لو قيل لي ما هي الأولويات الفلسطينية الأولى بخصوص تطبيق توصيات تقرير ميتشل للعودة إلى مفاوضات السلام لأجبت: كسب الحرب الإعلامية ضد حكومة ارييل شارون التي نجحت حتى الآن في كسبها. المهمة ليست في الواقع صعبة، نظراً إلى أن حكومة الوحدة الوطنية مشلولة بتركيبتها التي تضم دعاة ترحيل الفلسطينيين إلى الأردن وضرب سد العالي، كما تضم دعاة الاعتراف بدولة فلسطينية قابلة للحياة. وهذا ما يجعلها عاجزة عن تبني مشروع سياسي مقنع لحل الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. لم يبقَ لها لكسب رهان الحرب الإعلامية ضد القيادة والتنظيمات المقاتلة الفلسطينية إلا اللجوء إلى مناورات ذكية لحشر القيادة الفلسطينية في الزاوية مستغلة أخطاءها. سلاحها في هذه الحرب الإعلامية كان إعلان وقف النار من طرف واحد، للظهور أمام الرأي العام العالمي في موقف مَن "يضبط نفسه" ويفضل المفاوضات على المبادرة إلى العنف استعداداً طبعاً للانقضاض في اللحظة المناسبة على الفلسطينيين وفي جيبها ضوء أخضر ديبلوماسي وإعلامي. موضوعياً الفلسطينيون أوفر حظاً لكسب الحرب الإعلامية لو كانت قيادتهم واعية بأهمية هذا الرهان وبالأوراق الرابحة لكسبه: فهم شعب يحتله مستوطنون استوطنوا أرضهم انتهاكاً للقانون الدولي، وهم في دور الضحية والمحتل في دور الجلاد، يساعدهم على ذلك تحيين البي. بي. سي. البريطانية" لصورة جنرال المجازر التي عادت لتُلصق بشارون. لكن سلاح الفلسطينيين الضارب لكسب الحرب الإعلامية هو التزامهم الحقيقي بتطبيق توصيات ميتشل: ايقاف العنف بشتى مظاهره والمحافظة على ايقاف اطلاق النار. صحيح أن القيادة الفلسطينية الفردية والعاجزة عن توقع الأحداث وجدت نفسها مرغمة من أوروبا والولايات المتحدة على إعلان وقف النار من دون ثمن سياسي بعد انذار ال30 دقيقة الشهير الذي وجهه لهم كولن باول، ومع ذلك أخرجها تقرير ميتشل من ورطتها: استمرار العنف من دون افق سياسي. أساساً لأن الكفاح المسلح فقد دوره التحرري بعد اختفاء الكتلة الشرقية التي كانت ترعاه. لو أن القيادة الفلسطينية أدركت ذلك في الابان لما رفضت مقترحات كلينتون وحركت الانتفاضة والعمل العسكري وغضت الطرف عن العمليات الانتحارية التي أفقدت الشعب الفلسطيني رأس ماله الرمزي في الرأي العام العالمي. قلما وجدت نفسي متفقاً سياسياً مع إدوارد سعيد، كما وجدت نفسي متفقاً معه في تصريحه ل"رويترز" 22/6/2001: "الخطوة التالية يجب أن لا تكون إلقاء المزيد من القنابل، بل مواجهة ثقافية: توزيع منشورات في السوق السياسية الإسرائيلية تقص ما يكابده الفلسطينيون بالوقائع والأرقام والصور. إلقاء منشور على دبابة أكثر تأثيراً ]من إلقاء قنبلة[ ودخول إسرائيل ببراميل مملوءة بالمناشير تقول للإسرائيليين انظروا ماذا فعلتم بنا، ومع ذلك فنحن مستعدون للدخول معكم في مفاوضات سلمية، أفضل من نسف حافلة في خطوة اجرامية"، يقول ادوارد سعيد. هذا هو الطريق الملكي إلى كسب الحرب الإعلامية بكسب الرأي العام الإسرائيلي والعالمي. فلا شيء أشد تأثيراً على شعب ما من تذنيبه