يترتب على فوز ارييل شارون الساحق بمنصب رئيس وزراء اسرائيل، بمساهمة من الفلسطينيين، عقلانية التدقيق في صحة المواقف الفلسطينية أو خطأها. ولأن حقبة حكم شارون، قصرت أو طالت، ستفرز بعداً مختلفاً في العلاقة الفلسطينية - الفلسطينية والفلسطينية - العربية، والفلسطينية - الاسرائيلية، فإن على النخبة العربية مسؤولية الكف عن تكريس اقلامها وأفواهها للشتيمة والأوهام والتضليل لتركز على تفحص الوقائع والطموحات في اطارها الفلسطيني وفي بُعد البيئة العربية. فالأولويات الفلسطينية تختلف عن الأولويات السورية، وكلاهما يختلفان عن الأولويات الخليجية أو العراقية. وحتى على الساحة الفلسطينية ذاتها، هناك اختلاف في الرأي وانقسامات تتطلب المراجعة والنقد الذاتي والمحاسبة والشفافية. وقد يساعد الفلسطيني في حربه مع الاسرائيلي الابتعاد عن الغوغائية المصدّرة اليه كي يتمكن من الاحصاء العلمي لخياراته. مذهل فعلاً اختيار الاسرائيليين ارييل شارون رئيساً للوزراء، على رغم امتناع ثلث منهم عن المشاركة في التصويت، لأن إرث شارون السياسي وتعهداته الانتخابية تعادل نسف خيار السلم لمصلحة الحرب مهما تظاهر شارون واتباعه بعكس ذلك. المذهل أكثر ان الناخب العربي في اسرائيل وضع اعتبار معاقبة رئيس الوزراء السابق ايهود باراك فوق اعتبار معنى مجيء شارون الى السلطة، بكل ما يحمله من سيرة وتاريخ، وما أوضحه في الحملة الانتخابية من عزم على تعزيز المستوطنات ورفض عودة أي لاجئ فلسطيني والتعهد بقدس موحدة عاصمة أبدية لاسرائيل وحصر أراضي دولة فلسطينية مستقبلية ب42 في المئة من الأرض. يجوز القول ان هناك منطقاً في ابلاغ الناخب العربي - الاسرائيلي الى حزب "العمل" رسالة سياسية فحواها انه ليس في وسع "العمل" الوصول الى السلطة من دون مساهمة الصوت العربي، وبالتالي عليه الأخذ الجدي والمبكر بأهمية هذا الصوت في الحملة الانتخابية المقبلة. وبما ان كثيرين يتوقعون لحكم شارون ألا يدوم أكثر من ستة أشهر أو سنة، يمكن وصف الامتناع العربي عن المشاركة في التصويت بأنه استثمار في الجولة المقبلة. هذا منطق ضعيف خصوصاً اذا وضع في ظروفه. فقد فوّت الامتناع فرصة الحصول على تعهدات جوهرية من باراك وحزبه لمصلحة المواطن الفلسطيني - الاسرائيلي ولمصلحة انجازات مهمة في ملف المفاوضات. كما ساهم التغيب في فوز ساحق لشارون مما يقويه ويقوي التطرف الذي يمثله معه. هذا اضافة الى علو صوت الاحتجاج والاحباط على صوت أجندة فلسطينية، لو طُرحت في الحملة الانتخابية لسجلت مواقف ونقاطاً. وأخيراً، لو كانت الاطاحة بباراك من اجل خيار أفضل لكان الأمر في غاية المنطقية، اما وأن القيادات الفلسطينية في اسرائيل وجهت الناخب بإدراك مسبق ان النتيجة لمصلحة شارون، ففي الأمر حيرة مهما استحق باراك من نقمة وانتقام. كذلك الأمر، في ما يتعلق بقيادة السلطة الفلسطينية التي تصب في نهاية المطاف في شخص الرئيس ياسر عرفات، فمهما قيل عن محاولات ديموقراطية وتعدد اللاعبين في القيادة الفلسطينية، الكل يدرك ان عرفات يتفرد بالقرار بسلطوية. فهو الفرد الذي قرر ان من الأفضل مجيء شارون الى السلطة، بكل ما يُثقله من سيرة وتعهدات تناقض جوهر المطالب الفلسطينية على بقاء باراك في الحكم لكل ما انجزه من كسر المحرمات واقرار بحقوق فلسطينية لم يسبق لرئيس وزراء اسرائيلي ان اعترف بها. لا بد ان يكون في الذهن الفلسطيني، في السلطة او في اسرائيل تحت الاحتلال أو في الشتات، منطق في تفضيله شارون على باراك. فأن يقول "الشارع" العربي "ان لم تكبر لن تصغر" شيء، وان