ليست صدقية الولاياتالمتحدة وحدها على المحك اثر اضطرار الإدارة الأميركية الى تنشيط دورها لمعالجة النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي، وإنما أيضاً صدقية مصر والأردن اقليمياً، كما صدقية الاتحاد الأوروبي والأممالمتحدةوروسيا في ميزان الامتحان. فدخول إدارة جورج دبليو بوش ساحة "الجهود" لا يعفي الآخرين من المسؤولية، لأن واشنطن قررت أنها في حاجة لأن تكون جزءاً من جهود جماعية بدلاً من اسلوب الاستفراد الذي سبق وميّز مواقف الإدارات السابقة. هذه ليست مرحلة استرخاء لإدارة بوش لكي تكف عن الامتناع عن لعب دور. إنها فترة ل "تحصينها" بمواقف ضاغطة تحررها من قيود سياسية محلية أميركية، لكي تحسن العدالة وتتمكن من الإقدام. وأسوأ ما يمكن القيادتين المصرية والأردنية أن تقوما به الآن هو تبني نبرة التجاوب تسهيلاً للمهمات الأميركية أو اسلوب تسويق الآراء الأميركية. وظيفة هذه الديبلوماسية ليست التجاوب، وإنما المبادرة كطرف معني صادق في عزمه على ايجاد الحلول. كذلك الأممالمتحدة، فإن مساهمتها ليست في دور "المكمل" للدور الأميركي، وإنما في دور الهيئة المحايدة المتمكنة من أن تعدل وتدافع عن الحق والشرعية، وأن تسمي الأشياء باسمائها وتتقدم بأفكار ومقترحات. أما الاتحاد الأوروبي، فإنه، كما روسيا، مدعو إلى قرن الأقوال بالأفعال. فهما طرفان حاضران غائبان حسب الحاجة، وفي وسع كل منهما أن يفعل أكثر بكثير من مجرد التظاهر بلعب دور فعّال. أقل هذه الأطراف نشاطاً فعلياً في عملية البحث عن مخرج من الوضع الراهن على الساحة الفلسطينية - الإسرائيلية هو روسيا. فموسكو تعمل في إطار الرغبة في شراكة رسمية في مجموعة قمة شرم الشيخ التي ضمت كل اللاعبين المذكورين سواها. وهي أقل اهتماماً جذرياً بالملف العربي - الإسرائيلي أو بالحرب الفلسطينية - الإسرائيلية مما هي بملف العراق أو بالعلاقة الثنائية مع الولاياتالمتحدة. ولكن، ولأن الحاجة لروسيا بارزة في طرح الملف العراقي في الأممالمتحدة، يتخذ الدور الروسي في الملف العربي - الإسرائيلي أهمية مميزة. فكما الترابط في الاذهان، كذلك المقايضة في السياسة الواقعية، بين ملفي العراق والشرق الأوسط. تقرير لجنة شرم الشيخ لتقصي الحقائق المعروفة ب"لجنة ميتشل"، نسبة إلى رئيسها السناتور الأميركي السابق جورج ميتشل، يمكن وصفه بأنه خلاصة المواقف المشتركة لأطراف شرم الشيخ زائد روسيا بما يمكنها من اعتبار توصياته قاعدة انطلاق. السلطة الفلسطينية تتمسك به دليلاً للخروج من الوضع الراهن، والحكومة الإسرائيلية برئاسة ارييل شارون تنتقي منه ما يلائمها وتعلن أنه يشكل "قاعدة وأساساً ايجابيين"، مع رفض الدعوة فيه إلى "تجميد" النشاطات الاستيطانية والإصرار على مرحلة انتقالية أخرى كبديل من مرحلة التفاو ض على الحل النهائي. توصيات لجنة ميتشل اطلقت الإدارة الأميركية من خانة الامتناع عن لعب دور ووفرت لها فرصة اطلاق ديبلوماسيتها بعد كثير من التردد. بذلك، خدمت التوصيات بأكثر من فحواها، وربما بقرار مدروس مسبقاً. إنما