أحمر عمان يقلب الطاولة بوجه العنابي    القبض على باكستاني في المدينة المنورة لترويجه «الشبو»    ترامب: سأوجه وزارة العدل إلى السعي بقوة لتطبيق عقوبة الإعدام    المرصد العالمي للجوع يحذر من اتساع نطاق المجاعة في السودان    نائب أمير الرياض يعزي في وفاة عبدالرحمن الحماد    «اتحاد الغرف» يعلن البدء في تأسيس أول مجلس أعمال سعودي - كويتي مشترك    عبدالعزيز بن سعود يكرم الفائزين بجوائز مهرجان الملك عبدالعزيز للصقور 2024م    وزير الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية يلتقي قطاع الأعمال بغرفة الشرقية    خادم الحرمين وولي العهد يهنئان رئيس المجلس الرئاسي الليبي بذكرى استقلال بلاده    مكتبة الملك عبدالعزيز العامة وجامعة الأميرة نورة تطلقان معرضًا فنيًا عن الإبل    استعراض خطط رفع الجاهزية والخطط التشغيلية لحج 1446    إطلاق "عيادات التمكين" لمستفيدي الضمان الاجتماعي بالشرقية    مدرب المنتخب السعودي: طموحنا مستمر وسنعمل لتصحيح المسار أمام اليمن غدًا في خليجي 26    الأمين العام لجامعة الدول العربية يلتقي وزير الشؤون الخارجية الصومالي    مجلس الوزراء يقر الإستراتيجية التحولية لمعهد الإدارة العامة    إجراءات تركية جديدة لتسهيل عودة اللاجئين السوريين    زراعة 153 ألف شجرة لتعزيز استدامة البيئة بالمدينة    عبد العزيز بن سعد يشهد الحفل السنوي لجمعية الأطفال ذوي الإعاقة بحائل 2024    انطلاق منافسات سباقات الخيل في ميدان الفروسية بالدمام الجمعة المقبل    خطة تقسيم غزة تعود إلى الواجهة    المملكة تُطلق الحوافز المعيارية لتعزيز الصناعة واستقطاب الاستثمارات    "الوعلان للتجارة" تحتفل بإطلاق "لوتس إمييا" 2025 كهربائية بقدرات فائقة    تشريعات وغرامات حمايةً وانتصاراً للغة العربية    فريق علمي لدراسة مشكلة البسر بالتمور        "البروتون" ينقذ أدمغة الأطفال.. دقة تستهدف الورم فقط    وزير داخلية الكويت يطلع على أحدث تقنيات مركز عمليات 911 بالرياض    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع    تيسير النجار تروي حكاية نجع في «بثينة»    زينة.. أول ممثلة مصرية تشارك في إنتاج تركي !    قبل عطلات رأس السنة.. أسعار الحديد ترتفع    "موسم الرياض" يعلن عن النزالات الكبرى ضمن "UFC"    الجيلي يحتفي بقدوم محمد    "الصحي السعودي" يعتمد حوكمة البيانات الصحية    مستشفى إيراني يصيب 9 أشخاص بالعمى في يوم واحد    5 طرق لحماية أجسامنا من غزو البلاستيك    محمد بن سلمان... القائد الملهم    "فُلك البحرية " تبني 5600 حاوية بحرية مزود بتقنية GPS    قدرات عالية وخدمات إنسانية ناصعة.. "الداخلية".. أمن وارف وأعلى مؤشر ثقة    "الداخلية" تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    تنمية مهارات الكتابه الابداعية لدى الطلاب    منصة لاستكشاف الرؤى الإبداعية.. «فنون العلا».. إبداعات محلية وعالمية    محافظ جدة يطلع على برامج "قمم الشبابية"    آبل تطور جرس باب بتقنية تعرف الوجه    استدامة الحياة الفطرية    سيكلوجية السماح    عبد المطلب    زاروا معرض ومتحف السيرة النبوية.. ضيوف «برنامج خادم الحرمين» يشكرون القيادة    وتقاعدت قائدة التعليم في أملج.. نوال سنيور    «بعثرة النفايات» تهدد طفلة بريطانية بالسجن    رشا