عندما تفكك الاتحاد السوفياتي مطلع التسعينات من القرن الماضي، كرّت سبحة مآسي البلقان. فالتشرذم السياسي سرعان ما انعكس خلافات عسكرية وحروباً داخلية بدأت في البوسنة ثم انتقلت الى كوسوفو فمقدونيا. وما تنقله وسائل الإعلام المرئية والمسموعة عن هذا الشأن شبه يومي منذ عقد من الزمن، لدرجة ان الرأي العام لم يعد يبالي بما يجري في هذه البقعة من العالم لشدة التسخيف الإعلامي الذي تبرع فيه نشرات الأخبار على الشاشة الصغيرة، عبر العالم قاطبة. لكن هناك مشكلة اخرى، اجتماعية الطابع، ما زالت تفتك بالنسيج الأهلي في البلقان، جاءت في سياق عملية التفكك السياسية والعسكرية العامة التي سرعان ما طالت البشر هناك. فهناك حالياً، بحسب تقارير الأنتربول وشرطة البلدان الأوروبية الغربية، ما يقرب من 120 ألف امرأة من أوروبا الشرقية خطفتهن المافيات الألبانية والمقدونية والمولدافية والصربية وأجبرتهن على العمل في مجال الدعارة بعد نقلهن سراً وبطرق غير شرعية الى أوروبا الغربية، حيث العملات الصعبة، والشهية الجنسية مفتوحة على كل جديد. ماذا يجري بالتحديد؟ بدأت اليوم المعلومات تعطينا فكرة واضحة عن مسار هذه العملية. فبعد خطف شابة جميلة يتمّ "ترويضها" وتشغيلها داخل بلدان البلقان نفسها، في حانات يرتادها عسكر القوات الدولية في كوسوفو والبوسنة ومقدونيا. ثم بعد استنفاد جزء وفير من طاقتها وخصوصاً بعد إدخال الإحباط والاستسلام الى قلبها، يفكّر الخاطف في "بيعها" لمافيوزي آخر، غالباً ما يكون ايطالياً، يعمل على تسويق الضحية بدوره في ألمانيا وبلجيكا وهولندا بعد بيعها لعميل آخر. وهكذا تنتقل الشابة مرغمة من مافيوزي الى آخر. أما أسعار هذه "البضاعة الحية" فترتفع بحسب حظوظ النجاح في ألمانيا وبلدان أوروبا الشمالية فتباع الشابة المخطوفة بخمسة آلاف دولار إذا كانت متوسطة الجمال، أما إذا كانت فائقة الجمال فيرتفع سعرها الى عشرة آلاف دولار. تلك هي أسعار السوق التي بدأت الشرطة ترسم معالمه الأساسية بعدما تمكنت من ضبط أعداد متزايدة من الشابات المخطوفات. خذ مثلاً سيلفيا المولدافية التي تركت قريتها الصغيرة في السابعة عشرة من عمرها، بحثاً عن عمل يسمح لها بإعانة أمها وإخوتها الصغار. وكانت قد علمت بوكالة في رومانيا تعد العاطلين عن العمل بفرص استخدام في اوروبا الغربية، فتركت أسرتها، في قرية كاهول، وانتقلت بالباص الى رومانيا. وفي بوخارست، تسلمتها وكالة التشغيل المزعومة وسحبت منها أوراقها الرسمية وسلمتها، بعد استقبال حار ووعود معسولة الى رجلين قاما بنقلها مباشرة الى الجحيم. بعد ضربها واغتصابها على مدى شهر متواصل على يد مافيوزي روماني عقب احتجازها في منزل يقع في منطقة معزولة، بيعت سيلفيا لعصابة ألبانية نقلتها بعد الاعتداء عليها مراراً وتكراراً الى ملاهٍ تقع قرب معسكرات القوات الدولية في يوغوسلافيا السابقة. بعدها انتقلت الى رجل عصابات ألباني آخر نقلها الى تيرانا وأجبرها على العمل في شقة مغلقة، برفقة شابة رومانية أخرى. كان على الشابتين ان تستقبلا، كل واحدة على انفراد، زبوناً لساعة واحدة فقط، على مدى ساعات النهار. من العاشرة صباحاً حتى العاشرة مساء، وأحياناً حتى منتصف الليل. وعندما كانت الشابة المولدافية او الرومانية تحتج أو تبدي علامات التعب أو الامتناع عن العمل كان "مالكها" الألباني يعمد الى ضربها بقسوة وقطع الطعام عنها وتهديدها بالانتقام من أهلها