الأرجح أن التطورات على الساحة في الأسبوع الماضي هي التي فرضت على الإدارة الأميركية دخول حلبة تنشيط الدور الديبلوماسي، ذلك أن التطورات أثبتت مجدداً أن ارييل شارون رجل اعتباطي قد يورّط بأكثر مما أميركا مستعدة له الآن. توصيات "لجنة ميتشل" لم تزعم أنها معنية بالحل وإنما، كما أوضح السناتور نفسه، أنها معنية بمجرد كيفية الخروج من الوضع الراهن. كُلفت اللجنة بتقصي الحقائق لايجاد ما الذي أدى إلى اندلاع النزاع بعد زيارة شارون إلى المسجد الأقصى، فتجنبت الحسم واللوم والإجابة الصريحة. طُلب إليها اقتراح وسائل الخروج من الأزمة الراهنة، فتقدمت بتوصيات وقف العنف أولاً، ثم تنفيذ اجراءات ثقة مفصلة، ثم العودة إلى المفاوضات السياسية، وتوقفت عند ذلك. إلى حد ما، يمكن اعتبار وضع اليوم عودة إلى ما كان الوضع عليه عند نصف المسافة التي قطعها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ايهود باراك. يمكن القول إن تمسك السلطة الفلسطينية بتوصيات ميتشل عبارة عن التقاط فتات الرغيف الذي عرضه باراك بعدما قضم سراً جوانب فيه. من جهة أخرى، ان ما قام به ارييل شارون نكاية وصراحة في إبراز موضوع المستوطنات هو بمثابة تعرية فاضحة لما قام به قادة حزب العمل خداعاً ومواربة في مسألة المستوطنات. فهو صاحبها أصلاً. وحزب العمل منذ عملية أوسلو يخادع ويتحايل ويتحدث لغة التسوية، بينما يقوم بتعزيز النشاطات الاستيطانية. وزير العدل الإسرائيلي السابق في عهد باراك، يوسي بيلين، اعترف قبل أسبوعين بأن سياسة الاستيطان كما تبناها ونفذها حزب العمل هي أحد "أكبر اخطائنا"، إذ أنها أسفرت عن "بقاء المستوطنات وزوال السلام". أما مفاوضو أوسلو من الفلسطينيين، فإنهم باعترافهم أيضاً ارتكبوا خطأ فادحاً عند الموافقة على وضع المستوطنات في خانة المفاوضات على الوضع النهائي، وبذلك سبقتهم المستوطنات واستبقتهم، بموافقتهم، وأدت بالسلطة الفلسطينية اليوم إلى وضع مسألة المستوطنات في أعلى قائمة الأولويات بعدما غيبتها عن القائمة لفترة طويلة. هذا درس للطرفين المفاوضين، لكنه درس أكبر للطرف الفلسطيني. ذلك أن التوقف عند محطة مغرية وتجاهل منعطف أساسي فيها، تسهيلاً للمرور، بات ملتصقاً بالاسلوب الذي تتبناه السلطة الفلسطينية تماماً كسمعة الوصول إلى المحطة ثم العدول عن النزول فيها في آخر لحظة. فثمة حاجة ماسة للسلطة الفلسطينية اليوم أن تكف عن ركوب قطار مرحلي حيناً، والامتناع عن الهبوط في محطة قريبة جداً من المحطة الأخيرة حيناً آخر. بذلك انها تعيد نفسها إلى محطة الانتظار الدائم بعدما يفوتها أكثر من قطار. السلطة الفلسطينية اليوم، تتغيب عن ايضاح قراراتها وسلطاتها وأهدافها وترضى بالاجراءات الانتقالية فيما كانت بالأمس في موقع يمكنها من الانتقال الفعلي إلى اتفاق لو أوضحت قراراتها وخياراتها وأهدافها ومطالبها. هذا لا يعني أنه كان عليها الموافقة على ما عرضه ايهود باراك في طابا وكان بمثابة ما لا يقل عن 95 في المئة من الضفة الغربية وغزة، مقابل ما يفرضه شارون اليوم