قصة «تاجر البندقية» أشهر قصة عن جشع اليهود والتي لو كتبها شكسبير 1564( - )1616 في هذا الزمان لعوقب بتهمة «معاداة السامية». هذه القصة رغم التعتيم عليها هي جزء من التراث الادبي والفكر الانساني والتي تبرز حقيقة اليهود، وملخصها ان «انطونيو» الثري وصاحب اسطول سفن قد استدان مبلغاً من المال من «شيلوك» الذي اشترط عليه كمرابي يهودي ان لا يأخذ فوائد على المبلغ ولكنه ألزمه ببند غريب وهو ان يقتطع رطلا من لحمه اذا عجز عن السداد، ولان انطونيو واثق بأنه قادر على سداد المبلغ وعشرات اضعافه اذا ما عادت سفنه محملة بتجارته الواسعة، لكن السفن غرقت في البحر، وجاءت فرصة «شيلوك» للمطالبة بتنفيذ العقد في موعده، ولم تنفع كل الوساطات لتثني شيلوك عن المطالبة بما نص عليه العقد. وكما هو معروف في القصة، فإن انطونيو قد استدان هذا المبلغ من شيلوك ليدفعه مهراً لصديقه «باسينو» الذي وقف الى جانب انطونيو هو وزوجته الجميلة «بورشيا»، وكان لبورشيا قريب من رجال القانون المعروفين بصواب الرأي والدهاء، فكتبت له مستنجدة ان يجد لها حلا لأن القضية هي قضيتها وستقتل نفسها لو حدث مكروه لانطونيو الذي حقق حلمها بالزواج من باسينو واستدان بسببها، وجاء الرد من قريبها رجل القانون بأن تقوم هي بدور المحامي وارسل لها الحل وروب المحاماة فلبست لباس رجل وارتدت فوقه روب المحاماة واندفعت في الموعد المحدد لحضور المحاكمة وامام الجزع الذي احاط بكل الحضور، وخاصة «انطونيو» وزوجها الحبيب «باسينو» ادركت «بورشيا» خطورة المهمة التي ندبت نفسها لها، فبعث الشعور بجسامة المسؤولية في تلك السيدة الرقيقة قوة وشجاعة. وبدأت كلامها بتوجيه الخطاب الى اليهودي «شايلوك»، معترفة له ان من حقه بمقتضى قوانين البندقية ان يحصل على الجزاء المنصوص عليه في العقد، وهو اقتطاع رطل من جسم «انطونيو»، ثم حدثته حديثا لينا عذبا عن فضيلة الرحمة السامية، بأسلوب كفيل بأن يذيب اي قلب، الا قلب اليهودي «شايلوك». ويعتبر هذا النص عن مزايا الرحمة من ابلغ واجمل النصوص في الآداب العالمية. قالت بورشيا: ان الرحمة تنزل كما ينزل المطر من السماوات على الارض الموات فتحيا به ويخرج من هذه الارض كل نبات حسن. ان الرحمة من البركات المزدوجة، فهي بركة لمن يسدي بها وبركة لمن يتلقاها. انها الفضيلة التي تزين الملوك خيرا مما تزينهم التيجان، لان الرحمة هي حلية من عند الله، اما السلطة الدنيوية فلا تقترب من عرش الله الا بمقدار ما يمتزج عدل اصحاب السلطة بالرحمة، فينبغي ايها السيد «شايلوك» ان تضع نصب عينيك انه ان كنا نطلب الرحمة من الله الذي يملك أمرنا في يده، فلن يستجاب لنا الا اذا رحمنا الذين نملك امرهم في ايدينا. وامام هذا الكلام الرقيق الذي تحدثت به «بورشيا» لم يتراجع اليهودي «شايلوك» عن اصراره على اقتضاء الجزاء المنصوص عليه في العقد، وهو اقتطاع رطل من لحم جسم «انطونيو». وهنا تتجلى براعة «بورشيا»، حيث اتخذت موقف الحريص على مصلحة المجتمع العليا في نزاهة عن الهوى، قائلة بلهجة جادة: ان القوانين متى ابرمها المجتمع يجب تنفيذها بحذافيرها في دقة كاملة. ان هذا العقد شرعي والجزاء فيه منصوص عليه فمن حق اليهودي بمقتضى