العزيز محرر ملحق "آفاق" في جريدة "الحياة" تحية طيبة في البدء شكراً على نشر قصيدتي في ملحق "آفاق" الثقافي الصادر يوم الأربعاء 13 حزيران يونيو 2001. أعلن هنا أنني كنت منذ سنوات، ضد نشر الشعر، وشعري بشكل أخص، في الصحافة اليومية العربية وذلك ليقيني انه يمر مرور الكرام ولا يقرأه أحد الا القليل جداً من الشعراء أنفسهم وأنه لا يُمنح، لا في طريقة اخراجه ولا في الفضاء المكرَّس له، تلك الجدية المأمولة التي هي واحدة من متطلبات الشعر نفسه. أعلن هنا كذلك استغرابي البالغ للتحوير الجدي الذي خضعت له قصيدتي القصيرة جلال حيث بدلاً من: جَلَّ جلالُ الوردة قرأءنا: جلال الوردة، الجميلة التي لا تعني شيئاً على الإطلاق، حيث سمح المحرر لنفسه، ضمن اشتراطات هي في الغالب من طبيعة توفيقية، بحذف المفردة جَلَّ التي تتكرر بقصد ان تكون ذات مغزى شعري في أبيات القصيدة المعدودات، وهو أمر يزيد الطين بلة. ومما لا يخفى على أديب بارع متمرس بالكتابة مثلكم ان أية مفردة في النص، خصوصاً في نص مقتصد ومهموم في آن واحد بالاستعارة وبإتمولوجيا الكلمات، أي تاريخها في الوعي الثقافي، هي شأن مهم للغاية وليس أمراً محايداً بارداً ومن دون دلالة. ان جدلنا حول هذه النقطة ليس دفاعاً شخصياً، قدر ما يمس التباين الخطير في فهم الشعر، لنقل الشعرية، لنقل الشعرية، بين الشاعر وناقده أو ناشره أو الصحيفة التي ينشر فيها. انه حوار يتعلق مباشرة بطريقة القول الشعري، بدلالات المفردات، بالاقتصاد اللغوي، بالإحالات البلاغية والشعورية التي يمكن ان تؤدي اليها الكلمات العارية نفسها. اننا في صلب الحديث عن الشعر نفسه في نهاية المطاف. وعلى أية حال فإن الفعل جل لا يحتفظ فحسب بإحالات دينية كما قد يتصور البعض ولا يمثل من قريب أو بعيد خدشاً أو تطاولاً على الذات الإلهية جل جلالها. ها هو معنى الفعل جل بحسب واحد من أهم معاجم اللغة العربية، لسان العرب: "وجَلَّ الشيء يجِلُّ جلالاً وجلالةً وهو جلٌّ وجليلٌ وجُلال: عَظُمَ، والأنثى جليلة وجُلالة. وأجَلّهُ: عَظّمَهُ، يقال جَلَّ فلان في عيني أي عظُمَ، وأجللته رأيته جليلاً نبيلاً، وأجلَلْتُهُ في المرتبة أي عظمته، وجَلّ فلان يجِلُّ، بالكسر، جَلالة أي عظم قدره فهو جليلٌ..." الجزء الأول من طبعة دار الكتاب المصري، ص 662. على أن دلالة هذا الحذف يمكن تأويلها أسوأ تأويل، وهو أمر أحتفط به لنفسي، سوى أنني، في نهايات الأربعين من عمري وبعد أكثر من ربع قرن من كتابة الشعر، أشعر لأول مرة وبجدية بالمرارة والأسف ان يجري تعاطي الكلام الأرقى، الشعري، بهده الخفة. كانت هناك بالطبع امكانية عدم نشر النص نهائياً وهو أمر كان سيدل على الاحترام قبل ان يدل على الاستخفاف البادي اللحظة من نشره. اخترتُ فضيلة الصمت، أو القليل من الكلام، وسط ضجيج السنوات العشر الأخيرة، ولكنني اكتشفُ الآن ان الصمتَ والتواضع هما رديفان، في الوسط الثقافي العربي، على الضعف الإبداعي والخور الإنساني. لذا أكتب هذا التوضيح البسيط، الحافي، راجياً نشره في ملحق "آفاق" الثقافي، مرسلاً اياه مرتين، مرة بالبريد المسجّل وأخرى عبر الفاكس. أجلب انتباهكم أيها الكاتب والأديب والأخ ان مؤسسة "الحياة" هي مؤسسة ممولة من أطراف عربية وليست مشروعاً شخصياً لهذا المحرر أو ذاك، مُحْترِماً في الوقت نفسه والى أبعد الحدود درجات الاجتهاد فيها. لا يعني الاجتهاد، كما أحسب، هذا المقدار من التلاعب في نص صغير حَسَبَ الشاعر لكل كلمةٍ فيه حساباً. هذا المقدار لا يمت الى جوهر الاجتهاد بصلة. لهذا السبب أرسل من جديد نصاً آخر ربما سيكون نشره بشيراً بعلاقة راقية بين الشاعر والمؤسسة الثقافية تقبل مني أسمى آيات التقدير المقرون بأكبر قدر من المحبة.