Philippe Broyer. L'Argent Sale. المال الوسخ. L'Harmattan, Paris. 2001. 462 pages. إذا كانت الوقائع الجديدة تحتاج الى أسماء جديدة، فإن اللغة قد تحتال أحياناً لتسمي ما هو جديد بما هو قديم من خلال تحوير في الاستعمال الدلالي. وعلى هذا النحو شاع في الحقل التداولي الاقتصادي والاعلامي الدولي في السنوات العشر الأخيرة تعبير "تبييض المال" ليشار به الى أن هناك من المال ما يحتاج، مثله مثل "الغسيل الوسخ" تماماً، الى التبييض، أي الى إزالة الوساخة عنه بإخفاء أصله المشبوه واضفاء صفة المشروعية على ما يتأتى منه من مصادر غير مشروعة. والواقع ان اول من أشاع التعبير هم رجال المافيات الاميركية الذين كانت درجت عادتهم على "تدوير" الأموال التي تدرها عليهم الجريمة المنظمة في شراء وتشغيل سلسلة من "المغاسل" الآلية منذ ازدهار تجارة تهريب الكحول في سنوات الحظر في الثلاثينات من القرن العشرين. ورغم ان مصادر "المال الوسخ" قد تنوعت تنوعاً كبيراً في السنوات الأخيرة، لا سيما منذ سقوط الكتلة السوفياتية، وصارت تشمل تجارة السلاح والرقيق الأبيض وتهريب رؤوس الأموال، إلا أن المصدر المغذي الرئيسي كان ويبقى تجارة المخدرات. وحسب تقديرات خبراء صندوق النقد الدولي ومنظمة الأممالمتحدة فإن الرقم الاجمالي العالمي للمال الوسخ لا يقل سنوياً عن ألف بليون دولار، يأتي نصفها من تجارة المخدرات. والرقم بحد ذاته مذهل لأنه يمثل نحواً من 3 في المئة من الناتج العالمي السنوي. واذا اخذنا بعين الاعتبار تراكم "رأس المال" على مدى السنوات العشر الأخيرة، وتراكم فوائد هذا الرأسمال المتراكم، فإن "الكتلة النقدية" للأموال ذات المصدر الاجرامي لا يفترض فيها ان تقل اليوم عن عشرين ألف بليون دولار، وهو مبلغ يعادل أكثر من ضعفي الدخل القومي السنوي للولايات المتحدة الأميركية، ونحواً من خمسة عشر ضعفاً للدخل القومي لفرنسا أو لبريطانيا. أين يجري "تبييض" هذه المبالغ الهائلة التي ينضاف الى رصيدها في كل سنة جديدة نحو من ألف بليون دولار؟ في تلك "المغاسل" الحديثة جداً التي هي المصارف المالية العالمية وأسواق البورصة والشركات المتعددة الجنسيات في عصر العولمة، لا سيما في تلك البلدان المتوزعة بين القارات الخمس والمعروفة باسم "الفراديس الضريبية". فطبقاً لتقرير "مجموعة العمل المالي" التي أنشأها في 1990 نادي الدول السبع الأكثر غنى وتقدماً في العالم، فإن الفراديس الضريبية، أي البلدان التي تقدم تسهيلات قانونية وضريبية لاجتذاب رؤوس الأموال الخارجية اليها دونما تساؤل أو تدقيق حول مصادرها، لا يقل تعدادها اليوم عن الخمسين، تتوزع خريطتها ما بين دول البحر الكاريبي في أميركا والمحيط الهادئ في آسيا والبحر الأبيض المتوسط في أوروبا والشرق الأدنى. وأكثر ما يميز هذه البلدان "الفردوسية" صغر حجمها السكاني والطابع الاستثنائي لوضعيتها الجيوبوليتيكية. وطبقاً لتقرير "مجموعة العمل المالي" لعام 1998، فإن هذه الفراديس الضريبية استجلبت ما بين 6000 الى 8000 بليون دولار، أي ما يعادل ثلث الرصيد الاجمالي العالمي للمال الوسخ. ويعود قصب السبق في هذا الميدان الى دول البحر الكاريبي الثلاث عشرة التي لا يزيد الحجم السكاني لأكبرها عن 300 ألف نسمة، ولا يتعدى الحجم السكاني لأصغرها ال7500 نسمة. وأشهر