طرحت حركة الترجمة من لغة الى لغة مشكلة قديمة ما تزال مدار بحث حول هوية الناقل ومستوى معرفته بالمنقول. وازدادت المشكلة عندما ظهرت تيارات اقصائية تحاول تعمية او طمس الاصل واعتبار الترجمة الأولى هي المصدر الأساسي وبتر الاتصال بين الترجمة وأصلها الأول. حول هذا الموضوع قدم عبدالقادر بن شهيدة دراسة في "ندوة تونس" حول فيلسوف الاندلس تناول فيها المشكلة المذكورة انطلاقاً من سؤال عن "سبب وجود مخطوطات عربية اللفظ وعبرية الحرف لابن رشد". يبدأ بن شهيدة دراسته بتعريف الأساس التاريخي للمشكلة ولماذا اندفع مع صديقه احمد شحلان في باريس في السبعينات الى الاجتهاد في هذا الحقل واستقصاء الحقائق والبحث عن الأصول العربية لتلك المخطوطات. وحاول بن شهيدة بالتعاون مع شحلان الرد على اسئلة شائعة في الوسط الاكاديمي من نوع "فضل أهل الملة العبرية في انقاذ كتب ابن رشد". وللاجابة كان لا بد من توضيح التباسات كثيرة منها "الكشف عن هوية الناسخ العبري"، وسبب "لجوء أهل الملة العبرية للاستنساخ" وتصنيف ابن رشد كعربي المحتوى وعبري الحرف. وقام بن شهيدة بالتعاون مع شحلان في خوض هذه التجربة الشائكة بقصد وضع "الناسخ العبري" في اطاره التاريخي، الأمر الذي أدى الى "اكتشاف خلفيات غير منتظرة"، كما يقول بن شهيدة، عندما درس كتاب "النفس" لابن رشد وعقد مقارنة بين مخطوطات باريس ومودينا والنسخة المطبوعة، وقام بملاحقة تاريخية لمصدر مخطوطة كتاب "النفس" وتاريخ نسخها، وهوية ناسخها، ومن اين جاءت عائلته، وتاريخ عائلته، ومكانة اسرته في العصر الاندلسي، وتوصل بعد جهد ميداني بحثي الى اكتشاف اسم الشخص الذي أمر بالاستنساخ. ولاحظ ان الناسخ بالأحرف العبرية هو غير المترجم الى اللغة العبرية وأن هناك فاصلاً زمنياً بين النسخ اللاحق والترجمة السابقة. شجع هذا الاكتشاف الاكاديمي بن شهيدة وزميله شحلان على مواصلة البحث وبذل المزيد من الجهد لفك الالتباسات وتوضيح الجوانب التاريخية للصورة و"استخراج معانيها المؤودة". وكان لا بد من الاجابة عن سؤال "ما هو سبب وجود مخطوطات لابن رشد عربية اللفظ وعبرية الحرف"؟ وبدأ التحقيق لمعرفة الغايات والدوافع التي حركت الجاليات العبرية في الأندلس وفاس والقيروان والفسطاط وغيرها للاهتمام بمنتوج الفكر العربي عموماً والأمر باستنساخه منذ زمن بعيد. وتوصل بن شهيدة الى اكتشاف مرحلتين: الأولى، وهي النسخ بامانة ونقل النص كما هو بأحرف عبرية. بينما عمدوا في المرحلة الثانية الى الاختزال والتقليص والطمس والتلفيق والسطو، وأحياناً انتحال النص بعد طمس مصادره وأصوله بهدف الانفراد به واستخدامه لأغراض مذهبية خاصة. وحاول بن شهيدة تفسير أسباب انتشار التصانيف العربية التي وضعها "أهل الملة العبرية في بلاد الاندلس وفي المدن العربية الاسلامية الأخرى" ولماذا حرصوا على تبني اللغة العربية "لطرح شتى أغراضهم من فقه وعلم كلام، ومن شروح على التوراة والتلمود، ومن نحو وشعر وفلسفة وطب" باستخدام أساليب التعمية وهو علم عربي ابتكر كوسيلة لمسك الدواوين وصيانة أسرار الدولة خوفاً من تسرب المعلومات الى الخصوم. وتوصل بن شهيدة الى اكتشاف نوع من الاختلاف بين الأسلوب العربي في الترجمة والنقل عن اليونانية والسريانية والفارسية والهندية حين "لم يتوخ الناقل العربي" استخدام "لغة الاستثناء وحرفاً للتغطية" بينما لجأ الناقلون من العربية الى لغة رمزية لطمس وتعمية المصدر الأصلي. ويورد بن شهيدة الذرائع المتداولة لتوضيح هذا الالتباس مثل ان هؤلاء القوم عمدوا "الى توخي تلك السبل تيسيراً على من لا يحسن قراءة الحرف العربي … ويتكلم لغة العرب سماعاً". او مثل ان