في بداية الأربعينات، وبينما كانت الحرب العالمية الثانية على أشدها، وقد استعر لهيبها حتى هيمن على أوروبا كلها وبقاع أخرى من العالم، كانت الولاياتالمتحدة الأميركية تقف مترددة في دخول الحرب. في هذه المرحلة كان الفنان العبقري شارلي شابلن يعرض في نيويورك مسرحيته الشهيرة "الديكتاتور"، وبعدها بأشهر قليلة دخلت الولاياتالمتحدة الحرب، لتقلب موازين القوى، ويتحقق الانتصار للحلفاء، وهزيمة معسكر المحور بقيادة المانيا - هتلر. انطوت صفحة الحرب، وبدأ العالم فتح صفحة جديدة ولكن المسرح والسينما، خصوصاً هذه الأخيرة، ظلاّ يقدمان لنا - ربما حتى الآن - أشكالاً من البطولات وألواناً من المواقف والتفاصيل التي تمجد بعض الأشخاص التاريخيين في هذه الحرب. وتنتقد البعض الآخر. ليس سراً أن ثقافات الدول المتقدمة تسحب خلفها ثقافات العالم الثالث وفنونه وتمضي بها إلى حيث تتجه هي، فلا تجد الأخيرة نفسها إلا وقد انساقت في المسار عينه، ومن ثم فقد أصبحت السينما ذلك الاختراع الأميركي وسيلة لإضافة وعي جديد أحياناً، وأحياناً أخرى لتزييف الوعي السائد، ونجحت السينما في العالم الثالث، من هذه الناحية، نجاحاً كاملاً أو شبه كامل. ولأن الفن والسياسة وجهان لعملة واحدة، بحيث يعكس كل منهما ملامح الآخر سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فعندما التقيت الفنان أحمد زكي في الأسبوع الماضي، وتحادثنا حول فيلمه عن الرئيس الراحل أنور السادات، الذي يعرض حالياً على شاشات دور العرض الكبرى في القاهرة، بادرني بالقول إنه قام بانتاج الفيلم فحسب، ولم يكن يحدد موقفاً سياسياً مع الرئيس السادات أو ضده. هذا الفيلم الذي قام ببطولته باقتدار ملحوظ الفنان أحمد زكي أصبح حديث المدينة فور بدء عروضه، حيث يُستقبَل بوجهات نظر متباينة، بل توشك أن تكون متضاربة، وهو يطرح أسئلة أكثر مما يقدم اجابات. فالرئيس السادات لم يكن شخصية عادية، كما لم يكن عالة على المشهد السياسي المصري، حتى قبل الثورة، فمنذ شبابه المبكر كانت تجري في عروقه دماء السياسة، وكان دائماً يحمل رؤية وموقفاً من الوضع الذي كان مهيمناً في الأربعينات، بل إنه كان غالباً ما يتخذ مواقف تتجاوز ما هو متوقع منه. شارك في عمليات اغتيال، والتحق بأحزاب يثير بعضها الشك وبعضها الآخر يثير الحيرة، لذا فإن الفيلم "أيام السادات" يثير في عقل مشاهديه علامات استفهام محيرة، وتتزايد هذه العلامات مع قيام بطله أحمد زكي المتميز بقدرته الفائقة على التعبير بتبني هذا الفيلم واخراجه إلى الوجود. ما قام به السادات من عمل سياسي، خصوصاً طرحه فكرة السلام مع إسرائيل، والإقدام على تنفيذها بتضحيات بدت لكثيرين، وقتها، غير ضرورية ولا مطلوبة، هذا المسلك السياسي للسادات يراه كثير من المراقبين سبباً مباشراً للوضعية التي يراوح فيها العرب الآن في صراعهم مع إسرائيل، الذي اندلعت على طريقه حروب صغيرة، ولكنها مكلفة وسباق طويل لفرض الإرادة تميزه عملية عض الأصابع، بل إن كثيرين يرون أن اقتحام الجيش الإسرائيلي لبيروت العام 1982، وإعماله آلته العسكرية في قتل الفلسطينيين، وكذلك التعنت الإسرائيلي في إدارة الصراع مع العرب، كل هذا من التداعيات السلبية لاتفاقات السلام التي