استمرت الحروب العربية - البيزنطية التي بدأت في العصر الأموي مع مجيء العباسين الى الحكم. ففي عهد الخليفة المنصور كان الطابع الذي غلب على علاقته بالدولة البيزنطية عسكرياً. فتركزت سياسته الخارجية أولاً على درء الخطر البيزنطي عن بلاده. وكان البيزنطيون انتهزوا فرصة انشغال العباسيين بمشكلاتهم وثوراتهم الداخلية، وأخذوا يغيرون بقيادة الامبراطور قسطنطين الخامس على ثغور المسلمين المممتدة من اعالي الفرات شرقاً الى البحر الابيض المتوسط غرباً، فدمروا حصونها وعاثوا فيها فساداً وتخريباً. لهذا كان أول عمل اهتم به المنصور هو اعادة تحصين تلك الثغور وتنظيم وسائل الدفاع فيها، وكانت هذه الثغور تنقسم الى منطقتين رئيسيتين: منطقة الثغور الشامية التي خصصت للدفاع عن الجزيرة أو شمال العراق ومن أهم حصونها طرسوس وأضنة. الرشيد واعتبرت سياسة الخليفة المهدي امتداداً لسياسة أبيه العدائية نحو البيزنطيين، فواصل تحصين ثغوره المتاخمة لهم وراح يوجه اليهم الحملات المتتابعة، ولم يكتف بذلك بل قرر ان يقود احدى هذه الحملات بنفسه سنة 165ه مصطحباً معه ابنه هارون. وعندما بلغ ابلستين في آسيا الصغرى، اضطر المهدي للعودة الى بغداد تاركاً قيادة الجيش في يد ولده هارون، وواصل هارون زحفه مخترقاً آسيا الصغرى ومدمراً حصون البيزنطيين فيها حتى بلغ مضيق البوسفور. واضطرت الامبراطورة ايرين Irene التي كانت تحكم كوصية على ابنها قسطنطين السادس الى طلب الصلح وعقد هدنة بين الطرفين سنة 165ه 782م لمدة ثلاث تعهدت فيها بدفع جزية سنوية. وأظهر هارون في هذه الغزوة من الشجاعة والبسالة ما أهّله حمل لقب الرشيد. وهكذا بقيت علاقة الرشيد بالبيزنطيين علاقة حرب وعداء، فالرشيد واصل استكمال تحصينات ثغوره المتاخمة للبيزنطيين وأقام منطقة جديدة بين شمال الجزيرة وشمال الشام أطلق عليها اسم منطقة العواصم أي التي يعتصم فيها الجند وجعل قاعدتها مدينة منبج في شمال شرقي حلب، ورتب فيها جيشاً دائماً. كذلك اهتم بمنطقة الثغور الشامية التي على الحدود بين آسيا الصغرى وسورية، فعمر فيها طرسوس وأطنة أو أدنة وعين زربه. كما أقام حصوناً جديدة مثل الهارونية بين مرعش وعين زربه. وبلغ من اهتمام الرشيد بمناطق الثغور ان ولّى عليها ابنه الثالث ابا القاسم الملقب بالمؤتمن. وظلت ايرين تدفع الجزية السنوية الى ان ماتت، ثم خلفها الامبراطور نقفور الأول سنة 802م الذي نقض الهدنة وطلب من الرشيد ان يرد اليه الجزية التي دفعتها "ايرين" من قبل، وذلك في خطاب له الى الرشيد جاء فيه: "من نقفور ملك الروم الى هارون ملك العرب، أما بعد فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق فحملت اليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أمثالها اليها، لكن ذلك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فأردد ما حصل قبلك من أموالها، واقتد نفسك بما يقع به المبادرة لك، والا فالسيف بيننا وبينك". ... الى نقفور غضب الرشيد من هذه الرسالة غضباً شديداً ورد عليها برسالة مماثلة قال فيها "بسم الله الرحمن الرحيم: من هارون أمير