الأمر يرجع الى "نكبة فيلسوف قرطبة المفترى عليه، من أهل ملته، إذ تمكنت الجالية العبرية بفضل توخي تلك الطريقة من انقاذ تصانيفه من الاندثار والنسيان". او مثل تأثير كلام موسى بن ميمون واشارته "على أهل ملته بالاعتناء خصوصاً بتأليف فيلسوف قرطبة الذي حظي ضمن الجالية العبرية بسمعة سرعان ما أدت الى نسخ غالبية تصانيفه بالأحرف العبرية ثم الى ترجمتها الى اللغة العبرية". ويرد بن شهيدة على تلك الذرائع ويفندها بالعودة الى الأصول التاريخية، مشيراً الى ضرورة اعادة قراءة تلك الترجمات ومقارنتها لتحديد أصلها الأول والكيفية التي تم فيها تحريف او تحويل النص الأصلي عمداً او عن جهل توخياً للحقيقة الضائعة في المكتبات الأوروبية واراشيف المخطوطات. وازدادت الحاجة الى هذه المهمة، خصوصاً بعد ظهور تيار عسكي اقصائي يعتمد الفرع العبري او اللاتيني كأصل موثوق ونهائي في نشر وتحقيق أعمال ابن رشد العبرية واللاتينية من دون العودة او اللجوء "الى الشاهد العربي". وبعد ان يؤكد بن شهيدة على ان الكتب العربية التي ترجمت الى العبرية "مرت كلها بتلك المرحلة التحويلية من التعمية والاضمار التي تمس الشكل من دون نقل المعاني" وهي انتقلت زمنياً من مرحلة الناقل الأمين اللصيق بالنص الأصلي الى مرحلة الانفراد بالنص العربي وطمس معالمه الاسلامية وتقليصها و"صبغها بصبغة عبرية". وبسبب وجود تصانيف عربية لا تزال الى وقتنا في منزلة بين المنزلتين لا عربية ولا عبرية يقترح بن شهيدة الاسراع الى الاهتمام بها وكشف أصلها العربي من دون اهمال فروعها العبرية واللاتينية كفروع وشواهد خصوصاً في حال غياب الأصل العربي. ويقدم بن شهيدة في ختام دراسته تقنية بحثية لاستقصاء "تواريخ هذه المخطوطات المزدوجة والتحقق من هوية ونشاط ناسخيها ومترجميها او الآمرين بنقلها … وحصر قائمة الأقاليم التي كانوا يترددون اليها ويتصلون فيها بأعيانها". وكان بن شهيدة توصل الى هذه التقنية من خلال تجربة عينية طبقها على كتاب "النفس" لابن رشد وقامت مؤسسة "بيت الحكمة" في قرطاج باصداره منذ شهر تقريباً باشراف ابراهيم الغربي الذي نقله عن اللاتينية الى العربية. بعد ان ابان عبدالقادر بن شهيدة خلفيات السطو التاريخية ألقى زميله احمد شحلان الضوء على جوانب لا تقل أهمية تناول فيها مسألة الترجمة نفسها بالعودة الى الأصل العربي ومقارنته بالفرع العبري، وكشف العديد من الأخطاء الناتجة عن قصور فهم المترجمين للمفردات العربية الأمر الذي أدى أحياناً الى قلب المعاني. يعترف شحلان بدور الاعلام اليهود في الاشتغال بالعلم العربي وبراعتهم في استخدام علم الكلام والأصول وكتابته بلغة عربية سليمة وأحياناً بلغة بليغة بحرف عبري. واستمر الأمر الى ان انهار الحكم الاسلامي في الاندلس فرحل اليهود من اسبانيا الى البلدان الأوروبية "فهجرت العربية لسانهم ولم تهجر المنافع تلك العلوم"، وعندها انطلقت حركة ترجمة من العربية وجلّها "من نسخ عربية المضمون عبرية الحرف الى اللغة العبرية" ثم نقلت تلك الآثار "من العبرية الى اللغة اللاتينية". ويورد شحلان لائحة بمؤلفات ابن رشد نقلت الى العبرية او اللاتينية بلغ مجموعها 37 كتاباً من تأليفه او تلخيصه وشروحه لفلسفة ارسطو وافلاطون وغيرهما من فلاسفة اليونان. وبعد ان يستعرض عناوين الكتب يطرح اسئلة حول الترجمة ومدى نجاحها في نقل الفكرة الأصلية ومدى معرفة المترجمين بالعربية ويعقد مقارنة اختار فيها أربعة كتب لابن رشد وهي: تهافت التهافت، وفصل المقال، والكشف عن مناهج الأدلة، وكتاب الشعر. وسبب اختيار شحلان الكتب الأربعة كنموذج محدد لدراسته يعود الى وجود أصول عربية لتلك الترجمات