تستقبل صالات المركز الثقافي البلجيكي المقابلة لمركز بومبيدو معرضاً تشكيلياً لبنانياً بالغ الأهمية يستمر حتى منتصف أيلول سبتمبر 2001. وهو يندرج ضمن المهرجان العاشر للفرنكوفونية، وعنوانه "الاستثناء اللبناني" يشارك فيه قرابة خمسين مبدعاً من ميادين عدة، فكرية وأدبية وتشكيلية وموسيقية ومسرحية وسينمائية. أما المعرض فبدا ثمرة لتضافر جهود القطاع الخاص المؤلف من بعض صالات العرض البيروتية المعروفة ووزارة الثقافة، وهي صالة مرايا، وأجيال وجانين ربيز وابروف دارتيست. واكتمل المشهد التشكيلي بشهادة ناقدين لامعين هما جوزيف طراب ومهى سلطان، إذ تجاوز دورهما التقديم والتعليق والتحليل، وذلك لاعتبار النص النقدي ابداعاً فكرياً موازياً. تسعة أسماء "ما بعد حداثية". تمثّل تجارب تنتمي الى الثمانينات والتسعينات باعتبارها جميعاً من مواليد نهاية الخمسينات، وقصمت سحابة الحرب الأهلية حبواتها التخيلية الأولى. تسع شهادات تشكيلية حية وصادقة بدت فيها الفرنكوفونية وكأنها ذريعة لاعادة سحب ملف أو مرآة الحرب المهشّمة، والمودعة في أحد أدراج النسيان. ما هو أكيد في تجارب هؤلاء أن جرح الحرب اللبنانية ما زال ينزف تحت الرماد متجاوزاً ما دعاه طراب بغيبوبة جيل ما بعد الحرب. لعلها الصحوة الضميرية الملوعة لجيل الادانة والاعتراض والتدمير والعبث التشكيلي. معرض يستحق التوقف أمامه بمعزل عن مناسبته إذ بشرت برؤيويته قبلاً فاديا حداد وأمل سعادة وجورج ندره وايلي بورجيلي. وعلى رغم ان الاختيار ليس دقيقاً بسبب تنوع المستويات وتباعد الحساسيات، فإن ما يجمع هؤلاء هو جرح الحرب العميق. ونجده في المعرض يتجاوز الحساسية الفرنكوفونية التي ننسبها عادة الى التجريد الغنائي وعلى رأسه "المعلم" شفيق عبود، رائد مدرسة باريسالبيروتية. ولعل وشاحاً من التجارب الأنغلوساكسونية الأميركية لفحت بعض أحزانه، خصوصاً البوب والدادائية المحدثة، وهنا نعثر على عدم دقة الإحالات نسبياً. تملك مناخات ريما حجار حضوراً مذهلاً لدرجة انه لا يمكن تخيل المعرض من دون لوحاتها. دخلت هذه الفنانة بقوة بتعبيريتها المحدثة منذ معرضها اليتيم في صالة مرايا عام 1999. هي تدعو العين والوجدان للتجول في سيرة كائناتها المشيمية المحجورة في ثلاث عشرة زنزانة تطيرية، تطرح لوحاتها سؤالاً عن رفض عضويتنا المكورة للعيش في فراغات مهندسة متعامدة، على عكس الطائر الذي يشيّد عشاً يشبهه. ولكن الإحالة الانفصامية هنا قد تكون بسبب انشراخات التنظيم القاسي الذي دفن ذاكرة بيروت، وخلف ما خلف من حسرة بسيكولوجية. يبدو عالم ريما انطوائياً، عزلوياً، باطنياً، وفي هذا العالم الرهيف والحميم تصوّر الفنانة ذاتها تلتصق مع طائراتها الورقية. وترسم بالقلم الحر من جديد ومن دون أي تحضير، مذكرات لا تقبل المراجعة، تتوالد منها مرآتها الذاتية المتقرحة. ولعلها النموذج الذي امتصت حساسيته التشكيلية كابوس الجرح الساخن أبداً للحرب اللبنانية. ولا يعزّي وحدتها الا الأجهزة الاستهلاكية: الراديو أو الساعة، الهاتف النقال أو التلفزيون الخ... نعثر دوماً على مثل هذا الختم أو الوشم اللغزي الذي يضع العالم الاستهلاكي في بيروت في مدار العبث اليومي لآلية السلام الهش. وإذا خرجنا من حلم حجّار دخلنا في حلم ثيو منصور، وهو تتناقض قراراته الأسطورية الحاسمة مع عناوينه الموسيقية وخصوصاً الانطباعي دوبوسي. تبدو خصائصه صريحة في لوحة حصان طروادة، وانتشار المحاربين وأبواقهم في جسد المدينة. ونتبيّن منطقة الحرش أو السبق بصنوبراتها الجريحة، ونحس بقدرية عوالمه السردية في كثافة منطقها وحتمية تكويناتها ومتانة رسم عناصرها واختيار مواقع لا تقبل أي ازاحة. ولا شك بأن منهجه جديد على المحترف اللبناني، بحسمه الغرافيكي الذي يستثمر طباعات "البوب آرت" لما بعد مرحلة فرناند ليجيه وخصوصاً التراث الميتافيزيقي الايطالي. فالعالم مسرح وممثلون ورموز مؤثرة وأصيلة تذكر باجتياح سينمائية فيلليني للخيال. رؤوس النحاتة والخزافة سمر مغربل المزروعة في انشاءات من صفائح الخشب وبمساميرها وبراغيها السادية، تبدو وكأنها علامات عن حواجز الموت واغتيال المبني للمجهول الذي يحمل تذكرة هوية الآخر. تقع شهادة الفنانة في رأس هذه /الضحية/ العبثية، وصدق ذاكرتها التي تتجاوز استدعاءها