مسعود.. طموح وصل القمة    احترم تاريخ الأخضر يا رينارد    التشريعات المناسبة توفر للجميع خيارات أفضل في الحياة    تجويد خدمات "المنافذ الحدودية" في الشرقية    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    استشهاد العشرات في غزة.. قوات الاحتلال تستهدف المستشفيات والمنازل    ولادة المها العربي ال15 في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أعماله الكاملة والمجهولة تصدر تباعاً . سعيد تقي الدين كاتباً متعدداً بين هموم الواقع والمتخيل
نشر في الحياة يوم 30 - 12 - 2001

على رغم مرور أربعة عقود ونيّف على رحيل سعيد تقي الدين لا يزال الرجل يثير الاهتمام ويشغل حيزاً خاصاً في عالم الأدب، ذلك ان القضايا التي طرح، والخطاب الأدبي المبتكر، وتلك اللغة الخاصة بصاحبها، هي من لوازم الحاضر والمستقبل، تتخطى الحقبة الزمنية التي انتجت فيها خلال النصف الأول من القرن العشرين وتعلن صلاحيتها للنصف الثاني، بل يبقى تاريخ صلاحيتها مفتوحاً على المستقبل. وبهذا المعنى، فسعيد تقي الدين أديب حداثي حين الحداثة تحرُّرٌ من الزمنية وانفتاح على الجديد واللامحدود.
ولعل هذا ما حدا بالباحث جان داية الى اعادة طبع الأعمال الكاملة للكاتب بحلّة جديدة، وهي أعمالٌ متنوعة، تتعدد ألوانها الأدبية ما يجعل سعيد تقي الدين جديراً بتسمية "أديب" بمعناها الشامل، والشمول أولى ميزات أدبه في رأي جورج مصروعة. فهو كتب المقالة والرسالة والمسرحية والمذكرات والقصة القصيرة والومضة، وكانت له بصمته على كل من هذه الألوان حتى ليمكن تمييز نصه من سواه من دون كبير عناء.
وإذا كان المقام لا يتسع لتناول هذه الألوان جميعها في المقال، فحسبنا ان نضيء في هذه العجالة اثنين منها يربط بينهما السرد، فنتذكر معه مذكراته في الفيلبيين، ونصغي اليه قاصّاً. وسعيد في اللونين هو هو، الثائر، الساخر، المتمرد، الظريف، الصادق، اللمّاح، المضحك، المبكي... فأدبه مرآة للشخصية الإنسانية على تعدد أحوالها.
في مذكراته التي كتبها من العام 1926 وامتدت الى ما بعد العام 1950 متناولاً حقبة اغترابه الى الفيليبين، الصادرة بعنوان "رياح في شراعي *"، يكتب سعيد تقي الدين ملحمة الاغتراب اللبناني بمراراته وعذاباته، وما يكابده المغترب من عناء ومشاق، وما يتعرّض له من أخطار، وما يتقلّب فيه من أمل ويأس ومعاناة وحنين. وهو يفعل ذلك من خلال تذكّر تجربته الخاصة في الفيليبين، تلك التي امتدت على مدى ثلاثة وعشرين عاماً، وهي تجربة حية، غنيّة، مغمَّسة بالعرق والدمع والدم، تستحق أن تُدوّن وأن تُُتذكَّر، فالذكرى في هذا المقام تنفع.
وفيها يطالعنا تقي الدين في حالات شتى هي فصول تلك التجربة الحية المتنوعة التي يختلط فيها الذاتي بالوطني، والخاص بالعام، والسيرة بالتاريخ، والحزن بالفرح، واليأس بالأمل...
فهو المناضل الديبلوماسي الذي يتجشم مشاق السفر ويتصل برئيس الفيليبين ليقنعه بالتصويت ضد قرار تقسيم فلسطين عام 1947 في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وما أشبه الأمس باليوم حين يقارن بمرارة بين اجتماع الأعداء على باطلهم وتفرّق العرب عن حقهم، فيشير الى مئات التلغرافات الواردة الى رئيس الفيليبين تدعوه للتصويت مع قرار التقسيم بينما لم يرد تلغراف واحد من عربي يشكره على خطاب مندوب الفيليبين المناهض للتقسيم.