دون نسبة 42 في المئة مع حذف القدس والمستوطنات من المعادلة. هذا يعني أن السلطة الفلسطينية اليوم في موقع أضعف مما كانت عليه قبل شهور قليلة عندما فضّلت شارون على باراك وكانت في موقع أقوى على الساحة الفلسطينية الداخلية. بعض الفلسطينيين راهن على معادلة "ان لم تكبر، لن تصغر"، والبعض يراهن الآن على أن فظاعة وعنف واعتباطية ارييل شارون ستؤدي إلى فضح إسرائيل على الساحة الدولية و"اظهار وجهها الحقيقي"، بما يضطر الأسرة الدولية لاتخاذ مواقف مختلفة بعدما يقرف الرأي العام العالمي من المغامرات الإسرائيلية القاتلة. والبعض الآخر يرى أن أميركا لن تتحرك ما لم يجبرها أمثال شارون على التحرك. وهناك من يراهن على أن الرأي العام الإسرائيلي نفسه لن يحسم مواقفه ما لم تضطره الأحداث إلى الحسم على نسق تصعيد الانتفاضة وكلفتها على الجانب الإسرائيلي وليس فقط على الجانب الفلسطيني. ثم هناك نظرية مفادها ان إسرائيل لم تتقدم بتنازلات إلا بعد حروب فرضت عليها التنازل، نتيجة إما جهود دولية أو جهوزية الرأي العام المحلي. الثقوب في هذا الطرح عدة، أهمها أن وسيلة التصعيد مرحلياً لتحقيق هدف سياسي ضحيتها ابرياء يقارب عددهم 500 ضحية فلسطينية إلى جانب آلاف المصابين بجروح جسدية أو نفسية أو عملية نتيجة الاجراءات العقابية الجماعية التي نفذتها إسرائيل. إنما الثقوب السياسية أيضاً مهمة، ذلك أن شخصية رجل مثل ارييل شارون خطيرة حقاً لأنها غير قادرة على استيعاب فكرة الفرصة المتاحة للهبوط من قمة التصعيد. الأهم أن القاعدة الشعبية الإسرائيلية التي ساهمت بالفرض على ايهود باراك التسلق هبوطاً مما عرضه على الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في شأن القدس أولاً، باتت أكثر تطرفاً اليوم وهي غير قادرة على اقناع نفسها بجدوى الشراكة مع السلطة الفلسطينية من أجل السلام. فواقع الأمر أن تدهور الأوضاع على ساحة الحرب الفلسطينية - الإسرائيلية أسفر عن "اغتيال" فكرة الشراكة وأقطاب الشراكة التي عمل الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي على ايجادها بعد سنوات عدة من البحث عن شريك. فكلام اليوم هو عن انعدام الثقة، وافتقار الشريك المفاوض، وعودة التشكيك العميق لكل من الطرفين في رغبة الآخر الحقيقية في السلام. لذلك ان مهمة أقطاب شرم الشيخ أكبر بكثير من تسويق توصيات لجنة ميتشل على رغم ما تتضمنه من اجراءات بناء الثقة. كوفي أنان انحرف في الفترة الأخيرة عن نمط الحذر الذي ميّز مواقفه في الأشهر الماضية، وبادر إلى الانتقاد الصريح للخطأ الذي يرتكبه أي من الطرفين، كما إلى طرح الأفكار. بذلك، توقف أنان عن دور "المكمّل" للدور الأميركي الذي تبناه لفترة طويلة وبدأ بلعب الدور المطلوب منه. بدأ، إنما هذا لا يعني أنه استكمل المسافة. فالشوط ما زال طويلاً وهو لم يزل في البداية. قد يقال إن كوفي أنان سيبقى دائماً داخل البوتقة الأميركية وليس في وسعه الخروج منها سيما وأنه طالب ولاية ثانية كأمين عام. هذا صحيح، إنما هذا لا يُترجم اوتوماتيكياً