بالجرائم التي يرتكبها حكامه تحت سمعه وبصره. وأجد نفسي مرة ثانية متفقاً مع إدوارد سعيد عندما يؤكد: "حان الوقت لتكون للفلسطينيين قيادة معتدلة جديدة تعرف كيف يسير العالم"، لأن قيادة تتراوح بين العناد أمام عروض باراك ومقترحات كلينتون والاستسلام أمام انذارات شارون وبوش غير جديرة بالصدقية... وعليها أن تغادر المسرح لقيادة سياسة معتدلة ومعاصرة لعصرها، أو على الأقل تشرك معها عناصر معتدلة تعرف كيف تقدم الأهم على المهم، وتقرأ موازين القوى في الصراع وتعرف كيف تقتنص الفرص بذكاء وتناور بمهارة لكسب الحرب الإعلامية. على رغم ان السيناريو المتشائم هو سيد الموقف الآن، إلا أن اشارات نضج فلسطيني تلوح هنا وهناك، تبشر ببداية واعدة لفهم رهان كسب الحرب الإعلامية مثل تمرد "كتائب القسام" على قيادة "حماس" وانضمامها إلى وقف النار الذي اضطر عرفات الى إعلانه. يروي مراسل اليومية الفرنسية "ليبراسيون" من غزة، ديديي فرانسوا كيف جرى هذا التحول الخطير داخل أكبر الحركات احترافاً للعمليات الانتحارية: "الدكتور عبدالعزيز الرنتيسي مؤسس حماس ومنظرها لا يهدأ له غضب بسبب انضمام الجناح العسكري لموقف فتح وقبوله الهدنة ... للمرة الأولى في تاريخها دعت قيادة حماس كتائب عزالدين القسام إلى الانضباط بسبب إعلانها الأسبوع الماضي، بالاتفاق مع كادر فتح السياسي الذي يريد اعطاء حظ جديد للمفاوضات، ايقاف العمليات في الأراضي المحتلة عام 1948 من دون التشاور مع قيادة حماس السياسية. لكن موقف هذه الأخيرة لم يتأخر: "لقد فوجئت بالقرار" يقول الرنتيسي غاضباً ... نعم من حق الجناح العسكري لأسباب فنية أن يقرر عملياته باستقلال عن القيادة، لكن قيادته لا تملك أي حق لتقرير خط الحركة العام. وحصر كتائب القسام العمليات في الأرض المحتلة عام 1967 يمثل، يقول الرنتيسي، تغييراً جوهرياً لمبادئ حركة حماس نفسها". يعقب المستشار المقرب من ياسر عرفات والخبير في المجموعات الراديكالية هاني الحسن، على تمرد كتائب القسام على قيادة "حماس" قائلاً للمراسل المذكور: "مقاتلو حماس بدأوا يفهمون أن الحرب فن هدفه المشاركة في الجهود السياسية للحصول على انسحاب الجيش الإسرائيلي من أراضينا المحتلة، وليست ألعاباً أولمبية يكسبها مَن يقتل أكبر عدد ممكن". بدوره يعلق رئيس اللجنة الفلسطينية لحقوق الإنسان راجي صوراني على تمرد كتائب القسام على "حماس" قائلاً: "المناضلون على أرض المعركة يميلون أكثر فأكثر للواقعية، لأنهم أكثر احساساً بنبض الشارع ويفضلون الحفاظ على الوحدة التي تم بناؤها في العمل السري على متابعة أهداف سياسوية وهذا ما لا يرضي قيادتهم". في الواقع، وعت "كتائب القسام" التحدي الحقيقي الذي يواجه شعبهم: عدم تقديم الذرائع لحكومة شارون لتجنيد الرأي العام العالمي وراءها لتطبيق الخيار الوحيد الذي تمتلكه: الخيار الأمني، والتعلل بالعمليات الانتحارية لرفض تطبيق تقرير ميتشل كفرصة أخيرة للعودة إلى المفاوضات قبل تقديم المزيد من الخسائر المادية والبشرية التي قدم منها حتى الآن الفلسطينيون الكثير، والتي قال عنها وزير الخارجية الفرنسية هوبير فيدرين: "لا استطيع أن أرى الحياة في الأرض المحتلة من دون أن يعتريني الرعب". 