تتوالى الابحاث النقدية في العواصم الاوروبية عن الفيلسوف البريطاني ، النمسوي الاصل، لودفيغ فيتغنشتاين، متناولة فكره الفلسفي واللغوي الذي ما برح يثير الكثير من السجال. ماذا عن هذا الفيلسوف في ذكرى وفاته وهو لم يحظ حتى الآن بأي ترجمة عربية كاملة. خمسينية لودفيغ فيتغنشتاين تفرض نفسها. كل هذه الأعوام لم تبدّل في الأمر شيئاً. ما زال الحديث عنه، وعن فلسفته، أمراً شائكاً. لا تنحصر المشكلة في كيفية هذا الحديث أو في درجة صعوبته، بل هي تمتد وتتناول امكان الحديث نفسه، ماذا لو تخيلنا للحظة واحدة ان حديثنا عن فلسفة فيتغنشتاين أمر يتراءى لنا اننا نقوم به، في حين اننا في الواقع نتحدث عن شيء آخر تماماً؟ ألم تكن مشكلة فيلسوفنا مع تلاميذه هي مشكلة سوء فهمهم لنظريته في سوء الفهم؟ ان الصعوبة الفلسفية، لا تتمثل، بحسب فيتغنشتاين في مشكلة العثور على الحلول، بل في مشكلة ان نتعرف على الحل في ما قد يبدو لنا انه بداية حل، ومشكلة معرفة متى ينبغي التوقف عن الخوض في المسألة المطروحة، فالتعبير عن الأفكار له حدوده، والأفكار غير المعبّر عنها لا وجود لها، وان لم يكن الأمر كذلك فما الذي يمكن ان تعنيه مثل هذه الأفكار؟ لذا، فإن الحديث عن فلسفة فيتغنشتاين، وبما هي فلسفة تبيان ما يمكن وما يتعذر قوله، هو حديث شائك بالضرورة، ليس لأنه يدفعنا نحو مزيد من الغموض والضبابية، بل لأن الاستمرار في المناقشة يضعنا دائماً أمام اضاءات جديدة وامام سلسلة مفارقات، مفارقة لا محدودية من وضع للتعبير عن الأفكار حدوداً، ومفارقة من فصل امكان التعبير عن امكان الاظهار بعد ان جمعهما كتابة، ومفارقة من تكلّم عمّا لا يمكن قوله، وعما ينبغي ان يلفه الصمت، أو بالمعنى الحرفي، عما ينبغي اسكاته. ان لودفيغ فيتغنشتاين هو قبل كل شيء "سبينوزا العصور الحديثة". قد تتعذر التشبيهات التقنية والمذهبية بين واحدية سبينوزا وذرية فيتغنشتاين، بين من كتب في برهان القيم هندسياً، وبين من نادى للاعتصام بالصمت أمام القيم، ولكن يبقى ان عالم التراكتاتوس هو عالم عابق بالروحية السبينوزية، بكل ما تمتلكه من صفاء، وبما تتميز به من نظرة الى الفلسفة كمعالجة للتفكير، وبما تختزنه من احساس معين بلا زمنية الواقع. ومثلما هو الأمر في حال سبينوزا، تفصح فلسفة فيتغنشتاين عن نفسها في حياته التي أنهاها في 28 نيسان ابريل 1951 بعبارة: "قولوا لهم ان الحياة، كانت بالنسبة لي، حياة رائعة". يتوقف نورمان مالكولم، تلميذه وكاتب سيرته، أمام تلك العبارة، فيتذكر تعاسة أستاذه وحدّة تألماته الأخلاقية والذهنية، والطريقة القاسية التي كان يشغل بها ذكاءه، ومقدار حاجته للعاطفة مقارنة بمقدار إعراضه عنها. على رغم ذلك، وبعد صراع مع مرض السرطان، يقرر فيتغنشتاين ختم حياته بهذه العبارة. انه موقف سبينوزي، كما يقول جيل - غاستون غرانجيه، فهو موقف لا يرفض المصاعب والمآسي، بل يبحث عن السيطرة عليها، ويخوض صراعاً معها في شكل متواصل، وبجهد من الفكر الذي يرمي الى ايضاح معناه الخاص. هكذا كان لودفيغ فيتغنشتاين منذ البداية، يتخصص في هندسة الطيران، ثم ينتقل الى أسس الرياضيات والمنطق، ويتتلمذ على أيدي غوتلوب فريجه وبرتراند راسل. ينشأ في كنف أثرى عائلة صناعية في فيينا، ثم يمنح حصته من تركة أبيه لأشقائه مفضلاً كسب عيشه بنفسه. يكتب التراكتاتوس المنطقي - الفلسفي، الذي نشر عام 1921، ثم يمتهن تدريس الأطفال في الأرياف. ينال كتابه درجة الدكتوراه من جامعة كامبردج عام 1929، فنجد أنفسنا أمام أستاذ جامعي يبذل قصارى جهده لثني طلابه عن الاشتغال بالفلسفة، أو يعتكف الحياة الجامعية، ليقيم في غرفة معزولة في النروج. يعد "التراكتاتوس