وهو الذي يتعرض ورفاقه للقصف الأميركي في مانيلا، ويعانون التهجير ويضطرون الى بيع حاجاتهم والألبسة للحصول على بعض الطعام.
وسعيد هو الذي يخوض تجربة الاعتقال، فيشهد على الضعف الانساني واستيقاظ الغرائز السفلى، غير انه لم يتخلَّ عن السخرية وروح الدعابة والظرف حتى في أشدّ اللحظات سواداً، فلا تملك إلا أن تنقلب على قفاك من الضحك حين تسمعه يهنئ صديقه سعد الدين الجارودي بوظيفة "غلام المرحاض" ويتحدث عن عهده الباهر وامكان التجديد له. وإذ يتعلم من السجن ان النفس تنهار قبل الجسد، يشير الى ان وجود قضية يناضل الانسان من أجلها تجعل النفس تصمد للمصاعب.
وهو الذي يشارف على الموت مراراً" غرقاً في بحر، أو انتحاراً بفعل أزمة مالية، أو هلاكاً "بقنبلة باضتها طائرة أميركية"، على حد تعبيره.
هذه الفصول وغيرها كيف يكتبها صاحبها؟ وما هو المنهج الذي نهجه فيها؟
يقول سعيد تقي الدين: "معظم السير والأوتوبيوغرافات والمذكرات ليست في غالب الأحيان سيرة ما كان، بل ما وجب ان يكون". و"ليس في الدنيا من لا يبالغ في سرد ما يعني أموره وتفخيم شأنه". ص152. فهل كتب هو سيرة ما كان أو ما يكون؟ وهل بالغ في سرد ما يعنيه من أمور؟
وفي مقاربة هذا السؤال المزدوج ثمة اجابتان: احداهما يقدمها الكاتب، والأخرى يقدمها الكتاب. تأتي الإجابة الأولى في سياق الحديث عن منهجه في كتابة المذكرات: "لا أقول اني طهرت الى حد أن أصبحت أترفع عن الغلو والتحريف في ما أكتب، فالذي يصور الأشياء كما هي هو فوتوغرافي لا فنان. ولكن بعض الأشياء والحوادث فيها من الجمال والبشاعة، ما يجعل صورتها الفوتوغرافية فناً". ص 153. وهكذا، لا يدعي ترفعه عن الغلو والتحريف، بل يربط ذلك باعتبارات فنية، ويستدرك ان بعض الحوادث صارخة الى حد ان تصويرها بصدق وموضوعية هو بحد ذاته فن، ولعل حوادث كتابه هي من هذا النوع.
أما الإجابة التي يقدمها الكتاب فتقودنا الى الحديث عن الأسلوب الذي اعتمده تقي الدين في سرد الحوادث، وفي هذا السياق نشير الى انه لم ينحُ المنحى الكلاسيكي في سرد المذكرات، ولم يراعِ التسلسل الزمني أو الوقائعي في ذلك، ولم يتبع أي نظام أو ترتيب... فجاءت مذكراته مجموعة فصول مستقلة، يشكل كل منها وحدة قائمة بذاتها، ما يجعله قريباً من القصة القصيرة، على ان ثمة تداخلاً بين الفصول لجهة تكرار الحادثة الواحدة في أكثر من فصل.
في كل فصل ينطلق سعيد تقي الدين غزيراً كنهر، يتدفق على رسله، لا شيء يحدّ من جرياته، غير أن النهر في اندفاعته قد يخرج عن مجراه لكنه سرعان ما يعود الى المجرى الأصلي. ويُخيَّل إليَّ انه في سرده يتحدث الى جليسٍ له أمام موقدٍ في سهرة شتائية أكثر مما يكتب، وهو في حديثه كثيراً ما يمارس هذا النوع من الالتفات الجميل فيبقي جليسه مشدوداً اليه، ولذلك، وبينما هو مستغرق في سرد حادثة معينة، يلتفت الى القارئ/ الجليس بقوله: "ذكرني أن أخبرك بكذا...". وإذا ما جرفه الاستطراد يسأله: "أين كنا؟ قبل أن نضيع لنرجع الى..." أو يقول: "شطحنا" ويعود ليستأنف السرد من حيث شطح، وإذا ما استشعر استعجالاً يخاطبه قائلاً: "صبرك قليلاً فسأخبرك كيف...". وبهذه التقنية وغيرها ينجح الكاتب في أن يقيم مع القارئ/ الجليس علاقة حميمة قوامها الحكاية والمستمع، وهذان العنصران لا وجود لأحدهما بمعزل عن الآخر.