7.12 مليون دولار خسائر كل يوم منذ 28/9/2000، انهيار الناتج الداخلي العام بنسبة 51 في المئة، تضرر 30 ألف فلاح، اقتلاع 280 ألف شجرة مثمرة، تخريب 2100 هكتار 70 في المئة منها أراض زراعية، تدمير 4 آلاف عمارة، و198 بئر وقتل 521 فلسطينيا بينهم 172 طفلا و77 طالباً حتى تاريخ 1/6/2001. وليس مصادفة أن يؤيد 52 في المئة من الفلسطينيين وقف اطلاق النار أملاً في ايقاف هذا التدمير الاجرامي للممتلكات والحيوات البشرية الذي تخصصت فيه المؤسسة العسكرية الإسرائيلية. اعطاء حظ جديد للمفاوضات والحفاظ على وقف اطلاق النار من دون ثمن سياسي فوري هو الكفيل بإفشال المناورات التي كسب بها شارون حتى الآن الحرب الإعلامية التي تكاد تغدو اليوم، في عصر ثورة الاتصالات، بديلاً عن الحرب. اعتقدت القيادة الفلسطينية التي لا تستمع إلى آراء أهل الاختصاص في إدارة الصراع أن تكثيف الانتفاضة والعمل المسلح والعمليات الانتحارية ستفضي إلى عزل حكومة شارون في الرأي العام الإسرائيلي واسقاطها، لكنها فوجئت بأن كل ذلك أعطى نتائج عكسية ودفع الرأي العام الإسرائيلي إلى الالتفاف حول شارون وموفاز. لأن كل خطر حقيقي أو متخيل على بقاء الدولة يدفع معظم الإسرائيليين إلى الانقياد وراء أكثر زعمائهم تطرفاً، لا يعود اليهم وعيهم النقدي إلا بعد تلاشي الخطر الوجودي. لن تمر حكومة شارون بامتحان عسير إلا إذا حافظت القيادة الفسلطينية وال13 منظمة فلسطينية على التقيد بتوصيات تقرير ميتشل لارغام حكومة شارون على التقدي بها بدورها، خصوصاً بالتوصية المركزية فيها: "تجميد كل نشاط استيطاني بما في ذلك تطوير المستوطنات المرتبطة بالنمو الطبيعي للسكان". لا تستطيع حكومة الوحدة الوطنية أن تطبق أو ترفض هذه التوصية من دون أن تتفكك. إن طبقتها غادرها ليبرمان وزيفي، وان رفضتها خرج منها وزراء حزب العمل واصطدمت بواشنطن والعواصم الأوروبية التي لن تلتزم دور المتفرج السلبي أمام تهديد إسرائيل لاستقرار استخراج وأسعار النفط واستقرار الدول الصديقة للغرب. تبلغت دمشق رسالة قصف محطة رادار جيشها في ظهر البيدر، فبادرت إلى ضبط "حزب الله" لإعادة الهدوء إلى مزارع شبعا. فلماذا لا تأخذ القيادة الفلسطينية الدرس من تصرف دمشق الحذر؟ ولماذا لا يقتدي ال13 تنظيماً فلسطينياً مقاوماً بواقعية "حزب الله" الذي اوقف اطلاق النار في مزارع شبعا التي كان يصرح قبل قصف الرادار السوري بعزمه على تحويلها ساحة حرب تحرير؟ وحسناً فعل، لأنه لو تمادى في حماسه لساعد من حيث لا يدري المؤسسة العسكرية على تنفيذ حرق جنوبلبنان، وضرب البنى التحتية ومهاجمة مواقع الجيش السوري في لبنان على الأقل. آن الاوان لتعيد القيادات الفسلطينية تعريف سياساتها: هل هي العودة إلى مسار السلام أم الانتقام من الاستفزازات الإسرائيلية؟ لاستدراجها الى هذا الفخ عادت المؤسسة العسكرية الى اغتيال الناشطين الفلسطينيين لتأجيج مشاعر أخذ الثأر العشائري ونسف وقف اطلاق النار.