نفذها السادات منفرداً مع الإسرائيليين. قدم الفنان أحمد زكي في الفيلم شخصية السادات من منظور إنساني، مجسداً علاقته بالعمل الوطني، مذ كان شاباً متمرداً في مقتبل العمر. فقد تعامل مع الألمان ابان الحرب العالمية الثانية، ليس حباً أو ولاء في "الرايخ الثالث" بقدر ما كان سعياً للدفاع عن استقلال مصر. كما صور الفيلم طرده من الجيش نتيجة عمله السياسي، لافتاً إلى شخصيته المراوغة مع المحققين في قضية التخابر مع الألمان، ثم دخوله مع مجموعة من الشباب في مغامرة لاغتيال أمين عثمان الذي كان موالياً للانكليز ووزير المال بعد الحرب، ثم طرده من الخدمة بالجيش مجدداً، واضطراره إلى الاشتغال ببعض الأعمال البسيطة، والمعيشة في قاع المجتمع، حمالاً تارة وسائقاً لشاحنة تارة أخرى. كما يصور الفيلم لقاءه مع زوجته الثانية الحسناء جيهان، وهو لا يزال متعطلاً لا عمل له، وهو المتزوج وله من زوجته الأولى ثلاث بنات، ومبادرة جيهان بمصارحته بحبها له، وهي التي كانت في منتصف عمره تقريباً آنذاك! يكشف الفيلم عن مرحلة ثورة تموز يوليو والضباط الأحرار والصراعات الدائرة والمواجهات المحتدمة بينهم، وهو ما يتيح للمشاهد الفرصة لكي يتوقع، بل يفسر التخريب الذي حدث بعد ذلك في مسيرة الثورة، والحيلولة من دون تحقيق أهدافها كاملة، بل ربما الارتداد عنها في بعض الأحيان، حيث حجبت الغائية الشخصية والمصلحة الخاصة الغايات الأخرى العامة والمصالح العليا، بعد زمن قصير من وصول ثلة الضباط إلى قمة السلطة، وتحكمهم في زمام القيادة بإرادة مطلقة. كانت شخصية السادات مقموعة بين بقية الزملاء رفاق الثورة، عكس شخصية عبدالناصر الطاغية، ويكشف الفيلم في لقطاته عن هذا القمع المستمر له والاستخفاف به والتنكيت عليه ونهره فلم يجد أمامه طريقاً مأموناً لتفادي هذه المكانة إلا الالتصاق بأقرب شخص لعبدالناصر وقتها، وكان هو السيد المطاع عبدالحكيم عامر، فهو بهذا - ربما - أراد أن يحمي نفسه من سطوة "الكبير" ومن ضغائن الآخرين في وقت معاً. وبين لقطات الفيلم ومشاهده نرى أن السادات كلما مر بتجربة صعبة أو تعرض لإهانة تذكّر طفولته وعاد إلى الأحداث المبكرة من حياته. وقد نجح المخرج الكبير محمد خان في المزاوجة بين المواقف الآنية وتداعيات "الفلاش باك" بمقدرة عالية، تؤكد أنه مخرج يوظف أدواته السينمائية باتجاه تغيير وعي الناس وطرح أسئلة متقدمة عليهم وحثهم على المشاركة في ايجاد الاجابات. لقد حدثت تغيرات جذرية وعميقة في الشرق الأوسط والمنطقة العربية المحيطة بإسرائيل، وبسبب وجود هذه الأخيرة، وكانت المقولة السائدة إن إسرائيل هي جسم دخيل على المنطقة، وتغذت أجيال وأجيال على هذه المقولة وعاشت تردد الشعارات الرديفة لها، ربما منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية بكثير، وتغيرت أنظمة وأطيح بحكومات واندلعت حروب في المنطقة من أجل تحقيق الشعارات المرفوعة. وكانت إسرائيل تمثل ضرباً من "التابو" الذي يُحرَّم حتى ذكر اسمه في الصحف أو في المؤتمرات الخطابية، حتى لا يكون هذا نوعاً من الاعتراف بوجود هذا "الكيان الدخيل"، وهو الاسم الذي اتفق العرب على الكنايه به عن إسرائيل. في ذروة هذا الجو المعبأ بالدخان والبارود والعداء والهتافات المعروفة بأشكالها، يأتي رجل مثل السادات ليقلب هذه الهتافات على رأسها، بل ينحيها جانباً، وينزل بطائرته في تل أبيب ويذهب ليخطب في الكنيست الإسرائيلي ويقدم اقتراح السلام، منادياً بأن تكون حرب تشرين الأول اكتوبر هي آخر الحروب في الشرق الأوسط !. فهل السادات رجل سلام أم هو استمرار للشاب المغامر الذي يفعل ما لا يتوقعه الآخرون؟ هل هو شخص يحمل استراتيجية بعيدة المدى ويحمل قدرة على التضليل تنطلي حتى على الإسرائيليين أنفسهم كما حدث في حرب اكتوبر؟ أم هو رجل يائس وجد أن انقاذ نفسه أهم وأقرب من انقاذ شعب بأكمله، أو منطقة بكليتها؟ هل هو رجل أقرب إلى السذاجة و"الهبل" أم هو ماكر خبيث؟ السرد الدرامي في الفيلم يقدم لك الإجابة مفتوحة على هذا وذاك، فهو بطل استراتيجي من الطراز الأول، كما هو ماكر وخبيث ويمتلك القدرة على المناورة والتحدي. فمن المشاهد اللافتة في الفيلم المشهد الذي جمعه مع حلاقه الخاص الذي يسأله: وماذا عن الفلسطينيين يا ريس؟ فيجيبيه بقصة مفترضة: لو أنك تملك محلاً للحلاقة يتضمن عدداً من الكراسي، وجاء اناس أقوياء وجردوا المحل من هذه الكراسي جميعاً، بل ربما احتلوا جزءاً من المحل ذاته، وباءت كل محاولاتك لاسترداد حقك بالفشل، وجاء من يقدم لك كرسياً واحداً، فهل تقبل به أم تنتظر حتى يأتيك حقك دفعة واحدة؟ فيوافق الحلاق على الإجابة التي رسمها السادات بين طيات سؤاله، وهي "نعم أوافق"، فيكمل السادات: وهذا ما حصل مع الفلسطينيين، لقد قدمت لهم كرسياً فلم يقبلوه، بينما كان يتعين عليهم أخذه، ثم "هم وشطارتهم"، فربما يأخذون كرسياً آخر أو اثنين أو ثلاثة! لقد أجاب الحلاق على قدر فهمه، أو ما تخيل انه فهمه، بيد أن الحقيقة التاريخية هي أن الفلسطينيين قبلوا الكرسي، ولكن بعد أن اغتيل السادات غدراً، وهو يتزيا بالحُلة الأثيرة لديه، وعلى ساحة العرض العسكري، وهي المكان الذي ظن أنه أكثر الأماكن أمناً وحماية لشخصه. ومن المشاهد الأخرى اللافتة في الفيلم ذلك المشهد الذي قدم رؤية السادات للديموقراطية تقديماً فكهاً، فهو يستضيف مجموعة من أساتذة الجامعة في قسم اللغة العربية الذين درسوا السيدة جيهان السادات على عشاء، ثم "يتبسط" معهم، حتى يسأله أحدهم عن الديموقراطية، فيرد وهو يقدم له شيئاً من الطعام: كلْ يا جابر كلْ جابر عصفور فيه ديموقراطية أفضل من ان رئيس الجمهورية يقدم لك بيده "الفطيرة"! قصة الديموقراطية مع السادات قصة تحكى، وقد أثبتها الاستاذ محمد حسنين هيكل قائلاً: في يوم 13 أيار مايو 1971 قبل المعركة التي خاضها مع من أطلق عليهم لاحقاً "مراكز القوى" أراد السادات أن يتحدث إلى الأمة، وكان في جلسة الإعداد لهذا الخطاب رجلان هما الاستاذ هيكل والسيد حسين الشافعي، فقرر السادات أنه سيقول للشعب في الخطاب المزمع إنهم أي مراكز القوى قد منعوه من التفاوض مع "روجرز" وزير خارجية الولاياتالمتحدة حينذاك، فقال له هيكل - وأنا هنا أنقل عنه - إن الشعب لن يهتم إذا كانوا منعوك من التفاوض أو لم يمنعوك، لأن القضية الأساس الآن هي الحديث عن الديموقراطية، طالباً من الرئيس أن يركز خطابه على هذه القضية، وهو الأمر الذي نفذه السادات في خطابه بالفعل. وهنا نلفت النظر إلى