عناصر الكثيرين من الدادائيين المحدثين، على غرار فنان البوب روشنبرغ. تنحت الرأس من السيراميك فيبدو غارقاً في مساميره وكأنها أشواك المسيح وقد انقلبت الى أسافين وقناع شاحب. لعلها عبثية القتل على الهوية التي أخجلت جبين تاريخ الحرب. أما ندى صحناوي فتبدو أشد الفنانين إصراراً على رفض استئصال رصاص الاغتيال من ذاكرة الحرب، بل تكاد تكون لوحتها التي تصوّر فيها على صفحة "الأوريان لوجور" رمزاً للمعرض، وكان الأحرى استخدامها في الإعلان، فالوثيقة تفضح ذلك اليوم المشؤوم يوم 13 نيسان ابريل من عام 1975 حيث نُفّذ الإعدام المجاني بواحد وثلاثين من ركاب "البوسطة" مع صورتها في "عين الرمّانة". يبدو انها انجزت سلسلة من نسخ هذه الصفحة الأليمة لتعالج كل مرة أعمدة نصوصها بتدخل غاضب ومعترض و"مفاهيمي" أكثر منه جمالي، ولكن هذا الهاجس سيتحول الى حساسية اختزالية مينيماليست في لوحاتها "الموسيقية" الأخرى، إذ تبدو نوطاتها صائتة وصامتة في آن ولا علاقة لها بضجيج أو صراخ اللوحة المذكورة. ولكن تجربتها لا تعرف الحياد، فصوتها حاضر في حنجرة المعرض مثل تحولاتها على مفردة شطرنجية دؤوب. تدعم وجوه غريتا نوفل مرثية الحرب هذه فتبدو بليغة في التألم، تفضل الاحتفاظ باللقية الحدسية والهمجية الأولى في الرسم. وينتمي سلوك خطوطها الى الغرائز التلقائية في الرسم الحر الكروكي مطهّرة من المحسنات البديعية. ويتفوّق الرأس الأخضر بنورانيته وتبرجه على بقية معروضاتها، ومن الغريب ان فنانة بمتانتها تعرض اتجاهين متعارضين في الجناح نفسه. ولعلّ هذا ما يدل على غنى تجربتها. تجربة عزيزة حرب في المعرض تبدو بالغة التمفصل مع الماضي التجريدي الغنائي في المحترف اللبناني. فهي تمتحن جمع ما لا يقبل الجمع الا في ذروة احتدام الانفعال الجمالي، تتوقف عناصرها عند نقطة الانفكاك الخطرة. أو التماسك الهش، على رغم جماليتها الغنائية الصريحة. وتتفاوت أصالة تمفصلها البرزخي بين حال العبث المطلقة التي استغرقت زملاءها، وتراكمات التجريد الموسيقي الذي درجت على التدرب عليه في "مدرسة باريس"، وهو اتجاه أصيل يجمعهما مع زميل دراستها جورج ندرة وآخرين. يتخبّط جان مارك نحاس في استخداماته. وهي تقع بين الوثيقة الطباعية والمرسومة ضمن تعميم سينمائي مرتبك ذي خصائص خجولة التمايز. ويتخيل البعض ان الاستغراق في الحداثة وما بعدها يعفيه من القياس الابداعي التقويمي. ولكن على العكس ان الرهان في هذه الحالة أشد مسؤولية ورقابة في تجنّب النمطية والتكرار وإلا وقعنا في عكس أسباب استحواذنا أو هذيانات ما بعد الحداثة، لننظر الى فضلات ماريو سابا أو عفشه: أبوابه والبقايا التي يفترض انها مستخرجة من بقايا الهدم والغارات والقصف العشوائي، أو تمثل الخروج من حرب التدمير الى حرب التعمير. فضلات يلفظها "البلدوزر" بالجملة، ولكن ابقاءها على الشعث نفسه يعيدها الى فحشها الواقعي من جديد، وكأننا بإزاء صورة أو فيلم توثيقي محايد، فاقد أية بصمة أو نكهة أو رأي. ماذا يمكن ان نحكم على استهلاكية بقايا سابا؟ ماذا سيمكن ان ندعوها بعد تجارب "الواقعية الجديدة" في الستينات، وماذا يمكن ان تُضيف الى ركام وحشة "الدادائية المحدثة" وأصالة أمثال روشنبرغ. تكاد الحداثة بأي ثمن تكون أحياناً ستراً لعورات المتواضعي الموهبة، هم الذين يراهنون على ما لا يعرفه المتلقي العربي، ويبدو ان هذا الرهان في باريس أشد وعورة. إذا قفزنا من أكوام سابا الى أوراق آلان تاسّو عثرنا على التسطّح نفسه في وجهه الآخر، مستخدماً اجترارية "الحروفية" الاستشراقية، مقتصراً على العبث بمفردتها المرتبطة بمعيّن قياس الخط المرسوم بالقصبة والحبر الصيني. يبدو الفعل الغرافيكي مجانياً مقارنة بمبادرات "حركية هارتونغ" و"فراغيّة فونتانا" ومن جاء بعدهم. يتورّط هذا الشاعر في عصبيته لمادة الكتابة "بالتغريب"، شهدنا قبله من يتفوق على خفّة تناوله التشكيل، وذلك من خلال حروفيين فرنكوفونيين يكتبون العربية من اليسار الى اليمين على غرار بلكاهية وقريشي ومهداوي والقائمة تزداد مع أمواج "العولمة" الثقافية. وللأسف احتلت حروفياته غلاف كراس المعرض واعلاناته، ويبدو اني لست الوحيد الذي لم يوافق مسؤول المعرض على اختياراته المُتناقضة. فالناقد طراب ألمح الى ذلك في مقدمته.