على نقيض ما نجد في الغرب، نادراً ما يختص أديب أو أديبة في العالم العربي بأدب الأطفال. كذلك نادراً ما اهتم باحث عربي بأدب الأطفال، وكأن هذا الأدب "مواطن من الدرجة الثانية" لا يستحق ما يستحق غيره من الاعتبار. فجاء كتاب فادية حطيط يسدّ بعض النقص في دراسة أدب الأطفال. والكتاب دراسة جدية، قائمة على الاحصاءات وتحليل عدد كبير من القصص، ونقدها، والمقارنة الموضوعية والدقيقة بينها. أول ما يلفت نظر قارئ كتاب الباحثة فادية حطيط "أدب الأطفال" في لبنان دار الفكر اللبناني 2001 هو غلاف الكتاب: صورة جميلة رسمها طفل تعبر ألوانها والشمس المشرقة الضاحكة في زاويتها عن فرح هذا الفنان الصغير بالحياة، كما توحي بإحساسه بالحماية والدفء والانتماء رسمة البيت الذي يحتل الحيّز الأكبر من الصورة. وموضوع الكتاب هو الطفولة، ما يقدّمه أدبنا العربي ولا سيما اللبناني لهذه الطفولة، وقيمة القصص التي يقدمها. فهل تتمشى هذه القصص مع الصورة المشرقة التي رسمها رمزي الأمين للغلاف؟ الكتاب ست مقالات، تقول الكاتبة بأمانة انها ليست كلها جديدة، إذ بينها ما كانت نشرته أو ألقته سابقاً في بعض المؤتمرات. تبدأ فادية حطيط الكتاب بمقالة جيدة ومفيدة تتابع فيها بايجاز تطور قصص الأطفال في الغرب، ثم في العالم العربي، فلبنان، وتبيّن كيف ازداد اهتمام العرب بهذا الفن عقداً بعد عقد. ولكن، على رغم ازدياد هذا الاهتمام، تشير، وعلى حق، الى الضوابط والحدود الكثيرة التي تقيد هذا الأدب، مما يتنافى أحياناً مع واقع الطفل أو المراهق، وما يريده أو يفعله حقاً. وهنا أود أن أشير الى خبرتي الشخصية التي تثبت ذلك: كتبت روايتين للمراهقين، وكان بين أصدقائي المتخصصين بالتعليم وأدب الأطفال من اعترض على انني جعلت أحد أبطال القصة يكذب، وفتاة أخرى تحسد ابنة خالتها، على أساس ان الكذب والحسد غير أخلاقيين. لم تهمهم في القصة أسباب هاتين النقيصتين في الولدين، ولا العوامل النفسية وراءها، وانما فقط ان الكذب والحسد عيبان، وكأن كتب الأولاد ينبغي أن تعطي دروساً في الأخلاق من غير أن تكون لها صلة بالواقع. أما مقالة "الوظيفة التربوية لأدب الأطفال" فتؤكد أهمية هذا الأدب. فعبر أمثلة كثيرة من قصص الأطفال تبيّن الكاتبة ان ما قد يتوهمه البعض قصصاً وضعت فقط لتسلية الصغار، هي، فوق ذلك، قصص تصوّر صعوبات الحياة، كوجود الشر والأشرار، وقلق الأطفال ومآزقهم الوجودية، وكيف تشتغل هذه القصص على جعل الطفل يتماهى مع شخصياتها، فيعيش مخاوف البطل ومآزقه النفسية ليتوصل معه الى الحلول. هذا كله يثبت أهمية الدور الذي تلعبه هذه القصص في النضوج الاجتماعي والاخلاقي للطفل. ومن أمتع ما ورد في هذه المقالة اظهارها الدور الهام الذي يلعبه السحر والخيال في قصص الأطفال. ترينا، أولاً، أن لكل مرحلة من مراحل نمو الطفل حاجة الى نوع خاص من الخيال يختلف عنه في المراحل الأخرى، ذلك "ان الطفل لا يحتمل