وبالانتقال من الكل الى الجزء، فإن تركيب سعيد تقي الدين بسيط، سلس، بعيد عن الصناعة والتعقيد، وهو ابن الحياة المقطوف من أفواه الناس العاديين. والكاتب حين يجاور بين المفردات في التركيب الواحد يمنح تركيبه ومفرداته طاقة أكبر من طاقتها المعجمية الأصلية، ويشحنها بقدرة على التصوير والايحاء والتعبير عن الحالات النفسية والذهنية. إقرأ معي هذه التراكيب تتحقق من دقة ما أذهب اليه: "تدحرجت راجعاً - بطشنا بصينية كبة - تفجّر صوت محرِّك - وحياة شرفك... وكانت الطائرات تبيض قنابلها...".
أما المفردة عنده، إضافة الى ما يمنحها اياه جرّاء ادخالها في علاقات داخل التركيب، فإن بعض مفرداته مبتكرة، وهي وليدة ما يمارسه من اشتقاق أو نحت من قبيل: يُسردب، تتسلحف، قاولناه، غطواز من غطرسة الوظيفة. وبعضها تستخدمه العامة من قبيل: تدحرجت، بطشنا، شطحنا، كشّر... وربما أخذ بعض المفردات من معجم "لعب الورق" للتعبير عن حال سياسية معينة... وأيّاً كان المعجم الذي يستقي منه سعيد مفرداته فما لا شك فيه انه كان بارعاً في الاختيار والاستعمال معاً.
وبعد، إذا كنا نفتقر في أدبنا العربي الى أدب الاعتراف حيث نخفي عن الآخرين حقيقتنا أو أخطاءنا أو ضعفنا أو تقصيرنا، فإن بعض ما ورد في المذكرات يندرج في هذا السياق، وهنا يجيب الكتاب عن السؤال السابق بأن سعيد تقي الدين كتب ما كان من سيرته لا ما يجب أن يكون ولم يبالغ في تفخيم شأنه، والأمثلة على هذا الجواب كثيرة. فهو يعزو الفضل في الاتصال بالرئيس الفيليبيني الى كامل حمادة وزوجته وديعة، ما ينهض دليلاً على صدقه. ويعترف بالخوف في محطات معينة، ويسخر من ضعفه في اللغة الفرنسية، ولا يتورع عن ذكر سقوط "كلسونه" وإثارة ضحك الآخرين، ويشير الى أكله لحم الكلاب بمقلب دبّره صديق خبيث، كما يعترف بتعويله على الانتحار مرة وبإفلاسه مرتين. وهكذا، لم يقصد الكاتب في مذكراته الى تقديم بطل نموذجي مثالي بل قدّم لنا شخصية واقعية من لحم ودم تخطئ وتصيب، تقوى وتضعف، وتخضع للشرط الإنساني.
ولا يمكن توفية المذكرات حقها ما لم نشر الى ميزة لازمت سعيد تقي الدين في سائر أدبه، وهي السخرية. يسلّطها على واقع معين فيبدد سواده، ولئن كان منطلقها حدثاً قاتماً فهي تخفّف من القتامة وقد تبعث على الضحك... فها هو يصف معرفة الجنرال الياباني باللغة الفرنسية بالقول: "لا يملك من اللغة الفرنسية أكثر مما يملك سعيد فريحة من شركة الكوكا كولا" ص 53، ويعبر عن قتامة الجو بالقول: "هوذا الجو أغبر من بعد وكشر ونفخ كأنه كبير في السراي يقابل طالب وظيفة". ص55، في اشارة منه ساخرة الى بعض العقليات التي كانت تتحكم ببعض المسؤولين في زمانه.