وإخوتها. وهكذا طوال سنة ونصف بشكل متواصل من دون ان يسمح لها بالإفادة من أي شيء لها أو لأهلها. وكأنها لم تعد تنتمي الى عالم البشر. اما القوّاد فكان يتقاضى مئة دولار أميركي او ما يوازي هذه القيمة بالماركات الألمانية. عن كل "دخلة" ويكفي ان نحتسب عدد ساعات العمل اليومية، مع عدد الأيام على مدار سنة ونصف، لنتصوّر مدى الثروة التي تمكّن من جمعها. ولأن شهية المال لا حدود لها عند الذين لا روادع اخلاقية عندهم، قرّر السجان الألباني نقلها الى زميل ألباني له يعمل في ألمانيا، يعمل في ميلانو وروما حيث لا يتوقف سيل السياح الأجانب الباحثين عن مغامرات جنسية، والتزمت عصابة ايطالية عملية نقل الشابة، مقابل مبلغ مالي محدد. والمعروف في هذا المجال ان المافيات الإيطالية تستخدم لهذا الغرض زوارق سريعة وطويلة، من نوع زودياك، غير قابلة للضبط بواسطة الرادار. وهكذا رُميت سيلفيا، ضمن مجموعة شابات أخريات، على شاطئ يقع جنوب نابولي. وطُلب منهن الاختباء في الغابة المجاورة وانتظار مجيء "أبناء العم" الألبان. لكن، لحسن الحظ، تعرقل مجيء هؤلاء ووجدت سيلفيا نفسها امام "ملائكة" الشرطة الإيطالية. لم تصدّق الشابات في المجموعة، وأعمارهن بين 14 و35 سنة، انهن تخلصن من رجال العصابات الألبان. فبدا لهن للحظة، أن الواقع حلم. ونقلت عناصر الشرطة الشابات الى مركز سانتا فوكا، وهو مركز يديره كاهن إيطالي، تحرسه الشرطة الإيطالية وتدعمه جمعيات أهلية إيطالية مختلفة. ولشدة اضطرابهن بدا لهن أيضاً ان عملية النقل بهذه الطريقة خدعة ألبانيا إضافية، وأنهن في طريقهن الى مركز عمل جديد، في المهنة السالفة نفسها. لكن الكابوس انتهى فعلياً، ووجدت سيلفيا محاطة بمئة وعشرين شابة أخرى، من انحاء البلقان، كافة، عشن المأساة نفسها، وتمكنت الشرطة الإيطالية من تخليصهن من براثن رجال المافيا الألبانية. كان حظ سيلفيا أفضل من سواها، ذلك ان الشرطة المحلية أحصت، العام الماضي 16 حالة وفاة لشابات بلقانيات وجدت جثثهن مشوّهة ومدهوسة بعجلات سيارات مرات عدة، مرميات على حافة الغابات المحيطة بنابولي وميلانو وروما. وبصمات المافيات الألبانية كانت واضحة على بقاياهن. أما مركز الأب سيزاري، فيحمل اسم "أم السلام"، السيدة العذراء، ويقع في سانتا فوكا. ويتسع هذا المركز لستمئة شخص تقوم الدولة بدعم هذا المركز بالتعاون مع جمعيات اهلية عدة. كما يعمل في هذا المركز الاجتماعي خمسة أطباء وخمس ممرضات، إضافة الى عشرات المتطوعين والمتطوعات. فالرحمة لم تنقطع من قلوب الناس. وفي سانتا فوكا مركز للخياطة ومطبخ. ومجالات إعادة تأهيل للشابات ومشغل للخياطة والطهو. يقول الأب سيزاري: "علينا، بادئ الأمر، ان نزيل الخوف من قلوبهن فنعمل لكسب ثقتهن، ثم نبدأ بمعالجتهن على الصعيدين الجسدي والنفسي، بعدها نحصل لهن على بطاقة إقامة رسمية، ثم على عمل". اما الحل فيراه سيزاري "بإقفال منابع هذه المشكلة في مولدافيا وبلدان البلقان كافة، حيث يبلغ الراتب الشهري للشخص الذي يعمل 20 دولاراً، في حين انه يسمع أن في إمكانه ان يكسب في إيطاليا أو أي بلد أوروبي آخر 800 دولار أسبوعياً. هنا تكمن المشكلة. ذلك ان وكالات الاستخدام الوهمية تلعب على هذه الفكرة". مصائب قوم عند قوم فوائد. فجشع المافيات الألبانية يقوم على بؤس الحال المعيشية في هذه البلدان الصغيرة والفقيرة التي خلفتها الحرب الباردة وراءها... والتي يغسل الكل يديه منها اليوم.