لن تحمل الانتخابات البريطانية أي مفاجأة. طوني بلير باق من دون تألق ولا رؤية. التغيير قد يأتي الى حكومته الجديدة بوجوه ستكون أكثر فأكثر على صورته. حزب العمال سيربح الانتخابات بأكثرية مريحة جداً لأن منافسه حزب المحافظين لم يستطع الخروج من أزمته ومن صراعات أجنحته ومن الوساوس الثاتشرية المدمرة. بالطبع تركزت الحملة الانتخابية على شؤون داخلية، وحتى أوروبا وما تعنيه من مزيد من الدخول في تطورات الاتحاد الأوروبي غدت شأناً داخلياً أكثر مما هي سياسة خارجية تهم الدوائر الديبلوماسية. وعلى رغم ضخامة الاحتجاجات على السياسة المتبعة في مجالي التعليم والصحة، فإن الناخب لا يستطيع أن يميز بين عهدي العمال والمحافظين. فهؤلاء أهملوا هذين القطاعين المهمين، واولئك حافظوا على الاهمال. لذلك كانت الحملة تتوتر وتغضب كلما اقتربت من المستشفيات والمدارس، بل انها تثور كلما اقتربت من الخصام المزمن بين الناخبين البريطانيين وكل الحكومات حول السياسة الضريبية، اذ تزيد الضرائب باستمرار وتتراجع الخدمات باستمرار. نشب شجار كلامي حاد في الأسابيع الأخيرة بين بريطانيا والمانيا. وقدمت مجلة "ديرشبيغل" الألمانية وصفاً مخزياً لبريطانيا المتوجهة الى صناديق الاقتراع. كان بعض الساسة الانكليز استعاد مرجعية هتلر والنازية لوصف المشروع الأوروبي الذي اقترحه المستشار الألماني غيرهارد شرودر، وهاجمه بأقذع الألفاظ. لم يكن ذلك سوى فصل من فصول الصراع الأوروبي داخل المملكة المتحدة، حيث لا يستطيع المحافظون أن يتصوروا المملكة جزءاً من كيان أوروبي موحد، ولا الجنيه متوارياً وراء اليورو، ولا المفوضية الأوروبية في بروكسيل متدخلة في السياسة المالية والضريبية لبريطانيا العظمى. في أي حال، بات البريطانيون يدركون ان القطار الأوروبي فرض عليهم استحقاقاً يمكنهم تأجيل الصعود اليه، لكن يصعب تجنبه أو تجاهله أو منافسته. عوامل كثيرة تفعل فعلها في التمنع عن التعامل بايجابية مع هذا الاستحقاق، بعضها نفسي، وبعضها سياسي - نفسي، وبعضها مالي، لكن الأهم يكمن في التخبط بين أميركا وأوروبا. ثمة لحظة حقيقة لم يستبقها المخطط البريطاني لمجاراة التقلبات والتعاطي معها بمرونة ومن دون انقلابات. والمسألة غير مطروحة بين خيارين فقط، التأمرك والتأورب، لكنها غير مفتوحة أيضاً على طريق ثالث واضح المعالم. انها مسألة تكاد تكون بريطانية، وبريطانية فقط، وتمس كل رواسب مراحل العظمة والامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. لم تحسم دول أوروبا الأخرى الجدل حول ما يتعلق ب"السيادة" الخاصة لكل دولة في اطار التزاماتها داخل الاتحاد. ولم تشعر تلك الدول بأن التوغل في الاتحاد يعني أن بروكسيل ستملي عليها سياستها الخارجية وتتلاعب بمصالحها الدولية. لكن بريطانيا متململة خصوصاً من كون الاستحقاق الأوروبي يقودها ولا تقوده، لذا فهي في وضع غير مريح. ولم يكن لها أصلاً ان تقوده، لأنها تعاملت مع "خيار" أوروبا، منذ البداية، ببرود وتشكيك وانتهازية. هكذا تخطو بريطانيا الى المقبل من الاستحقاقات من دون رؤية وبكثير من السلبية. ولا يعرف المحللون والمعلقون الانكليز كيف يتعاطون مع هذا الاشكال الذي يكاد يصبح بنيوياً. فالدولة العظمى لا تملك سياسة خارجية. بعضهم يسميها الولاية الأميركية ال51، بل هناك من شبهها بكلب يتبع صاحبه الأميركي لكنه مع ذلك يلاحظ ان الكلب يعوي عندما لا يستطيع شيئاً آخر. والأسوأ أن الحال مع واشنطن ليست دائماً مستقرة، اذ ان بيل كلينتون عامل جون ميجور بجفاء لأنه ساند جورج بوش الأب، أما جورج بوش الابن فلن ينسى العلاقة الحميمة بين بلير وكلينتون. وأكثر من ذلك، ولّى الوقت الذي كانت فيه للندن كلمتها المسموعة - ولو في الكواليس - في الديبلوماسية الأميركية. في وضع كهذا يصبح رئيس الديبلوماسية الأكثر عراقة مقيداً، بل مضطراً الى انتظار التوجيهات الأميركية، ليعلن رد فعل لم يعد ليفاجئ أحداً. لذا يعوّل على شخص وزير الخارجية ليعطي المواقف البريطانية شيئاً من نكهته وأسلوبه بغية شيء من التمايز. ولعل هذا الاهتراء شجع رئيس وزراء مثل بنيامين نتانياهو على معاملة روبن كوك بإهانة لا يستحقها وزير دولة عظمى صديقة لاسرائيل!