القانون ان يطالب برطل من لحم «انطونيو» من اي موضع يحدده من جسده. يقتطعه ولو من اقرب المواضع الى قلبه. ثم التفتت «بورشيا» الى اليهودي وقالت له: هذا حقك لا حيلة فيه ولا جدال عليه. لك ان تأخذه ما دمت مصمما على ذلك. ولكن الرحمة فوق العدل. فأناشدك ان تأخذ مالك الذي قمت باقراضه لانطونيو وتسمح لي بتمزيق العقد، فقال اليهودي شايلوك، وقد اطمأن الى حقه فازداد اصرارا: أقسم بديني وما أعبد انه لن تستطيع قوة على الارض أو على لسان بشر ان تغير من عزمي على تنفيذ العقد. فتحولت «بورشيا» الى انطونيو وقالت له ببراءة وهدوء: «لم يعد هناك ما يقال يا انطونيو، فعليك ان تعد صدرك لاستقبال السكين». ثم تتواصل احداث المسرحية، فقد طلبت «بورشيا» ان يأخذ «شايلوك» رطل اللحم من جسم انطونيو دون ان يريق قطرة من دمه. ولكن «شايلوك» قال: ان هذا ليس منصوصا عليه في العقد. فقالت بورشيا: صحيح. ولكن يجب ان تصنع ذلك بدافع الرحمة، فقال «شايلوك»: لا اجد ذكراً للرحمة في العقد، والعقد شريعة المتعاقدين. وهنا أثارت «بورشيا» نقطة دقيقة فقالت: ان العقد وهو شريعة المتعاقدين ينص على اللحم، ولكنه لا يمنحك قطرة واحدة من الدم، وانظر الى عقدك جيدا فلن تجد فيه الرحمة ولكنك لن تجد فيه اي ذكر للدم ايضا، وانت تعلم حكم القانون في اليهودي الذي يريق نقطة من دم المسيحي بغير حق، فأراضيك واموالك وكل ما تملك تصادر كلها نظير تلك النقطة الواحدة وتصبح ملكا لدولة البندقية.. بنص القانون. ولما كان من المستحيل ان يقطع «شايلوك» رطلا من لحم انطونيو من غير ان يريق نقطة واحدة من دمه، فقد امتنعت عليه وسيلة التنفيذ، ونجا انطونيو من المصير الرهيب. ولم تسكت «بورشيا» ولكنها واصلت القاء سهامها القانونية النافذة فقالت: ان العقد شريعة المتعاقدين كما قال هذا اليهودي. فليس له حق الا في الجزء المنصوص عليه في العقد. فاستعد يا «شايلوك» لقطع اللحم، ولكن حذار ان تريق الدم. واعلم ان من حقك رطلا واحدا لا يزيد خردلة ولا ينقص شعرة. والا حق عليك الاعدام بنص القانون ونصادر كل املاكك لصالح مجلس الشيوخ. ثم ان قوانين البندقية تقضي بوجوب مصادرة اموالك وثروتك لصالح الدولة لثبوت تآمرك على حياة واحد من رعاياها المسيحيين. فهيا اركع على ركبتيك، فحياتك الآن تحت رحمة سمو القاضي، وعليك ان تستلين قلبه بذكر مزايا فضيلة الرحمة، التي بالغت أمامه منذ حين في انكارها والتنكر لها. وقال القاضي لشايلوك: كان القانون يجيز لنا اعدامك ومصادرة ثروتك. ولكنني اهبك حياتك، وأما ثروتك فان نصفها حكمنا به لانطونيو والنصف الآخر للدولة. وصرخ «شايلوك» من الصدمة قائلا: لقد جئت شاكياً فخرجت مفلساً، لقد قصدت ان اذكركم بهذه الرواية او المسرحية الشهيرة والتي طمست في العقود الأخيرة ، وقصدت ان اذكر ان «شيلوك الحالي» يستبيح لحمنا ودمنا ويرتكب المحارق في حق شعبنا الفلسطيني ويحول الاراضي المحتلة الى مسلخ وفرم لحم الابرياء الغارق في حمام الدم، الذي لا يجد من يحميه او يدافع عنه، ولا يجد ملاذاً ايضا في القانون والشرعية الدولية، ولكن هذا الدم سيظل لعنة على كل اليهود، كما كانت المطالبة لانطونيو لعنة على شيلوك. الدستور الأردنية