مهما شطّ الخيال بروائي او حلّق ليستحق عمله صفة "رواية خيالية" يبقى هناك شيء من السيرة الذاتية في الرواية. كنت على سفر الاسبوع الماضي وقرأت مغادراً لندن "حكاية حب" للدكتور غازي القصيبي. وفي الفندق وحيداً ثم في طريق العودة، قرأت رواية "البحر نفسه" للروائي الاسرائيلي أموس اوز. وتوقفت في الروايتين عند ما اعرف عن شخصية المؤلف في روايته. بطل "حكاية حب" محام، وغازي القصيبي يحمل دكتوراه في القانون الدولي، وهو يؤلف روايات في اوقات فراغه، وهذا ما يفعل السفير الخطير، ثم ان لكل منهما اولاداً وأحفاداً. وبعد ان تلتصق الصورة تفترق. فبطل الرواية مريض ينتظر الموت، والدكتور غازي في كامل صحته وعافيته والحمد لله، ثم ان قصة الغرام نفسها من نوع لا تسمح الحياة الشخصية والعامة للمؤلف به. اموس اوز لا يترك للقارئ حاجة الى البحث. فهو يقحم نفسه داخل روايته، فيتوقف ليعطي الرواية مجالاً لمراجعة سير القصة مع القارئ ونقدها ودرس شخصياتها. وتجتمع القصتان مع رواية "قصة الحب" الاصلية لأريك سيغال، في اسلوب "فلاشباك"، او مراجعة ذكريات الماضي، فيعقوب على فراش الموت، يتذكر قصة حبه الكبير، ويروي نتفاً منها لزواره من ممرضات وطبيب او رجل دين. وفي "البحر نفسه" تبدأ الرواية بالأرمل ألبير، وقد ماتت زوجته ناديا، المهاجرة الى اسرائيل من بلغاريا، ثم نراه يتذكر، او تتذكر هي ما كان من حياتها، في فصول قصيرة محبوكة بحرقة عالية. وومض الذكريات هو اسلوب اريك سيغال في كتابه "قصة حب". ربما كان احد اكثر المشاهد تأثيراً في قصة سيغال هو الصبح في "سنترال بارك" وأوليفر ينتهي بالسير فيه بعد ان كان في الحديقة نفسها تبادل رمي كريات الثلج مع جيني. اما ما يجمع "حكاية حب" و"البحر نفسه" فهو البحر، طالما ان الثلج عزيز في شرق البحر الابيض المتوسط، وروضة تأخذ يعقوب الى بيت صغير، او كابينة، وتتمشى معه على الشاطئ. اما شقة ألبير في باريام فتطل على البحر. اذا كان الدكتور غازي القصيبي اراد قصة حب باكية، فهو نجح قرب نهايتها، والبطل يموت ويوصي ابنه بزينب، من دون ان يعرف هل هي ابنته من روضة او ابنة روضة وزوجها. غير ان الرواية تعكس من علم كاتبها، فهو كنز معلومات عن الحب والموت والتدخين والأديان وروايات المؤلفين الآخرين. اموس اوز روائي محترف فاز بجوائز عدة في اسرائيل وخارجها. وكنت قرأت له مرة رواية "لتعرف امرأة"، غير ان اهتمامي به زاد بعد ان رأيته في برنامج تلفزيوني مع استاذي وصديقي الدكتور هشام شرابي، وقد عاد هذا الى يافا، ورافقه اموس اوز في جولة رأى فيها الفلسطيني المنفي بيت اسرته، وتذكر احياء سار فيها حولها مراهقاً. قرأت "البحر نفسه" مترجمة عن العبرية الى الانكليزية، في صياغة مبتكرة، فهي عبارة عن فصول قصيرة لا يتجاوز الواحد منها صفحة إلا نادراً، وبعضها مكتوب شعراً، او بشعر منثور. ويختلط فيها الحب بالجنس، مع غلالة من حزن تغلفها من البداية الى النهاية. ألبير يتذكر ناديا، والأرملة بيتيني تلاحقه، وابنه انريكو أو ريكو يبحث عن نفسه من التيبت الى سري لانكا، اما صديقة الابن ديتا فهي كاتبة سينمائية لها ثلاثة عشاق في غياب ريكو، وتقيم مع ألبير فيشتهيها ويتحرج. وأموس اوز يعطي كل شخصية حقها، حتى ان المنتج الكريه غيغي بن غال له من الفصول ما لغيره، بل له الفصل الاخير، مع انني كنت افضّل لو اختتم الكاتب بديتا، فهي اكثر شخصيات الرواية تعقيداً وتشويقاً ونبض حياة. اتوقف هنا لأقول انني اليوم وغداً، وربما بعد غد، سآخذ القارئ في سياحة ثقافية، فأنا أقرأ كل ما استطيع قراءته، عن اي موضوع، ولكن افترض ان القارئ ادق ذوقاً مني أو افضل، فأبدأ اليوم بقصص غرام، وبعض الشعر اللبناني، وأكمل غداً بشيء من الكتب السياسية، وقد اعود بعد غد بمراجعة خفيفة لبعض الثقافة. وبما انني اعطيت الحب والحزن حقهما مع غازي القصيبي وأموس اوز، فإنني اكمل بديوان "كلّن يومين" لأنطوان يونس، الذي يقول انه ورفاقه في الشعر الشعبي، اي الزجل، قدرهم ألا ينشر للواحد منهم ديوان "إلا بعد ان يكون مش باقي من العمر اكثر ما مضى... او بعد ما نترك الدني الدنيا...". سعيد عقل كتب "مقدمي" أي مقدمة للديوان ولم يخطئ حين قال "انطوان يونس شاعر منقدر عليه نعلّم الشعر". وأتصور ان القارئ غير اللبناني سيجد صعوبة في فهم بعض شعر انطوان يونس، كما اجد انا صعوبة في فهم الشعر النبطي، غير ان المواضيع واحدة من الذاتي الى الايمان، وعِبَر الحياة، والأسرة وغير ذلك. وحاولت ان اختار ما يفهم كل القراء، وأرجو ان اكون وفّقت. عن لبنان، قال انطوان يونس: "بعدو عَ الصخر الازميل/ بينقش عَ حجار الصوّان/ خلّي جيل يخبّر جيل/ ولا إيد بتدقر اي تمسّ لبنان". ومن العنترة الوطنية الى العنترة الذاتية: "ان جاني الموت يبشّرني/ وجَبْلي التابوت/ بقلّو روح ودشّرني اتركني مش فاضي موت/ يا ما في عالم خوتو جنّوا شوف حواليك/ توقّى الايام يفوتو/ وتروح عليك/ القبر بيحكي وسكوتو/ بيقلّك هيك/ يللي بيفضو وبيموتو/ بيكونو خوت". وتأثرت بتجربته في القول: "غنيت للأيام تَ انبح الصدى/ ومن كتر آخي ما بقا يساع المدى/ وسكتت صار الجرح يسأل شو بني/ قلّو الوجع: جنّيت فتش عَ الدني/ ونْدهت عَ الأيام... ما جاوب حدا". انا ندهت ورجع لي الصدى، وأكمل غداً بقراءات سياسية.