المنطقي - الفلسفي" من أهم كلاسيكيات الفلسفة الغربية في القرن العشرين. تمايزه يبدأ من أسلوبه. فهو يقدم نفسه كسلسلة شذرات ضمن ترقيم عشري 1، 1،1، 11، 12،1، 1،13، 1، 2،1 الخ بحيث يتضح انتظام المجموع ساعة نجمع الشذرات المرقمة من 1 الى 7، وهي التي تطرح موضوعات العالم 1-2، وصورة العالم التي هي الفكر المنطقي 3-6، وتنتهي عند حدود الخطاب المنطقي 7-8. لا يخضع الانتظام الرقمي لارتباط النتائج بالمبادى، فالهدف ليس برهان موضوعات، بل سبغ الأفكار المقترحة بطابع النهائية. تتخذ هذه النهائية شكل موسيقى داخلية قاسية، وتستند الى مخزون من الشاعرية، نادرة الحدوث في كتاب على هذه الدرجة من التجريد، والتي تذكرنا بشذرات الفلسفة اليونانية قبل سقراط. سيان في التراكتاتوس ما يمكن التعبير عنه، وما يمكن التفكير فيه. وسيّان أيضاً ما هو أساسي، وما لا يمكن التفكير أو التعبير عنه. ينطلق الاستفهام عما يمكن التعبير عنه من التصور الذري للعالم. عالم التراكتاتوس هو عالم كل ما هو متحقق بالواقع. العالم هو كل ما يحصل، أو ان شئناً الاستعانة بأبيقور، العالم هو كل ما "يهطل"، انه مجموع الوقائع لا الأشياء، والواقعة هي معيار المعنى، ومعيار صحة المعنى أم لا. في المقابل، القضية أو الجملة اللغوية تحمل معنى ما دامت تصف الواقعة، وتعبر عنها. ان اللغة هي تصوير للعالم الذري، أما الفلسفة فهي نقد للغة، وليس هناك قضايا أو مسائل فلسفية خاطئة، بل هناك قضايا ومسائل تفتقد المعنى كونها لا تفهم منطق اللغة. مهمة الفلسفة عند فيتغنشتاين ليست تغيير العالم ولا تفسيره. انها فاعلية تستهدف الايضاح المنطقي للفكر، وتترك كل شيء على حاله، انها تحدد ما يمكن، وما لا يمكن قوله، ولا تنتج قضايا فلسفية بل ايضاحات لقضايا. يعتبر فيتغنشتاين ان كل ما يمكن التفكير فيه، يمكن التفكير فيه بمنتهى الوضوح، وهو يفصل بين ما يمكن التفكير - التعبير عنه، وبين ما يمكن اظهاره، وهذا الأخير لا يمكن قوله، بل حتى لا يمكن قول انه لا يمكن قوله. القضية يمكن ان تمثل الواقع الكلي لكنها لا تستطيع ان تمثل ما يجب التشارك به مع هذا الواقع كي تتمكن من تمثيله، أو بمعنى آخر لا يمكنها تمثيل الصورة المنطقية، فهذا يقتضي وضع أنفسنا، نحن والقضية، خارج اللغة والعالم. لا يمكن للقضية ان تمثل الشكل المنطقي، وان كان الأخير ينعكس بالضرورة في القضية، أو في اللغة عموماً. فما ينعكس في اللغة لا يمكن للغة ان تمثله، أو كما يقول فيتغنشتاين: "ان الذي يعبّر عن نفسه في اللغة لا يمكن لنا ان نعبّر عنه من خلال اللغة". يمكن فقط اظهاره. العالم والحياة يماهي التراكتاتوس بين العالم والحياة، ويعتبر ان "حدود لغتي هي حدود عالمي الخاص"، وان المنطق اذ يملأ العالم، فإن حدود العالم هي حدوده، فليس بالمستطاع ان نقول ما لا يمكن التفكير فيه، نحن إذاً أمام شكل من أشكال الأنا - واحدية. يقول فيتغنشتاين ان ما تشي به الأنا - واحدية هو صحيح، ولكن لا يمكن قوله، بل يمكن اظهاره، فواقع ان حدود اللغة تعني حدود عالمي الخاص توحي بأن ما يمكن أن أعنيه بالعالم هو فقط عالمي الخاص. هنا نلحظ ان التراكتاتوس يقترب من النقدية - التجريبية عند ماخ وافيناريوس، ويخرج عن المنطقية - التجريبية عند راسل أو فريجه، فهو لا ينكر ما لا يشير الى التجريبي، أو الى المنطقي، بل ينكر امكان التفكير أو التعبير عنه، وان كان يضعه في منزلة الأساسي. وضعية فيتغنشتاين تلغي النظام القبلي الكانطي للأشياء، لكنها بحد ذاتها خطة ذكية لانقاذ الذات الكانطية من خلال اعتبار ان هذه الذات ليس جزءاً من العالم، لكنها تشكل في الوقت نفسه حدود هذا العالم. يؤكد فيتغنشتاين