المؤمنين، الى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك، والجواب ما تراه دون ما تسمعه والسلام". ثم خرج الرشيد على رأس جيش كبير بلغ تعداده 135 ألفاً سوى الأتباع والمطوعة، وتوغل في آسيا الصغرى حتى بلغ مدينة هرقلة عاصمة كورة بثنتياه، فحاصرها واستولى عليها عنوة سنة 806م. وأعقب ذلك توجيه حملات متلاحقة بقيادة كبار قواده أمثال داود بن عيسى، وشراحيل بن معن بن زائدة ويزيد بن مخلد، هزمت هذه الحملات جيوش البيزنطيين ودمرت حصونهم واضطر الامبراطور نقفور لأن يتناسى خطابه ويعترف بهزيمته ويتعهد بدفع الجزية من جديد. أما عن علاقة المأمون بجيرانه الروم أو البيزنطيين، فكانت سياسة عدائية على غرار آبائه من قبل. يُفهم من كلام المؤرخين ان المأمون استغل فرصة الفتنة الداخلية التي تزعمها توماس الصقلي ضد الامبراطور البيزنطي ميخائيل الثاني سنة 821م، وأخذ يمده بالمال والسلاح كي يعينه على فتح القسطنطينية والاستيلاء على الحكم، كما أوعز إلى بطريق القسطنطينية ان يتوج هذا الثائر امبراطوراً ليصبغ حركته بصبغة شرعية، ولكن الدولة البيزنطية كشفت أخبار هذه الاتصالات وانتهى الأمر بهزيمة توماس الصقلي وقتله على أبواب القسطنطينية سنة 823م. وقاد المأمون في السنوات الأخيرة من حياته جيوشه بنفسه وتوغل في الأراضي البيزنطية من آسيا الصغرى. وكان في بعض الأحيان يسند قيادة تلك الحملات الى ابنه العباس. وكانت وفاة المأمون في آخر غزوة من غزواته في الأراضي البيزنطية شمال مدينة طرسوس نتيجة لاصابته بالحمى هناك. المعتصم وعمورية وفي فترة حكم المعتصم الذي خلف أخاه المأمون استمرت المواجهة العسكرية بين العباسيين والبيزنطيين، ولعل أبرز الأحداث العسكرية التي اشتهرت في عهد المعتصم، هي انتصاره الحاسم على البيزنطيين في عمورية في آسيا الصغرى سنة 223ه. 838م ومن أخبار هذا الحدث العسكري المهم ان الامبراطور تيوفيل البيزنطي انتهز فرصة انشغال المعتصم في مطاردة الخرميين واغار على الحدود الإسلامية وهاجم مدينة زبطرة وهي أقرب الثغور الإسلامية الى بلاد الروم، فأحرقها وخربها وقتل رجالها وسبى نساءها وأطفالها. وغضب المعتصم لهذا الحادث خصوصاً انه كان يعتز بهذه المدينة لأنها كانت مسقط رأس والدته. ويضيف ابن الأثير ان امرأة هاشمية أخذت تصيح عندما وقعت في أسر الروم: "وامعتصماه" فلما بلغ ذلك المعتصم اقسم بأن ينتقم من الروم وأن يخرب مدينة عمورية مسقط رأس والد الامبراطور البيزنطي وأهم مدينة في الأناضول. ثم جمع المعتصم جيشاً كبيراً تولى قيادته بنفسه، ويقال ان اسم عمورية كان منقوشاً على درع كل جندي من جنود المسلمين وتقدم المعتصم بجيوشه حتى التقى بجيش تيوفيل فهزمه وخرب مدينة أنقره. ثم حاصر مدينة عمورية التي تقع في جوار انقرة، وبعد حصار شديد تمكن المعتصم من اقتحام المدينة عنوة وتخريبها وأسر من فيها. وهكذا انتقم المعتصم من الروم على ما فعلوه في زبطرة، ووصفه الشاعر أبو تمام المعركة بالقصيدة التي مطلعها: السيف أصدق انباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب * أستاذ في الجامعة اللبنانية.