لا يمكننا ان نتحدث عن الأدب الإسباني وكبار شعرائه وكتابه، وعن الآفاق البعيدة التي بلغوها، ونغفل النظر الى شمال الخريطة الإسبانية، حيث يوقع الأدباء والشعراء مؤلفات باللغة الكاتالونية، وحيث تبدو البانوراما الأدبية مضطربة، وأقل اتساعاً بكثير من بانوراما الآداب المكتوبة بالإسبانية التي تثير اهتمام العالم، فتتحول بعض رواياتها الى أفلام سينمائية، وتترجم الى لغات عدة، وقد حصد كبار شعراء وروائيي الإسبانية جوائز نوبل للآداب، من أواسط الخمسينات وحتى مطلع الثمانينات، مثل الشاعرين الإسبانيين خوان رامون خيمنيز وفيسنتي الكسندري، ومثل الروائي الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز، والشاعر المكسيكي اوكتافيو باث. وفي الوقت الذي تحتل فيه الآداب الإسبانية مكاناً بارزاً، في بانوراما الآداب العالمية، يبدو الأدب الكاتالوني محشوراً في الزاوية، ولا يطعم خبزاً، لأن اكثر الروايات اهمية تصدر بطبعة لا تتجاوز الأربعين الف نسخة، وقد لا يعاد طبعها، كما ان امكان ترجمتها الى لغات اخرى حية شبه معدومة. وعلى رغم كل هذه الظروف السلبية التي يعيشها الأدب الكاتالوني اليوم، فإن الأدباء يحلمون بتجاوز عتبة الزاوية، فيترجم انتاجهم الى لغة اخرى، أو ينال احدهم جائزة نوبل للآداب ليلفتوا نظر العالم الى إنتاجهم أسوة بغيرهم. صدرت حديثاً روايتان من كتالونيا، تجسدان حلم وواقع الأدب الكاتالوني، إذ احتفل الروائي بالتسار بورثيل بترجمة اول رواية له الى الإيطالية - "عوليس في عرض البحر" - وبصدور اثر جديد - "الأمبراطور في مهب الريح"، لفت اهتمام النقاد في العاصمة مدريد، إضافة الى كل ما كتب عنه في الصحف المحلية. اما الرواية الثانية التي تجسد الواقع السلبي للأدب الكاتالوني فهي "أعراض ملازمة لاستوكهولم"، وقعها الكاتب - الناشر برنات بويفتوبيا، وينعى فيها بسخرية احتضار الثقافة الكاتالونية. المهم... إذا كان بالتسار بورثيل يصور في "عوليس في عرض البحر" الضغط الذي تتعرض له الحياة الجماعية الكاتالونية، يفلت فيه بطله ليبحر بعيداً ويتعرف الى ثقافات جديدة، ويبحر بحثاً عن شيء ما، يعيش في النهاية فرح ان يجد ما يبحث عنه، فإن اهم الروائيين الكاتالونيين - مولود في اندراكس عام 1937 - يوسع دائرة مؤلفاته، ويرسم في إنتاجه الأخير "الامبراطور في مهب الريح" صورة لوحدة الإنسان وفرديته في العالم الحديث. ويختار بورثيل احداثاً تاريخية من مطلع القرن التاسع عشر، لتكون منطلقاً لفكرة روايته، يبدأها بانتصار الإسبان على جنود نابوليون الثالث في بايلن عام 1808، ويأسر الإسبان فرقة عدوة يقودون رجالها الى قادش، حيث يغرق المركب في الجون ويموت اثنا عشر الف جندي، ويصل تسعة آلاف آخرون الى جزيرة كابريرا المقفرة، حيث يعيشون فيها زمناً طويلاً بلا ماء ولا طعام، فلا يبقى منهم إلا واحداً - اسمه هونوري غرابان - على قيد الحياة، يروي حكاية الهزيمة وتفاصيلها والرعب الذي عاشه ورفاقه في الجزيرة، الرفاق الذين يبقون رمز الإنسان الوحيد في عالم شاسع، يتحكم به المتسلطون. شخصيات الرواية عدة، ابرزها نابوليون الثالث وجيرار فلوري قائد فرقة من جيشه في إسبانيا، والمؤرخ اليميني الكسيس توكوفيل، الذي اعتبر الفيلسوف ادغار موران ان في