إشكالية مهمة، هي أن الديموقراطية كثيراً ما تُستخدم كطُعم لذيذ المذاق يستغله كثير من الزعماء حتى الذين يعادون الديموقراطية أنفسهم ومن يريدون وأدها، في تضليل الجماهير وحملها على تبني أفكار وتأييد قرارات تخالف مصالحها الحقيقية. وكم من المصائب ترتكب باسم الديموقراطية! وأنقل من كتاب الاستاذ هيكل "خريف الغضب" الذي كتبه بعد اغتيال السادات، ربما تحت تأثير حال من الغضب بعدما تدهورت العلاقة بين الرجلين وتحولا من حليفين إلى عدوين، فقد زج السادات بهيكل في السجن لفترة قصيرة بعد أن ظن الأخير أنه عرّاب النظام الجديد. يقول الاستاذ هيكل في بداية الفصل الثاني من الجزء الثاني من الكتاب: "كان السادات كثيراً ما يعطي انطباعاً بأن تصرفاته وليدة انفعالاته، ولم يكن ذلك صحيحاً في المطلق، ربما كان صحيحاً في بعض المسائل الصغيرة، لكن في المسائل الكبرى كانت قرارات السادات كثيراً ما تجيء نتيجة حسابات طويلة، وإن كانت هذه الحسابات تدور وتجري وتصل إلى نتائجها داخل شخصيته الخاصة والعوامل التي كونتها". ويكمل الاستاذ هيكل أن هناك من القوى الاقليمية، من نصح السادات، وأشار عليه بالاتجاه إلى أميركا لأنها القوة الوحيدة التي تستطيع أن تمارس ضغطاً على إسرائيل. ونحن بالتأكيد لا نعتبر ما جاء في كتاب الاستاذ هيكل القول الفصل في شخصية السادات، لأن الحياد يحتم الأخذ في الاعتبار وجهات النظر الأخرى، ولكن مع ذلك يعد ما جاء في هذا الكتاب إشارة إلى قدرة السادات غير العادية على المناورة، على رغم ما يبدو للكثيرين. سيبقى السادات موضع خلاف وجدل، ولكن ما لا يختلف عليه أحد هو أنه أجاد الخداع والمناورة واستخدام الكثير من مناوراته وتجاربه ليربح حرب اكتوبر التي ترجح المصادر التاريخية، وحتى الإسرائيلية، أنها حرب نجحت فيها المناورة إلى أبعد تقدير. لكن القيمة التاريخية للرئيس السادات تكمن في أنه كسر "التابو" السياسي الذي كان مفروضاً على المنطقة، فرجل السياسة الحقيقي هو من يخترق جدار الحتمية والمواضعات ويمتلك الجرأة على تجاوز التوقعات المسبقة، والظروف الحاكمة في وقت معاً. ولأن الفن أيضاً اختيار يتجاوز المألوف والمتعارف عليه، بهدف تحقيق الابداع، فقد اختار الفنان المبدع أحمد زكي هذه الشخصية التاريخية المثيرة للجدل والاختلاف، لكي يحقق المعادلة الصعبة بين مصداقية الواقع وحرية الابداع. ولقد شاهدت الفيلم فعايشت السادات بطريقة كلامه وتصرفاته وتناقضاته الداخلية بين الفلاح ورجل الدولة. ومن يعرف؟ فلو كانت الفضائيات والسواتل موجودة في زمن السادات لربما استطاع الرجل تسويق أفكاره، وحشد حوله الملايين من المؤيدين لهذه الأفكار المباركين لتنفيذها، فهل يكون هذا الفيلم - بقصد أو من دون قصد - تعويضاً للرجل الذي توفي منذ عشرين عاماً، عن طريق إعادة تسويق أفكاره التي أيدها الكثيرون ورفضها الكثيرون أيضاً. عندما تحدثت مع الفنان أحمد زكي في بهو أحد الفنادق الكبرى في القاهرة، كان لا يزال السادات يسكنه في حركاته وسكناته، ويبدو أن الفيلم تنتظره وجهات نظر متباينة وأن الخلاف سيظل محتدماً حوله، مثلما هو محتدم حول السادات نفسه، وهو ما سيطيل حال التقمص الساداتي التي تهيمن على الفنان الكبير! * كاتب كويتي.