} يستمر السجال حول قضية ترجمة الأدب العربي الى العبرية مثيراً استهجان بعض الكتّاب والمثقفين ولامبالاة البعض الآخر منهم. هنا قراءة في ترجمة ثلاث قصص الى العبرية للكاتب يوسف إدريس من خلال كتاب الباحث الاكاديمي المصري محمد جلاء إدريس الذي تناول ترجمة الأعمال الأدبية المصرية الى العبرية. العنوان نصف الطريق إلى الجوهر. العنوان هو الرسالة. وليست مصادفة أن يكون اسم الدار الجديدة التي تحاول ترجمة الأدب العربي والمصري في المقدمة طبعاً إلى اللغة العبرية: الاندلس. أليست الاندلس هي "البروفة" الأولى لفلسطين؟ ضاعت أولاً. وقدمت المثال البكر لضياع الأوطان. عندما ذهبتُ إلى أسبانيا قبل عامين. قلت ها هي فلسطين الأولى. وعندما أسمع أخبار حصار أهل فلسطين أقول لنفسي: ها هي الأندلس الثانية تضيع قطعة قطعة أمام أعيننا وها هم النازيون الجدد يكشرون عن أنيابهم في تل أبيب. على الجانب الآخر، جانبنا العربي، نعود إلى مربع البديهيات الأولى، نسأل عن النضال ضد العدو، هل هو استشهاد؟ أم انتحار؟ في هذا السياق جاء العرض من صاحبة دار أندلس. للترجمة وفي الوقت الذي انقسم فيه المثقفون العرب كالعادة حول الأمر. تحولوا من التأكيد المطلق للانتفاضة كما كان يحصل من قبل، إلى شيع وأحزاب، هناك من وافق على الترجمة، وهناك من رفض. معركة أخرى لا منتصر فيها أبداً، الكل مهزوم، ولكن المهم هو الانصراف حتى عن متابعة ما يجري في الداخل. التوقيت مسألة بالغة الخطورة، بعد أن تخندقنا وراء الانتفاضة، وشكلنا عمقاً استراتيجياً لما يجري هناك، تأتي الفرقة حول هذا العرض الجديد بترجمة الأدب العربي إلى العبرية. عندما تكون هناك معارك حقيقية لا يتم الخروج منها إلا بأخذ الناس إلى معارك غير حقيقية، أو على الأقل معارك ليست معاركهم في المكان والزمان نفسهما. وجدتني أعود إلى الكتاب المهم الذي صدر في وقته. عرضتُ من قبل الفصل الخاص بما تقوله صحافة العدو الصهيوني عن نجيب محفوظ. وها أنذا أعود إلى فصل جديد من كتاب "الأدب المقارن قضايا وتطبيقات" للباحث الأكاديمي محمد جلاء إدريس استاذ الأدب المقارن والدراسات الاسرائيلية في كلية الآداب في جامعة طنطا والصادر عن دار الثقافة العربية. هذا الفصل عنوانه "قضايا ومشكلات الترجمة الأدبية من العربية إلى العبرية دراسة تطبيقية تحليلية". والدراسة عن ثلاث قصص ليوسف ادريس ترجمت إلى العبرية وهذه القصص هي: "محطة" ترجمها اسحق شنيوم، و"الحالة الرابعة" و"طبلية من السماء" ترجمهما طوبيا شموس. وبعد مقدمات نظرية طويلة عن مفهوم الترجمة بين المحدثين والأقدمين، يستخلص الباحث ان على المترجم أن يكون من أعلم الناس باللغة المنقول منها واللغة المنقول إليها، حتى يكون فهمه لهما متوازناً. ويشير المؤلف الى انه يجب أن تتوفر في المترجم ثلاثة شروط هي: معرفة اللغة المنقول منها، واللغة المنقول إليها والمعرفة التامة والدقيقة بالميدان الذي يترجم فيه. بعد هذه المقدمات التي طالت كثيراً نصل إلى القصص الثلاث، فماذا فعل بها المترجمان؟ يقول المؤلف إن هناك اضافات للمترجم ظهرت في النص العبري وهي لم تكن موجودة في النص العربي المترجم عنه، وهذا أغرب من الخيال ذاته لأن المترجم قد يحذف وهذا ليس من حقه، ولكن ما يصل إلى حدود الجريمة، أن يضيف الى النص ما ليس فيه، يقول المؤلف: "هناك اضافات وضعها المترجم لا أصل لها في النص العربي. قد يكون لبعضها سبب وإن كان أكثرها لا مبرر له، وإن كانت بعض هذه الاضافات لم تخطر على بال المؤلف، فان الاضافات التي اقترحها المترجم إلى القصة ثلاثة أنواع: اضافات تفسيرية وتوضيحية لا بأس بها ربما تكون ضرورية أحياناً، اضافات لا ضرورة لها وإن لم تخل بالأصل، واضافات غير مطلوبة أخلّت بالمعنى المراد في الأصل. هذا عن الإضافة، فماذا عن الحذف؟ يقول المؤلف إنه من شروط الحذف أن يكون في الكلام ما يدل على المحذوف، وإلا كان الحذف تعمية وإلغازاً. ومن الشروط أنه متى ظهر المحذوف زال ما كان في الكلام من البهجة والطلاوة. وبعض الحذف يصل إلى حد خيانة النص الأصل. وبعد أن يدرس حالات الحذف في قصة طبلية من السماء يصل إلى قصة "الحالة الرابعة". ويجد فيها حذفاً يخالف التزام المترجم. إنه الحذف مع سبق الإصرار والترصد من دون حق مشروع في هذا المقام. ففي قصة "الحالة الرابعة" يستبعد المترجم عبارة: وكل شيء على أتم ما يرام. وحذف عبارة: "وكانت سحب الدخان حملها الهواء بعيداً". وعلى رغم أن هذه العبارة لها أهمية خاصة، إذ كانت سحب الدخان تمنع الطبيب من رؤية المرأة فلما حمل الهواء هذه السحب بعيداً، بدت المرأة واقفة أمامه. أما قصة "محطة" وقد ترجمها مترجم آخر. فالحذف يتم ايضاً عشوائياً وإن كان اتفق مع المترجم الأول في عمليات الحذف، فهو عندما يصل إلى جملة يصف المؤلف فيها الركاب في الأتوبيس، وهي تقول: "تقلقت صدور واصطدمت بطون واستعملت الاكتاف للمرور"، سرعان ما يحذفها ويستبدلها بجملة عن الأعضاء البارزة من الإنسان في الزحام. وهي جملة كما يقول المؤلف: "شديدة الرداءة، ولا تصل إلى الوصف الأصل الدقيق". وعندما يكتب يوسف ادريس: "وتبودلت كلمات الاعتذار بالإنكليزية والفرنسية والعربية والبلدية، فإن المترجم يحذف كلمة البلدية فوراً. استباح المترجم لنفسه كلمات وعبارات، فحذف ما لم يرق له، وترجم ما ترجم، غير مبالٍ باختلال المعنى في النص العبري. والتغيير لم يتوقف عند حدود النص بل يصل إلى عنوان القصة. قصة "طبلية من السماء" يترجم عنوانها "الشيخ علي يهدد". هناك إذاً - كما يقول الكاتب - عملية اغتيال للعنوان الأصل. اغتيال غير مشروع وليست له مبررات. والمقابل العبري موجود فلماذا هذا العبث، والمترجم نفسه يغيّر عنوان قصة "الحالة الرابعة" إلى "رقم أربعة". والفارق بين العنوانين شديد الوضوح. فكلمة الحالة تشير إلى حال معينة، أما العنوان الذي اختاره المترجم فليس له علاقة بمضمون القصة، ويمكن أن يطلق على أي شيء في المركز الرابع. وهناك الكثير الكثير من احوال التلاعب في النص حذفاً وإضافة وتعديلاً وتبديلاً، كأن يورد المؤلف الكلمة العربية والمقابل العبري لها بما يصل إلى حدود الفضيحة، لدرجة أنه يمكن القول إن النص العبري لا علاقة له بالأصل العربي الذي يكتبه يوسف ادريس. وهذه الأخطاء تبدأ من المستوى المعجمي. ومن مفهوم الكلمات، وهي لا تنم عن قصور ولكن عن اساءة فهم مسبقة للنص. سمح المترجمون - يقول المؤلف - العبريون لأنفسهم من خلال هذه القصص الثلاث تغيير النص الأصلي وتبديله من دون مراعاة للنواحي الاسلوبية على الاطلاق. وإن نظرنا إلى التغييرات التي أجراها المترجمون العبريون فيما بين أيديهم من نصوص عربية وجدنا كماً كبيراً منها أفقد هذه النصوص ايحاءاتها الاسلوبية الخاصة التي تكتسبها في كثير من الاحيان من دقة اختيار الالفاظ وملاءمتها مع بيئة الحدث. ويجمل المؤلف التغييرات الاجرامية التي أقدم عليها المترجمون في هذه العناوين: التصرف في النص، الزيادة في النص، الحذف والاسقاط، التغيير التام في النص، تدخل من المترجم مرفوض تماماً، خيانة لأمانة الترجمة، خروج على الالتزام بالنص المطلوب ترجمته... إن هناك حالة من التلاعب بالنص، أدت في كثير من الأحيان إلى تشويه الاصل وقلب المعنى المراد وقول عكسه. أما من ناحية المستوى المعجمي، فلاحظ الكاتب عدم إدراك المترجم أو تغاضيه عن ترجمة ما لا بد من ترجمته، أو تركه لكثير من الألفاظ من دون شرح أو توضيح. وفي كلتا الحالتين وقع الضرر على النص الأصل بصورة واضحة. وعلى المستوى الدلالي هناك حالة من إساءة فهم النص وهي نتيجة منطقية لعدم استيعاب لغة النص الأصل استيعاباً كاملاً، وأدى عدم إدراك خصوصية المفردات إلى الوقوع في مزالق فهم النص فهماً غير صحيح. وعندما يصل الكاتب إلى قضية المستوى الاسلوبي والتركيبي يقول: "هناك حالة من البتر البلاغي مما جعل العبارات ميتة وجافة لا روح فيها ولا طعم لها. وفقد النص العربي طعمه في مذاق القراءة. ولاحظ كذلك التصرف المطلق في الترجمة العبرية من ناحية تناسب الألفاظ وتقاطعها مع الحدث، الأمر الذي أخل كثيراً بجمال النص الاصل وروعته وبلاغته. هذا ما فعلوه بيوسف إدريس، فماذا فعلوا بالآخرين؟ إننا - نحن العرب - نقفز فوق هذه الاسئلة قفزاً، ونهرول - رحم اللَّه نزار قباني رحمة واسعة - نهرول جرياً وراء العدو. مع أن آباءنا قالوا لنا إن الدم لا يمكن أن يصير ماء أبداً. ها هم يهرولون جرياً وراء العدو من أجل ترجمة حفنة من الكلمات.