وهو أمر يساعد في ضبط الأخطاء وتحديد الهفوات ومعرفة جوانب التقصير في الترجمة او النقل او تعدد الترجمات او وجود أكثر من مترجم لأثر واحد. استخدم شحلان تقنية ملاحقة المفرد في العربية والعبرية واللاتينية ومقارنته بمختلف الترجمات وتعددها او تعدد المترجمين في مخطوطات مختلفة. وأدى جهده الثمين الى اكتشاف مجموعة أخطاء بوّبها على أقسام مختلفة وأعطى أمثلة عليها، وهي جاءت كالآتي: أولاً، أخطاء ناتجة عن سوء القراءة، فيصبح لفظ سبب في الترجمة "سلب"، ومصدرها تصبح "مصورها"، والعقل يصبح "الفعل"، ويكفي "يخفي"، ولا تصبح "أو"، ومجاناً "مجازاً"، وعن منام تصبح "عن مقام"، والوقوف "الوقوع"، ورموز "مزمور"، وتناقض "نقص"، وجوب "وجود"، التثنية "التشبيه"، المجال "المحال"، الجنس "الحس"ً، السبعة "الشنيعة"، يساوق "يساوي"، يعلل "يقول"، افتراق "اقتران"، معقولاً "مفعولاً"، متفاوتة "متفارقة"، قررناه "قدرناه"، الوحدة "الوجوه"، حرفها "حركها"، صاد "ضاد"، وضعت "وقعت"، جرم "جزء"، أشباه "أشياء"، المجانسة "المناسبة"، الفاصل "الفاضل"، نافع "تابع"، وغيرها من الألفاظ التي تغيرت او انقلبت بسبب سوء القراءة. ثانياً، أخطاء ناتجة عن سوء فهم الدلالة والصيغ واشتراك الجذر او التشابه الصوتي بسبب انعدام النقط او تشابه الحروف او دمج كلمتين لتصبح كلمة واحدة او اعتبار كلمة واحدة كلمتين متمايزتين. ويعطي أمثلة على الأمر مثل لم يأذن تصبح "لم يسمع"، الحوصلة "الحصول"، الشاهد "المشاهد"، العصمة "العظمة"، الأماكن "الامكان"، التناسخ "النسخ"، مجلدات "جلود"، حكم "قضاء"، القبيل "قبيلة"، المناسبة "المنسوبة"، يرتاب "يرتب"، الاسراء "اسرائيل"، روايات "الرؤى"، المزينة "الموزونة"، الفجر "الفجور"، وعد "علم"، واللهم "الله". ثالثاً، أخطاء ناتجة عن التحوير بسبب الحذف نتيجة وقوع الجملة او الفقرة المحذوفة بين كلمتين متشابهتين، او بسبب غموض المعنى واستعصاء الفهم على المترجم، او بسبب داع عقائدي يحتم على المترجم حذف ما له علاقة بالاسلام، او بسبب استحالة ايجاد المقابل العبري. وأحياناً يأتي الحذف لسبب مجهول لأن المحذوف في الأصل بسيط. وأعطى شحلان أمثلة كثيرة على غموض المعنى واستعصاء الفهم، وعلى استحالة ايجاد المقابل العبري، وانتهى أخيراً الى أخطر أنواع التحوير وهو المتعلق بالشواهد القرآنية او أخطاء في قراءة الشواهد القرآنية او شواهد الحديث او الشعر. وأحصى شحلان من النصوص التي درسها 192 شاهداً قرآنياً بدّل المترجمون منها 18 وحذفوا 37 وقرأوا 47 قراءة خاطئة وحذفوا 56 لفظاً او جملة وغيروا 30 لفظاً. وأحصى 20 حديثاً حذف مترجم كتاب "الكشف" واحداً منها، وقرأ المترجمون 8 ألفاظ خطأ وغيروا 6 وحذفوا 11 منها. بعد ان أنهى شحلان دراسة النصوص المترجمة ومقارنتها بالأصول العربية أحصى عند مترجم "تهافت التهافت" المجهول 264 انحرافاً، وعند مترجم يدعى قلونيموس 184 انحرافاً، وعند مترجم "فصل المقال" 91، وعند مترجم "الكشف" 110 أخطاء، وعند مترجم كتاب الشعر 87 خطأ من دون ان يحسب الأخطاء المكررة في الكتب الأربعة او احتساب أخطاء ترجمات عناوين الكتب الواردة في النصوص المنقولة من كتب الغزالي اذ يصبح مشكاة الأنوار "شك الأنوار" والمنقذ من الضلال "مدقق الضلال"، الى أخطاء كثيرة طالت أسماء الاعلام والمذاهب والفرق والاستشهادات النثرية وغيرها من تحويرات ناتجة عن الزيادات وهي كثيرة ومتنوعة. ويلتقي شحلان في نهاية دراسته مع بن شهيدة فيطالب بدعم مشروع اعادة قراءة تراثنا واسترداده من اللاتينية والعبرية قبل فوات الأوان وخسارة فلاسفتنا عن طريق السطو على تاريخنا والاستيلاء على ذاكرتنا.