وقبل ان نختم هذا العرض للمذكرات نشير الى تباين وخطأ وردا في الكتاب" أما التباين فقد وقع فيه الكاتب حين أورد مدتين زمنيتين مختلفتين لحادثة واحدة، فأشار مرة الى ان الجنرال الأميركي ماك آرثر عرف بالهجوم الياباني على بيرل هاربر قبل 18 ساعة من حصوله ص43، وصرّح أخرى انه عرف بالهجوم قبل 21 ساعة ص172، ولعل ذلك يعود الى ان المذكرات كتبت في أوقات متباعدة، والى ان الناشر أضاف على الكتاب ما له علاقة بالمذكرات وكان منشوراً في مكان آخر، ولعل هذا ما يفسِّر أيضاً تكرار الحديث عن وقائع معينة في الكتاب.
وأما الخطأ الذي سبقت الإشارة اليه فقد وقع فيه الناشر - كاتب المدخل حين أشار الى ان المؤلف ورفاقه لعبوا البوكر على تابوت أحد المغتربين الذي حزن لعدم تمكنه من مشاركتهم اللعب، وبالعودة الى الحادثة في الكتاب يتبين ان الذين لعبوا البوكر هم أقرباء زوجة الفقيد وليس سعيد تقي الدين ورفاقه ص94. فهل كتب المدخل تحت وطأة الاستعجال؟ وإذا كنا لا نقر جان داية، على هذا، فإننا لا نملك إلاّ أن نشاطره الرأي الذي ختم به المدخل، وهو ان مذكرات سعيد تقي الدين "تعجّ باللمعات الإبداعية... وانها من أجمل ما كتب في أدب المذكرات في العالمين العربي والغربي".
اللون السردي الآخر الذي كتب فيه تقي الدين هو القصة القصيرة. ومن الطبيعي أن يكون قاصّاً من يمتلك تلك الطلاوة في السرد وذلك التدفّق في تذكّر الأحداث. وهو "لم يكن فاتحاً في القصة القصيرة فحسب، بل كان عملاقاً أيضاً". كما يرى نذير العظمة. فما هو سرّ هذا الفتح وتلك العملقة؟ وهل من دليل عليهما في "ربيع الخريف * *" المجموعة القصصية التي تضم ثمانياً مكتملة وواحدة تبحث عن خاتمة؟
لعل أول ما يلفت في هذه المجموعة هو العنوان الذي يضيف متضاداً الى آخر، ويشكل مفتاحاً يمكن الدخول منه الى القصة القصيرة عند تقي الدين، تلك التي تقوم على المفارقة، والصراع بين متضادين أو أكثر غالباً ما ينتهي بانتصار أحدهما، والمفارقات في قصصه هي بنت الحياة التي يتخذ منها مواده الأوليّة ويعيد تشكيلها، فتولد القصة عنده قطعة من حياة تنضح بالصدق والواقعية، وتتماسك عناصرها في بناء فني متين تشكل الخاتمة فيه الحجر الأساس. على أن الحياة التي يستقي الكاتب منها قصصه ومفارقاته هي الحياة الريفية من جهة والمدنية من جهة ثانية، وهو الذي عاشهما كلتيهما، وهو لا يتبنى أيّاً منهما كاملة، بل يأخذ من كل واحدة ويدع.
في القصة الأولى "المرحوم" التي تدور أحداثها في اطار قروي نقع على مفارقة الفلاح/ الناطور، فبينما يمثل الأول قيم الخير والتمسك بالأرض والعناية بالرزق والجانب الطيب المضيء من الريف، يرمز الثاني الى الجانب السلبي بما هو حسدٌ وفتنة وحياكة مكائد وإطلاق أكاذيب. وكأن الدور المسند الى الناطور في القصة مغاير لما يفترض أن توحي به وظيفته في الأصل. على أيّة حال، يستعر الصراع المعلن والمضمر بين الفلاح والناطور - عنصري المفارقة، فيسود الأول بادئ الأمر وتزدهر أرضه وكرومه حتى إذا ما ألمّت به مصيبة جرّاء عمل أحمق يُقدم عليه ابنه، يحدث تحول في مسار الصراع، فيسجن الابن ويباع الكرم ويبور الرزق، وتتألب الأقدار والناس على أبي توفيق ويكون للناطور دور كبير بطبيعة الحال في الوصول الى هذه النتائج، فيموت أبو توفيق غير "مرحوم". وغير خفيٍّ هنا هذا الربط الرمزي بين ازدهار الأرض والفلاح من جهة، وبين بوارها وموته من جهة ثانية. ولا يخفى أيضاً تعريضه ببعض العادات والتقاليد الريفية حيث الناس يصدقون كل ما يسمعون ويؤخذون بالمظاهر.