يقرر الفلسطينيون ذلك شيء آخر. فالحرب القائمة ليست عربية - اسرائيلية، وانما هي حرب ثنائية فلسطينية - اسرائيلية، وهم أصحاب القرار. هذا لا ينفي حق المساءلة للاستفسار خصوصاً ان الجلسات الخاصة مع الفلسطينيين في القيادة وخارجها كثيراً ما تعبر عن غضب وكراهية واشمئزاز من المواقف العربية، الرسمية منها بالذات. بعض هذه المشاعر في محله لأسباب تاريخية أو لانحسار الدعم الفعلي والعملي الذي لا يرافق التعهدات. لكن الجزء الآخر من المعادلة عائد الى خلل جذري في العلاقة الفلسطينية - العربية، على الصعيد الشعبي كما على صعيد القيادات. وكي لا يُلام الفلسطينيون على اختيار الخوض في حرب كان في وسعهم تجنبها، فإن المسألة هي في جوهر الموضوع: لماذا تفضيل رجل مثل شارون أعلن ما لن يقبل به دون تحديد ما هو على استعداد لقبوله، على رجل مثل باراك اخطأ وتردد وتصرف باعتباطية، لكنه قطع ضعف المسافة التي قد يقطعها شارون لاحقاً، اذا تكرم! لو كانت في الجيب الفلسطيني وثيقة دونت التزامات اسرائيلية بما وصلت اليه المفاوضات في كامب ديفيد الى طابا، يمكن القول انه لا يهم من يأتي الى الحكم لأن هناك مذكرة مدونة تلزم الحكومة البديلة الى حين الاتفاق على ما تبقى من فجوات. لكن فشل جهود جمع عرفات مع باراك أفشل محاولات تدوين ما انجزته مفاوضات طابا في مذكرة أو ورقة يمكن استخدامها كمرجعية. رسمياً، لم يكشف عما حدث في طابا وقبله في كامب ديفيد. لم يُطرح امام القاعدتين الشعبيتين الفلسطينية أو الاسرائيلية ولا أمام الأسرة الدولية أو الأسرة العربية ما عُرض وما رُفض ولماذا. وعندما وصل الفريق المفاوض الفلسطيني الى دافوس، آتياً من طابا قبل عشرة ايام في أجواء تفاؤل بعد اصدار بيان أقر بتقريب الموقف الى حد غير مسبوق، لاقاه الرئيس الفلسطيني بغضب مما أتى به. بماذا جاء ولماذا الغضب، ليس معروفاً. قال البعض ان "تردد" باراك كان وراء غضب عرفات، وان باراك لم يترك لدى عرفات أدنى درجات الثقة به. وقال البعض الآخر ان غضب عرفات انطلق مما وافق عليه اعضاء في فريقه المفاوض. جزء من الفريق زعم ان الفريق المفاوض الاسرائيلي لم يقدم اي جديد في طابا، وجزء آخر قال ان الانجازات كانت ضخمة ولم يبق سوى الطفيف. الكلام الفلسطيني اليوم يشبه الكلام السوري عند التحدث عن المفاوضات وأهدافها. اليوم، يقول الفلسطيني، كما قال السوري دائماً، انه يطالب بالانسحاب الاسرائيلي الى حدود 4 حزيران يونيو 1967، اي حدود الحرب التي كان في الامكان تجنبها قبل ربع قرن وأدت الى احتلال اسرائيل الأراضي الفلسطينية والسورية والمصرية والأردنية. كل المفاوضات وكل الاتفاقات السلمية بين اسرائيل والعرب تمت على اساس القرار 242 الذي طالب اسرائيل بالانسحاب من الاراضي المحتلة عام 1967. لغة حدود 4 حزيران يونيو كانت سورية حصراً، واليوم هي فلسطينية ايضاً. الشبه ايضاً في تعبير استئناف المفاوضات "من حيث توقفت": الطرف السوري التزم هذا الموقف كشرط مسبق لاستئناف أي مفاوضات مع اسرائيل منذ عهد رئيس الوزراء السابق اسحق رابين. اما الطرف الفلسطيني، فإنه بدأ يتحدث اليوم بلغة مشابهة ليعرب عن الاستعداد للتفاوض مع ارييل شارون "من حيث توقفت" المفاوضات مع ايهود باراك. الفارق بين الموقف السوري والموقف الفلسطيني ان الأول توقف عن التفاوض والثاني استمر به تحت كل ظرف. لكن ما يضعه شارون مقارنة مع ما وضعه باراك من خطوط حمر ومن قواعد تفاوض لن يسمح باستئناف المفاوضات "من حيث توقفت"، مما سيحمل الطرف الفلسطيني ليقرر ان كان ذلك كلاماً استهلاكياً أو ان