عشر أغان قديمة ذات لحن واحد، ترددها الذاكرة العراقية منذ مئات السنين، وغناها مختلف المطربين العراقيين: حضيري أبو عزيز ومحمد القبنجي والياس خضر وناظم الغزالي... وغيرهم. تتغير نبرة الصوت، وتبقى اللازمة نفسها، تلك المتفجرة من عمق الروح العراقية المكتوية بالعشق والهجر والتوسل الى الحبيب الذي غاب. وهذه أمور أصبحت في حقيبة التاريخ، بعد عقود من القتل والحروب والهجرات ودفن الموتى وحيدين، وزوال الأمكنة مع قصصها وحكاياتها ومآسيها. أغان هي نخبة الفولكلور العراقي، أبرزها "سلم عليه" و"يللي نسيتونا" و"قل لي يا حلو" و"مني شبدا وتاذيني"... تقودنا الى روح الفنانة العراقية وعازفة العود سحر طه، التي بدأ صعودها الفني يتتابع منذ التسعينات، وأخذت تفتش، الى اندفاعاتها الفولكلورية، عن حقوق اخرى لتجربة الصوت، منها غناء القصيدة الصوفية التي أدتها بحسب مزاجها الصوتي، ومن دون معوقات لحنية مدروسة. تلك الأغاني الفولكلورية تشير، عدا عن جماليات الغناء والموسيقى، الى حقيقة أن الغناء العراقي في شكله النسوي المتأخر، بدأ مرحلة النكوص الى الماضي، وهي ظاهرة لا تنحصر في الغناء فقط، بل وتشمل مختلف الفنون الكتابية. وأصبحت ظاهرة اختفاء الأصوات النسائية ملاحظة في الوسط النقدي العراقي، ومرد ذلك على الغالب الى الحاضر الخرب القلق الممزق للمجتمع برمته، وعلى مختلف الصعد نفسياً وبيئياً وثقافياً وسياسياً. وذلك ما يدفع الفنان، أو المثقف عموماً، الى التطلع الى الخلف، نحو ماض منجز كان ذهبياً بعرف اليوم. يرفد هذا الدافع فوبيا الاندثار، وهي ملازمة لكل أغراض الحياة، ابتداء من الأمكنة، مدناً وشوارع، حتى يمتد الأمر الى البلد نفسه، بتغير اسمائها واختفاء معالمها، وتشتت خريطتها الجغرافية، وأخيراً اندثار الذاكرة، والقيّم عليها، ألا وهو الانسان. والفنانة سحر طه نشأت في بيئة عراقية أصيلة، درست الغناء والعزف على آلة العود في الثمانينات، على اللبناني الراحل سعيد سلام في المعهد الموسيقي اللبناني، ثم تتلمذت على بديعة حداد سنتين، وشاركت في كثير من المهرجانات وغنت في دار الأوبرا المصرية، وتمارس مهنة النقد الموسيقي في الصحف اللبنانية. شارك سحر طه في بعض أغاني الألبوم هذه عازف العود المعروف عمر بشير. فعزف وغنت من مقامات الفولكلور التي أبدعت فيها، وأعادت الأذن الى تجليات حضيري أبو عزيز ومحمد القبنجي وأيام مقاهي شارع أبو نواس وحفلات المتحف البغدادي في الأربعينات والخمسينات: مقام "راست" وغنت منه "الليلة حلوة"، التي تقول كلماتها: هالليلة حلوة وجميلة/ آه جميلة/ علمته يرمي اسهام حلو المعاني/ ولمن تعلم زين صد ورماني. ومن مقام "أوشار" غنت "عمي يا بياع الورد" و"ميحانة ميحانة". وأدت أيضاً من مقامات "البيات والنهاوند والحجاز واللامي والكورد". واشتركت في العزف آلات عراقية مألوفة في المقامات العراقية كالجوزة والسنطور والرق والطبلة، إضافة الى موسيقى الفنان الشاب عمر بشير. ألبوم "بغداديات" لسحر طه، تدوين للذاكرة العراقية، خصوصاً أن صوتها الواسع المديد والعالي النبرة ينتشل الأذن من الحاضر ليعود بها الى اتون الماضي، الى الذاكرة الغنائية العراقية التي راحت تعاني هلوسة الفوضى والتطير السلطوي وتسخير تيماتها كي تخدم، على مر عقود من الزمن، فكرة يوتوبية واحدة: قوة البلد وصورة القائد وديمومة القوة والهيمنة وفكرة العز الكاذبة لبلد ممزق... ارتد بسبب حكامه الى عهود ما قبل المجتمع المدني. انها فوبيا اندثار الماضي الجميل، كزمن منجز، لم يعد مؤذياً لأبنائه، وهذا ما يدفع الى تدوينه وترديده والتغني به، وإلا ما حاجة امرأة شابة درست ادارة الأعمال وتتمتع بكل مواصفات المرأة الحرة الى التغني بأغنية مثل: "ميحانة ميحانة غابت شمسنا الحلو ما جانا؟" أغنية الأزقة والقرى البسيطة، أغنية العلاقات البطريركية التي تؤمن بالحب من بعيد ومن النظرة الأولى، ان لم يكن الوازع الداخلي هو أرشفة الماضي، وحفظه من الضياع، ثم الاتكاء عليه هوية يواجه بها الانسان العراقي، فناناً أو انساناً عادياً، غياهب المستقبل غير الأكيد، وغير المطمئن؟ يوحي ألبوم سحر طه أيضاً، بحقيقة أن عقود الحروب المتواصلة، القتل والدمار، تمجيد القوة وعسكرة مناحي الحياة وعواطفها وشعرها وغناءها، وتلك الهستيريا العاقر في رفع القائد الذكر، بشاربيه الأسودين، علي رغم تجاوزه الستين، وتقاطيعه الرجولية الخشنة، الى مصاف الآلهة، إذ جاء زمن الذكر، الرئيس، البطل، لابس البزة العسكرية وماسك الرشاش، فهو المهيمن على الحياة الاجتماعية عموماً، وهو من توجه اليه أغان من نمط: "كل شي بوطنه ذهب، قائدنا حجية ذهب"... وكل ذلك أزاح المرأة الى هامش الغياب، الى ركنها الأليف تاريخياً، ألا وهو المطبخ أو الأماكن الناعمة الآمنة، كأداة للتسلية وانتاج الأطفال، والترويح عن المقاتلين وازاحة العرق من وجوه الرجال، القادة الصغار المتشبهين بابن الآلهة وسليل التاريخ العريق. أزيحت المرأة عن حقول الفنون الصوتية خصوصاً، كالغناء والموسيقى، بعدما أصبح المجتمع المدني، المحكوم بقانون ومؤسسات راسخة تتيح هامشاً للفرادة... في خبر كان.