كتبه سرّ فشل المثقفين الذين تحولوا الى الكليانية. نتعرف في صفحات الرواية الأولى الى مجموعة رجال مسلحين يصلون الى القرية السوداء، قادمين من كابريرا. ويغوي قائد الفرقة جيرار فلوري ومساعده هونوري غرابان فتاتين قرويتين فتهرب اولاهما المهووسة بقراءة شاتوبريان، من بيتها لتلحق بفلوري، فيهجرها وتتعذب كثيراً قبل ان تموت. اما الثانية فتنجب لقيطاً يصبح بالتالي ضابطاً في الجيش، وقد هدف الكاتب منذ الصفحات الأولى الى ان يعكس من خلال المغامرة، صورة ولادة العالم الحديث والإنسان الفردي فيه. ويجمع بورثيل من خلال احداث الرواية بين زمنين تاريخيين وبين رؤيتين للعالم، فهو يسترجع الزمن الرومانسي حين يستحضر "مذكرات ما وراء القبر" لشاتوبريان، ويواجه الزمن الرومانسي بطبيعة التاريخ، والهوة التي تبتلع الإنسان، التي يصفها بورثيل من خلال حكايات الجنود الباقين على قيد الحياة في الجزيرة، والتي يجعلها موضوعية عندما يدخل توكوفيل في الحديث، وتتيح المقارنة بين الأحداث والأحاديث مجالاً لنقاش بعض الأحداث السياسية: يظهر نابوليون الثالث شخصية مملة ومهووسة بالعظمة، فيصدر الأوامر العسكرية الصارمة، و يستوحي كتابات المؤرخين الرومان وحسب. ويهدف جيرار فلوري الى أن يحذو حذو الامبراطور، فيفرض العنف المتطرف على كل مظاهر الحياة بدافع المصلحة الشخصية. وفي ظل هاتين الشخصيتين المتسلطتين والعنيفتين، يظهر الجنود البسطاء الذين كانوا يعتقدون ان إخفاق الامبراطورية بدأ مع استسلام الجنرال دوبون امام جيش الإسباني كاستانيو، ولم يخطر في بالهم ان الجنود الأموات والعاجزين في معركة اوسترليتز هم ايضاً مثلهم كانوا امواتاً وعاجزين والامبراطورية في اوجها، لأن التاريخ يسجل دائماً كل البؤساء الذين تغتالهم الحروب. في رواية "الامبراطور في مهب الريح" يصبح الجنود المهزومون رمزاً للإنسان الوحيد والضحية، الذي يتخبط في عالم شاسع يحكمه "الأقوياء" المتسلطون، وفي عالم حديث لقيط، وقد عبر بورثيل عن بؤس هذا الإنسان بأسلوبه العميق والبسيط، والتعبيري الخاص الذي تكامل معه القارئ في روايات سابقة: "لولا والسمك الميت" "عوليس في عرض البحر" و"قلب العلماني". وبعيداً من ترجمة بالتسار بورثيل الى الإيطالية والنجاح الملفت الذي نالته روايته الصادرة حديثاً، يثير برنات بويفتوبيا عاصفة من الانتقادات والسخط، لأنه يعرض في روايته الجديدة "اعراض ملازمة لاستوكهولم" صورة ساخرة عن الأدب الكاتالوني، تجسده كاتبة من بلنسيا تحلم بجائزة نوبل للآداب. وتظهر في الرواية كرة ضخمة تشبه تلك الموجودة في حديقة فيلا اوليمبكا، وترمز الى الجهد الذي يقوم به الكاتالونيون الى أن يرتفعوا الى قمة اعلى من ان يستطيعوا الوصول إليها، فالأدب الكاتالوني يعيش مأزقاً حقيقياً، والفوضى هي طابعه المميز، ان هذا الأدب لا يطعم خبزاً، والأديب لا يستطيع ان يتفرغ للكتابة وحسب، والعلاقة الشخصية بين الناقد والكاتب هي المهمة لدى كتابة النقد، وبعض الكتاب ينالون جوائز قبل ان ينتهوا من كتابة الرواية، والصحافي يتحول الى حكم في لجنة منح الجوائز، وبعض الكتّاب يبتعد عن الكتابة زمناً، يتحرك لينهي اثره لدى الإعلان عن جائزة ما، فيصبح إنتاجه ضعيفاً لا يستحق القراءة. * كاتبة لبنانية.