كان يتمسك به تحت كل ظرف. التقارب الذي يحدث بين القيادتين السورية والفلسطينية مفيد وايجابي وضروري. لكن التنسيق لا يعني التطابق. فالتجربتان مختلفتان، والوضعان غير متشابهين. فسورية ليست في حال حرب ساخنة مع اسرائيل وهي لا تسعى الى هذه الحرب ولا تريدها إدراكاً منها لموازين القوى القائمة واستحقاقاتها. الفلسطينيون يخوضون حرباً مع اسرائيل بدأت مع الانتفاضة الثانية وقد تتطور لتشمل حرباً علنية بين اسرائيل وبين تحالف فلسطيني مسلح يضم السلطة وأقطاب الانتفاضة معاً، بكل ما يترتب على مثل هذا التطور من افرازات على الصعيد الفلسطيني وعلى الصعيد الفلسطيني - الاسرائيلي. رسائل شارون الى الفلسطينيين تنطلق من شرط وقف الانتفاضة تحت عنوان "فترة هدوء لمئة يوم" يتم خلالها وضع قواعد مختلفة للمفاوضات بإطار زمني جديد للاتفاقات التدريجية التي تأخذ بالأسلوب التراكمي خطوة بخطوة على نسق نموذج كيسنجر لتحل مكان اسلوب "اوسلو"، بهذا الموقف يوضح شارون ان لا مكان عنده لما تم الاتفاق عليه مع الحكومة السابقة ولا استعداد لديه للمضي بالمفاوضات من حيث توقفت. انها لعبة جديدة بأصول جديدة يأتي اليها بولاية من الناخب الاسرائيلي. فمهما قيل عن تصويت الناخب الاسرائيلي ضد باراك وشخصيته، وليس ضد السلام مع الفلسطينيين، لا ينفي ان الناخب الاسرائيلي احتج على "إفراط" باراك بالعطاء للفلسطينيين واختار شارون مثالاً على القوة والعزم على القهر بلا تردد. هذا الجزء من المجتمع الاسرائيلي أراد اطاحة كل ما قدمه باراك ووافق عليه، من القدس الى المستوطنات، ايماناً منه بأن لا مجال للتعايش السلمي مع الفلسطينيين وان لا بديل عن لغة القوة في الفصل والانفصال وان النتيجة الوحيدة للحرب الفلسطينية - الاسرائيلية ليست التسوية في تنازلات وانما فقط الانتصار. يوجد في الجانب الفلسطيني من يوافق مع هذا الجزء من المجتمع الاسرائيلي، على استحالة التعايش أو التسوية. رهانه ليس على موازين القوى التقليدية وانما على سلاح "اللااستقرار" والمعادلة الديموغرافية داخل اسرائيل ومعركته طويلة. هذا لا يعني الاجماع في الصفوف الفلسطينية أو الاسرائيلية، وانما الانقسام الجذري وعدم توافر ما يكفي لدى القاعدة الشعبية للتوصل الى اتفاق انما هذا لا ينفي وجود رأي آخر غير القائل بالحرب والانتصار الوهمي في المجتمعين الفلسطيني والاسرائيلي يحق له المساءلة والمحاسبة والمساهمة في فرز الخيارات والقرارات. فبؤس انتخاب ارييل شارون رئيساً للوزراء لا يتوقف عند الدلالات الرمزية والمعنوية وانما ينذر بتطورات سلبية جذرية مهما راهن البعض على قصر مدة حكمه وافتقاده الائتلاف أو على التدخل الدولي أو "فضح" الوجه الاسرائيلي الحقيقي امام العالم. والمساهمة الفلسطينية في فوز شارون تستحق التوقف عندها للتدقيق في ما اذا كانت منطقية أو اعتباطية وما اذا كانت تكتيكاً قاصراً أو جزءاً من استراتيجية. ولأن المؤشرات الواقعية تفيد باستمرار الانتفاضة وبعزم شارون على ايقافها، قد تكون الفترة المقبلة فائقة الصعوبة وربما الدموية مما يتطلب التمعن في افرازاتها والتهيؤ لها بدلاً من دق طبول الشتيمة والغوغائية. فلا الولاياتالمتحدة ستتدخل في فلسطين كما تدخلت في كوسوفو، ولا الاتحاد الأوروبي سيقاطع اسرائيل ويفرض عليها عقوبات كما فعل في النمسا، ولا الدول العربية ستعلن حرباً لمؤازرة الفلسطينيين في حربهم ضد اسرائيل. لذا فإن المسؤولية تقتضي الدراسة الواقعية لما أوصل شارون الى السلطة في اسرائيل ولوسائل المساهمة الايجابية في القرارات الفلسطينية.