على امكان ان تكون هناك "أنا" غير سيكولوجية في الفلسفة، لأن الأنا تظهر في ما هو فلسفي بفعل أن العالم هو عالمي الخاص. هذه الأنا هي الذات الميتافيزيقية، انها حدود العالم وليست جزءاً من أجزاء العالم، لذا فإن تولَّدَ معنى القضية من تعبيرها عن واقعة في العالم، فإن معنى العالم بحد ذاته ينبغي العثور عليه خارجه. من هنا يتعذر ايجاد معنى أي قضية قيمية، بل يقتضي التأمل في ما يمكن ان تظهره وتوحيه، وهو ما يترافق مع دمج الأخلاقيات والجماليات بحيث تشكل أمراً واحداً لا يمكن قوله. يرفض فيتغنشتاين وجود لغز أو طلسم، فالاجابة التي يتعذر التعبير عنها تفترض سؤالاً لا يمكن التعبير عنه، ومعنى أي سؤال، أي ما يميزه كسؤال، يكمن في امكان الاجابة والحل، كما ان معنى أي قضية رهن بإمكان التثبت من صحتها أم لا. يستدل على هذا الربط الكامل بين المساءلة والاجابة في موقف فيتغنشتاين من الريبية، فهو لا يرفضها بقدر ما ينكر ان يكون لها معنى إذا ارادت ان تشك حيث لا يمكن طرح السؤال أصلاً، أي حيث ليس هناك شيء يمكن قوله. ما هو أساسي لا يمكن قوله، وفيتغنشتاين يؤكد ظهوره كعنصر صوفي، ويستدرك بأن قضايا كتابه ليس لها معنى، وفقاً لمفهوم هذه القضايا عن المعنى، فيعود ويشبهها بالسلم الذي نصعده للخروج منه. انها قضايا توضيحية، ودليل فهمها هو فهم انها - بلا معنى. ظل فيتغنشتاين منسجماً مع هذا التصور للفلسفة، فكما يقول في كتاب مرحلته الثانية "البحوث الفلسفية"، الذي نشر بعد وفاته: "الفلسفة تكتفي بأن تضع كل شيء أمامنا، انها لا تفسر ولا تستنتج شيئاً، لأن كل شيء معروض أمام أعيننا، وليس هناك ما ينبغي تفسيره"، فالفلسفة هي "ما هو ممكن قبل اكتشافات أو ابتكارات جديدة". هذا التصور للفلسفة يجمع ويميز، في آن واحد، مرحلتي فيتغنشتاين. ان مرحلة "البحوث الفلسفية" هي محاولة للاجابة على الأسئلة المعلقة في التراكتاتوس، وذلك من خلال دراسة اللغة العادية المتداولة لا اللغة المنطقية المثالية. نحن لا نخلق الأشياء حين نتكلم، بل نخلقها لأنفسنا. والعالم الصغير لألعاب اللغة لا ينوح بأثره على الواقع بذاته. ان مفهوم "لعبة اللغة" سيشكل سنداً قوياً لما سبق تأكيده في المرحلة الأولى من ان الفلسفة لا تفسر أو تغير شيئاًَ، فلعبة اللغة نراها أمام أعيننا سارية المفعول، وهدف الفلسفة ليس تفسيرها بل صياغة وصف لها، ولعبة اللغة هي شكل الحياة بمعنى انها تدخل في السلوك الكلي للتواصل وان مدلول الرموز هو نسبة للكل. ان ما تركز عليه المرحلة الثانية هي كثرة العاب اللغة والمدلولات المتعددة التي ينبغي على التحليل الفلسفي اكتشافها، وبالتالي لا يمكن الاكتفاء بالمطابقة بين القضايا والوقائع، بل ينبغي الانطلاق من طريقة الاستخدام في اللغة المعتادة كمعيار للصحة والتيقن لتعددية معاني العبارة الواحدة. يقول برتراند راسل ان السينما هي الميتافيزيقي الأفضل. يلاحظ فافر هولدت ان عالم فيتغنشتاين هو عالم السينماتوغرافيا، حيث الانسان الفعلي، مثل انسان الفيلم، هو سلسلة اناس عابرين، وحيث كل الأشياء هي سلسلة كيانات تخلف الواحدة الأخرى في الزمان. ان عالم التراكتاتوس هو عالم ذري بالكامل، وعلى الصعيدين المكاني والزماني. تأسست الذرية المنطقية عند راسل كرد فعل متطرف من قبل الفاهمة التحليلية ضد الصوفية التي تميز بعض الفلسفات الواحدية. في المقابل، قامت ذرية فيتغنشتاين، وفي آن واحد، بتجاوز ما تختزنه ذرية راسل من واحدية، ولتفضي الى تأكيد العنصر الصوفي في ضوء الكثرة المطلقة. تتمثل واحدية راسل في جعله الفلسفة علم الممكن والمماهاة بينها وبين المنطق، وهذا ما يجعلها تقول ما يمكن فقط اظهاره في التراكتاتوس.