كثيراً العمليات الذهنية عند الكبار، فهو لن يخسر مهما تضافرت عليه القوى، وهذه معادلة عاطفية، وليست ذهنية" ص 35، لذلك يغلب اللاواقعي والسحري على اهتماماته، وتنجح عنده قصص الخيال والسحر واللاواقع، هذه العناصر التي تكون دائماً مع الضعيف، والطفل من هؤلاء الضعفاء، تساعده على أن ينجح دائماً، مهما كانت الصعوبات. أكبر برهان على ذلك هو النجاح المنقطع النظير لسلسلة انكليزية من الروايات القائمة كلها على السحر، وهي السلسلة التي بطلها Harry Potter. ظهر الجزء الأول منها منذ سنتين، في ما أظن، وقد ترجمت السلسلة الى عشرات اللغات، وباعت ملايين النسخ في كل أنحاء العالم. ومن الأمور المهمة الأخرى في هذه المقالة ان الكاتبة لفتت النظر ص 46 الى خطأ شائع وهو ان قراءة القصص مضيعة لوقت الأطفال، فتؤكد ان القراءة لمجرد المتعة تتضمن فائدة تعليمية متنوعة الجوانب تعرضها ص 47 - 49 من الكتاب. وحين تنتقل الكاتبة الى "قصص الأطفال في لبنان" نجد الدقة العلمية في تحديدها عددها وأنواعها، وفي انتقادها ما يشوبها من نقص، تؤيد كل ما تذهب اليه بالقصص التي درستها. من غير أن تصرح بهذا الانتقاد يستشفه القارئ من ايضاحها أن قصص الحيوان ذي الأدوار الانسانية توجه الأطفال الى عدم المغامرة، الى البقاء ضمن المجموعة، والى عدم الفردانية. أما قصص الحيوان الرمزية فتقليدية في تصويرها البطل، مثلاً ص 89 - 90. والقصص الواقعية التوجيهية محدودة وفقيرة العناصر ص 92، وحوالى نصف عيّنة القصص التي درست تتخذ أبطالها من الذين تجاوزوا سن الطفولة وكأن على الصغار أن يتماهوا مع هؤلاء الكبار بوصفهم النماذج المطلوبة ص 107. إضافة الى أن البطولة من حق الذكور وحدهم في أكثر الحالات. وحتى هؤلاء اليافعين يكثر كلامهم وأفعال حركتهم في المكان، في مقابل قلة أفعال التحوّل، إذ يغلب الطابع الوصفي على القصص. وحتى تلك التي فيها أعمال، فإن حيّز الفعل المتروك لأبطالها ضيّق، وأفعالهم تافهة، وتدل على تبعية كأنها نوع من القدر بالنسبة لأبطال القصة الذين من المفترض أن يتماهى معهم القراء الصغار ص 109 - 110. كذلك وجدت الكاتبة ان القصص الدينية الاسلامية قائمة على الخوف والترهيب والعقاب القاسي، على نقيض القصص الدينية المسيحية القائمة على الترغيب والمحبة لا الترهيب ص 96 - 97. ان هذه الموضوعية في تقييم القصص الدينية نجدها أيضاً في تأكيدها ان بعض قصص الحيوان الرمزية يدعو الى التفكير والحكم المستقل وعدم الانجراف وراء الأكثرية، وان الآباء ليسوا دائماً قدوة يقتدى بها 90 - 91. فلا تعتبر كل القصص الرمزية ذات قيمة واحدة. ولا تكتفي الكاتبة بالملاحظة والنقد، وإنما كثيراً ما تحاول تعليل ما تلاحظه في هذه القصص. من ذلك، مثلاً، ان القصص الوصفية التوجيهية تدور أحداثها في المنزل بالدرجة الأولى لأن ذلك يسهل على المؤلف ضبط وضعيات التأليف وتمرير رسالته بسهولة على لسان احدى شخصيات