغت به الغربة اوجها، فكتب يقول: "وأغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه ... يا هذا: الغريب من إذا ذكر الحق هُجِّر، وإذا دعا الى الحق زُجِر. الغريب من إذا أسند كُذِّب، وإذا تظاهر عذّب". ويجد ان مأساته هي عين حضوره في ذلك الزمان. فالزمان الذي احوج مثله الى ما بلغنا عن احراقه كتبه، "لزمان تدمع له العين حزناً وأسى، ويتقطع له القلب غيظاً وجوى". وهو الذي اضطره بين الناس، بعد الشهرة والمعرفة، "في أوقات كثيرة الى أكل الخضد في الصحراء، والى التكفّف الفاضح عند الخاصة والعامة، والى بيع الدين والمروءة، والى ما لا يحسن بالحر ان يرسمه بالقلم". ان تجربة قاسية كهذه، جعلت أبا حيّان يعاني محنة حقيقية في معيشه ومعاشه، هي التي طبعت رؤيته للعالم بتشاؤمية، ظلت رغم تجذرها وقساوتها، متفتحة على الحياة من باب السخرية والهزل.
ولعل ذلك هو الذي رقي بالتوحيدي بإبدال الانتحار الواقعي بالانتحار الرمزي، من خلال اقدامه على احراق كتبه. كما رقي بأسلوب السخرية والهزل، فأخرجه من حيّزه الفني الى حيّز آخر، بلغ به ذرى الواقعية، حين احرق بعبثية مطلقة، جماع مادة ادبه وفنه وهزله وسخريته وحكمته وعلمه، برمي كتبه دفعة واحدة للنار وجلوسه قبالتها يسخر منها ويهزل.
ونشير ايضاً الى ما يمتلك التوحيدي من جرأة على اقتحام اكثر المواضيع رسوخاً في الاعتقاد، بالنقد والتقليب والتمحيص والتفكيك، فيحمل قارئه على اعادة النظر في الجاهز من الآراء والموروث من الافكار، فإنما في جرأته هذه بالذات تكمن حداثته، وفي تبنيه لهذا الموقف سرّ خلوده، بقطع النظر عن النتائج التي اداه اليها بحثه، والملتبس او المحيّر او المقلق الذي انتهى اليه.
يناقش أبو حيّان النعيم الحسّي في الجنة، فيخالف الشائع والمتداول، ويدلو برأيه، من خلال قول أبي إسحاق النصيبي، "ما اعجب امر اهل الجنة، لأنهم يبقون هناك لا عمل لهم الا الاكل والشرب والنكاح. اما تضيق صدورهم! اما يملّون! اما يكلّون! اما يربؤون بأنفسهم عن هذه الحال الخسيسة التي هي مشاكلة لأحوال البهيمة! اما يأنفون! اما يضجرون!".
ثم يتبع التوحيدي ذلك بجواب أبي سليمان: "إنما غلب عليه هذا التعجب من جهة الحس.. لأنه قد صحّ ان شأن الحس ان يورث الملال والكلال.. وليس كذلك الامر في المعاد، اذا فرض من جهة العقل، لأن العقل لا يعتريه الملل ولا تصيبه الكلفة ولا يمسّه اللقوب ولا يناله الصمت ولا يتحيّفه الضجر.. فكيف اذا كان منقلبه الى عالمه الصرف الذي لا حيلولة له ولا تغيّر، وهو الوجود المحض والامر الصرف".
فالنعيم الحسي في الآخرة، يؤدي فعلاً الى مشاكلة لأحوال البهيمة، ولهذا يتعين تصوره من جهة العقل. وهذا رأي حديث وجريء في ذلك العصر، يناقض التفسير الشائع لظاهر النص القرآني، محاولاً التوفيق بين المعطى الايماني والمعطى القرآني. وقد آزره في ذلك فيلسوف قرطبة ابن رشد، حين وجد الغزالي يدعو الى غلق باب النقاش في هذه المسألة، مستعملاً سلاح التكفير، فأبرز قصور فهمه لمقاصد الفلاسفة الذين يسعون وراء جلاء الحقائق.
وموقف أبي حيّان من الصوفية، بالرغم من اتهامه بهم، موقف جريء وحديث في عصره. فالحكمة عنده مرتبة يصلها الانسان بسعيه وجدّه في الطلب. وهو موقف مباين لطرح الصوفية العقل بالكلية، وتعلقهم بالاوهام. فقد جاء في المقابسة 95: "رويت لأبي سليمان يوماً كلاماً لبعض الصوفية، فلم يفكه له، ولم يهش عنده، وقال: لو قلت انا في هذه الطريقة شيئاً لقلت: الحواس مهالك والاوهام مسالك والعقول ممالك.. الحواس مضلة والاوهام مذلّة والعقول مدلّة. فمن اهتدى في الاول وثبت في الثاني ادرك في الثالث. ومن ادرك في الثالث فقد افلح. ومن ضلّ في الاول وزلّ في الثاني وخاب في الثالث، فهو من الهمج".
شدّد التوحيدي على ضرورة تمجيد العقل وايلاء الدور اليه لأنه حاكم عفيف وقاضٍ عادل وصديق مشفق. وهو يعارض دعوة الداعين الى حصر العقل في معنى العقال، لأنه اطار للحرية، وليس منزعاً للتقوقع خشية الاخطار. وهو يؤمن بالانسان وقدراته، مؤسساً بذلك للنزعة الانسوية، التي ترى في الانسان قوة بناءٍ واكتشاف وصناعة غدٍ عظيم.
ان ايمان التوحيدي بقدرات الانسان العظيمة، يتوازى ايضاً مع ايمانه بأن الناس "في اصل جبلتهم وبدء خلقهم وأول سنحتهم قد افترقوا مجتمعين واجتمعوا متفرقين، واختلفوا مؤتلفين وائتلفوا مختلفين". وهذا الموقف يدل على شدة تمسك التوحيدي بخيارات الانسان العقلية، وحريته العميقة المنبثقة عنها. فما بالنا اذا عرفنا موقفه من الملك اي ملك، ومهما اختلفت الاسماء والالقاب: "الملك من ملك رقاب الاحرار بالمحبة"، فكأنه بذلك قد وضع تعريفاً حديثاً لا صلة له بمفهوم الراعي والرعية، ولا علاقة له بالحق الالهي ولا بالتغلب والقهر، تلك التصورات التي عاشت عليها الاجيال، حتى باتت تحسبها قدراً محتوماً.
وبعد، فهل يصح لنا ان نقول ان أبا حيّان التوحيدي، هو بحق سؤال الحداثة، كما كان سؤال التراث؟ انه كذلك، خصوصاً اذا ما وجدنا فيه شخصية مجنونة بالادب ممسوسة بالتغيير، تتطلع الى المستقبل، وبكل سؤال، فلا تريح ولا تستريح.
ومن خلال السؤال الذي لا ينتهي الا بعد ان يولّد سؤالاً آخر، يستيقظ في التراث سؤال الحداثة، كما يستيقظ في الحداثة المعاصرة سؤال التراث، على يدي أبي حيّان التوحيدي!
* كاتب لبناني


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.