وهذا التعريض نراه في قصة "درموس يتوب"، تلك التي تعرّي ازدواجية المظهر والجوهر أو الطقس والإيمان، وفيها يكشف تقي الدين زيف بعض المتدينين الذين يقولون ما لا يفعلون، ويعري الطقوس ويسخر منها، وهو لا يفعل ذلك مباشرة بل مداورة من خلال أحداث القصة، فيفاجئنا في النهاية غير المتوقعة ان ذاك الذي كان يدين الناس يفعل فعلهم. وبينما يشعرك الكاتب بانحيازه الى الريف ضد المدينة، تأتي النهاية لتقول تعريضه بازدواجية الريف والنفاق فيه، وانحيازه الى المدينة الواضحة.
مثل هذه الازدواجية بين المظهر والفعل نقع عليها في قصة أخرى هي "سمفوني"، وتقوم على نوعين من المفارقة، خارجية بين البطلين وداخلية ضمن البطل الواحد، ويحدث بنهايتها انقلاب في الأدوار غير متوقع. وهي قصة أخوين مختلفين في الجسم والطبع، يوبّخ كبيرهما الصغير دائماً ويظن نفسه خيراً منه، فتأتي النهاية لتثبت العكس، ولتقول ان التصرف هو نتاج الظروف وان المكبوت يطل برأسه حين تتاح له الفرصة.
والى هذه التعرية للازدواج والنفاق والرياء والسطحية، يواصل تقي الدين تصديه لمكامن الخلل في المجتمع، الريفي منه والمدني. ولئن كان في قصة "المرحوم" يعبّر عن الاعجاب بالقيم الفلاحية الأصيلة من تمسك بالأرض واعتناء بالرزق، فهو في "إفاقة" ينتقد سيطرة الغيبيات على حياة القرويين الذين يفسرون الأحداث بها، ويعلقون المصائب والأخطاء على مشجبها، وحيث تتجاور فيهم الأساطير والخرافات مع التعاون والنخوة ومساعدة الغير.
وفي قصة "عقل النسوان" يتماهى طرفا المفارقة، فيروح الجلاد يردد كلمات الضحية في الموقف نفسه. وقد ترتفع الضحية من موقع المفعول به الى موقع الفعل كما في "مذكرات صحافي"، فتضحي ملكة الجمال بشرفها كي تنقذ أباها، ويضحي الصحافي بوظيفته كي يحفظ مبادئه، على ان التضحيتين تنطويان على ادانة للمجتمع الذي يحصر الخيارات في اثنين أحلاهما مر.
ويعري سعيد تقي الدين الخيانة على المستوى الفردي، فيقول في "ربيع الخريف" ان من تخن زوجها تخن عشيقها، وان من يغدر بصاحبه يغدر به صاحب آخر.
أما على المستوى الجماعي فيقول في "كنز الكوسموس" خيانة حاييم زميله العربي منيف اللولبي، واتخاذه الايديولوجيا وسيلة للتضليل، ولعل الكاتب أراد أن يشير الى سذاجة العرب وسهولة تضليلهم وخبث الصهاينة وغدرهم.
وقبل ان ننهي هذه العجالة، لا بد من الإشارة الى براعة سعيد تقي الدين في العثور على النهايات المناسبة لقصصه، وهي نهايات مفاجئة في معظم الأحيان، غير متوقعة، لا ترهص بها أحداث القصة، فتسقط كالصاعقة لتحدث تحوّلاً حادّاً في مسار الأحداث يولّد الصدمة والدوي. ولعل هذه الميزة، إضافة الى أخريات جعلته أحد رواد القصة القصيرة وفاتحيها.
* رياح في شراعي - مذكرات صادرة عن "فجر النهضة" في 208 صفحات من القطع الوسط.
* * ربيع الخريف - مجموعة قصصية صادرة عن "فجر النهضة" في 84 صفحة من القطع الوسط.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.