إلى "الخيانة" ولا هو بالضرورة على حساب الفلسطينيين. فالسلطة الفلسطينية نفسها تريد ذلك الدور الأميركي كأساس، وهي ترجوه وتتوسل له لأن في الاعتراف الأميركي بها أهمية بالغة لها كما بالدور الأميركي الذي يبقى وحده الأكثر فعالية بغض النظر عن شراكة الآخرين. المهم ألا يتخذ دور الأممالمتحدة، سواء في صورة الأمين العام أو مجلس الأمن، شكل المكمل أو الخاتم الاوتوماتيكي على مواقف الإدارة الأميركية، فهي في حاجة إلى غير ذلك تماماً. إن حاجتها هي إلى مواقف واضحة وصريحة من الأممالمتحدة، كما من الاتحاد الأوروبي وروسيا، بما يجعل مواقفها من الاستيطان مثلاً، حازمة اطراراً مع إسرائيل. والمستوطنات، على رغم أهميتها الفائقة، هي بدورها عنصر وليست نهاية المطاف، عندما يصل الأمر إلى الحل النهائي. لذلك فإن تسليط الأضواء على المستوطنات في أقصى الأهمية لأن زوالها أساس في التسوية النهائية، ولأن تسويق معارضتها منطقي وسيل لو أحسنت الديبلوماسية العربية التسويق لدى الرأي العام العالمي. فالمستوطنات غير شرعية، وواجب الأمين العام للأمم المتحدة التعبير باستمرار عن كونها غير شرعية وعدم الاكتفاء بوصفها "عقبة" أمام السلام، لذلك فإن وظيفته، ودوره المهم، هما في توفير الموقف الأميركي بذخيرة الشرعية. هذا إلى جانب ضرورة عدم التردد بوصف اجراءات إسرائيلية أخرى مثل الاغلاق والعقاب الجماعي وتدمير البيوت والمحاصيل الزراعية واحتجاز الأموال الفلسطينية، بأنها غير قانونية وغير شرعية. وكي يتمكن من أن يفعل ذلك، فإن على الأمين العام أيضاً أن يدين الأعمال التي يعتبرها الطرف الفلسطيني رداً طبيعياً على الاستفزاز ليصفها بالارهاب. وإذا ما ارتكبت السلطة الفلسطينية الأخطاء، يجب أن يكون ضمن صلاحياته انتقادها، كما انتقاد اجراءات وأخطاء الحكومة الإسرائيلية. المهم أن يبقى أولاً وأخيراً الناطق باسم الشرعية الدولية والطرف الحيادي القادر على تقديم المساعي الحميدة بدلاً من أن يلعب دور "المكمّل" أو "المسهل" أو "المعزز" للدور الأميركي. فلأميركا دورها وظروفها، وللأمم المتحدة واجباتها وصلاحياتها. أما الاتحاد الأوروبي، فلديه الكثير من الاجراءات العملية التي من شأنها ابلاغ إسرائيل أو السلطة الفلسطينية ما يتوجب عليهما القيام به أو التنبه له. وبصراحة أن الوزن الأوروبي اقتصادي أكثر منه سياسي. كذلك، طالما أن أوروبا تصدر البيانات وتتجنب الاجراءات الاقتصادية، فإنها ستبقى هامشية وغير صادقة. والكلام ليس فقط عن مساعدات اقتصادية للسلطة الفلسطينية وإنما عن اجراءات اقتصادية عقابية لإسرائيل. إدارة جورج بوش دخلت الحلبة بظروف تجعلها أكثر اضطراراً لإظهار النتيجة. فهي لم تتقدم، طوعاً، بمبادرة متكاملة لمعطيات السلم، وإنما جُرت قسراً للتقدم باقتراحات التهدئة، ولذلك، فإن المهام الأردنية - المصرية يجب أن تركز على جانب الحلول الجذرية، فيما الآخرون يتولون مهام التهدئة. وإلا فإن "النافذة" على انفراج ستُغلق سريعاً ليركب الجميع قطاراً هارباً إلى محطة مجهولة مصيرها الدمار.