القصة ص 104. أو تعليلها انعدام قصص الخيال العلمي في الأدب العربي عموماً بسيطرة الشعور الديني على العرب وصعوبة تقبلهم تحدي الانسان لقوى الطبيعة حتى النهاية ص 100، أو تعليلها سبب حدوث معظم القصص في الماضي ص 103. أما المقالتان الرابعة والخامسة فذاتا موضوعين متشابكين، إذ تبحث الأولى في "التنشئة الاجتماعية في قصص الأطفال" والثانية في "التنشئة السياسية للبنات في قصص الأطفال"، ولذلك كان لا بد من بعض التكرار فيهما. قصص سلبية كذلك تتصف النماذج الانثوية في هذه القصص بالسلبية، فالامهات يغلب عليهن الجانب الوجداني، وان عملن، ففي حيّز ضيق جداً، كترتيب البيت واعداد الطعام، ينتظرن من ابنائهن الحب والعناية ومن بناتهن الاعجاب والتماهي. تقول الكاتبة: "لا ريب ان هذه النماذج تستمد جذورها من البنية الثقافية التي تقف وراء انتاجها. على الابن الذكر أن يرعى أمه، الانسانة المعطاء الفاضلة والعاجزة، أما البنت فعليها الاعجاب بالأم والتشبه بها، خصوصاً لجهة الحنان والتدبير" ص 148. أما الزوجة، فالملاحظ ان صورتها تختلف كثيراً عن صورة الأم، فالزوجة تخطط وتدبّر وتنصح، فصورتها ديناميكية، على نقيض صورة الأم الثابتة المستقرة، انه "الجانب المتعلق بالحب وهو يؤدي الى التحرر من سلطة تقاليد الجماعة" ص 151. أما الصبية فيلاحظ غلبة الجانب الجسدي عليها. لا فتاة واحدة طموحة، مغامرة، وتجربة الأنثى الوحيدة هي تجربة الانجاب. حتى حين تكون الفتاة شخصية رئيسية في القصة لا تكون بطلة، بل على العكس، تكون في أكثر الأوقات مهزومة: مريضة، حزينة، فقيرة، الخ. ونادراً ما تتنقل من مكان الى آخر، وان فعلت فلا لكي تغامر وتكتسب التجارب كالذكر. وقصص كثيرة تجعلها سجينة قصر أو بيت. فالنموذج الأنثوي في هذه القصص هو نموذج الفتاة المطيعة والمدبرة والجميلة والمتواضعة. وتخلص الكاتبة الى أن قصص الأطفال اجمالاً تقليدية الطابع، فقيرة المخيلة. تخاطب اجمالاً كيانات عامة لا أفراداً معينين، تتكلم عن الأطفال، أكثر مما تتوجه اليهم. فالأبطال الحقيقيون لهذه القصص هم مؤلفوها البالغون الذكور، هم النماذج الضمنية التي يطلب من الأطفال التماهي بها. والى أن يصبحوا بالغين بدورهم لا يطلب منهم سوى التلقي والقبول ص 154. وبتحريها الدقة العلمية حاولت ان ترى ما اذا كان هناك اختلاف بين المؤلفين والمؤلفات في هذا المضمار، فوجدت انهم جميعاً سواء في هذا الموقف المتأثر بتنشئتهم التقليدية البطريركية الطابع. في الكتاب بعض الأخطاء المطبعية والهفوات اللغوية، الا انها لا تقلل من قيمته كدراسة جدية هي الأولى من نوعها في أدب الأطفال، تدلنا على أهمية قصص الأطفال، وترينا النقص الفني في قصصنا اللبناني في هذا المضمار ليتفاداه مؤلفو المستقبل. كذلك تؤكد المسؤولية التربوية الكبيرة الملقاة على عاتق كل من يقدم على هذا الفن الصعب كي لا يخيب أمل الطفل الذي رسم الصورة المشرقة على الغلاف.