هذه الفراديس الضريبية وأنشطها باطلاق هي جزر كايمان التي بقيت ممتلكة بريطانية بعد استقلال جامايكا عام 1962. فهذه الجزر التي يقطنها نحو من 35000 نسمة، تحتل المكانة المالية الأولى في العالم من حيث عدد البنوك الخارجية العاملة فيها: نحو من 600 بنك تسيِّر ما قيمته ألف بليون دولار من الودائع، وما يعادل هذا المبلغ من التحويلات السنوية. وتتمركز في هذه الجزر أكثر من 30000 شركة دولية تعمل في شروط مثلى من الإعفاء الضريبي وانعدام الرقابة على تحويلات القطع الأجنبي. ورغم تبعية الجزر دستورياً لبريطانيا، فإن بنك انكلترا لا يمارس أي رقابة على النشاط المالي فيها. والشيء نفسه يمكن أن يقال عن جزر البهاماس، الواقعة على بعد 100 كم من شاطئ فلوريدا، والتي كانت حتى 1973 مستعمرة بريطانية قبل ان تستقل وتصبح عضواً في الكومنولث. فهذه الجزر، المقطونة بنحو 300 ألف نسمة، تؤوي أكثر من 30 ألف شركة دولية لا توقع سوى رسم تسجيل بمبلغ 300 دولار، بالاضافة الى رسم سنوي بمبلغ 1000 دولار، وتستفيد من شرط الاعفاء الضريبي لمدة عشرين سنة من تاريخ تأسيسها، بالاضافة الى السرية المصرفية وانعدام جميع أشكال الرقابة. وذلك هو أيضاً وضع جزر البرمودا التي يقطنها اليوم نحو من 60 ألف نسمة والتي صارت مستعمرة بريطانية منذ 1612 ورفضت الاستقلال عام 1995. وجزر برمودا تعد من أقدم الفراديس الضريبية في العالم، إذ أن أول قانون للاعفاء الضريبي للشركات قد صدر فيها منذ 1950، الأمر الذي حمل عشرة آلاف شركة أجنبية على تسجيل نفسها فيها، ومنها 1500 شركة تأمين. وطبقاً لآخر قانون معمول به فإن جميع الشركات العاملة في برمودا ستبقى معفاة من الضرائب على الرساميل والأرباح معاً حتى نهاية العام 2016. وإذا غادرنا الآن جزر البحر الكاريبي الأميركي الى جزر المحيط الهادئ الآسيوي طالعتنا نفس صورة الدول الصغيرة المصطنعة اصطناعاً لتكون بمثابة فراديس ضريبية ومغاسل لتبييض المال الوسخ. وأشهر هذه الجزر/ الدول، اذا ما استثنينا هونغ كونغ التي عادت الآن أرضاً صينية - هي سنغافورة التي لا تزيد مساحتها على 618 كم2، ويقطنها 3.5 مليون نسمة، بكثافة عالية للغاية تصل الى 5774 نسمة في الكيلومتر المربع الواحد، وبدخل سنوي فردي 24000 دولار يضعها في مصاف الدول الأكثر تقدماً في العالم. وسنغافورة هذه تبدو "عملاقة" بالمقارنة مع جزر دول أخرى في المنطقة الباسيفيكية مثل دولة ناورو التي لا تزيد مساحتها على 24 كم2 يقطنها 11000 نسمة. وقد استقلت كجمهورية منذ 1968 وصارت عضواً في الكومنولث البريطاني. وتماثلها أيضاً في المساحة وتعداد السكان دولة توفالو التابعة للتاج البريطاني. وهناك أيضاً في أقصى المحيط الهادئ دولة نياو التي لا يزيد تعداد سكانها على الخمسة آلاف والتي ترتبط إدارياً بنيوزيلندا. وتضاف الى قائمة هذه الجزر/ الدول مجموعة من الارخبيلات التي كانت كلها ممتلكات أو محميات بريطانية قبل أن تأخذ طريقها بشكل أو بآخر الى "الاستقلال" في مطلع السبعينات من القرن العشرين، ومنها ارخبيلات كوك وفيجي وصالومون وتونغا. واليها ينبغي أن نضيف ارخبيل جزر الماريان وارخبيل جزر مارشال التي لا تنتمي الى الكومنولث البريطاني، بل ترتبط إدارياً بالولايات المتحدة الأميركية، لكنها تحلم، مثل سائر الدول الكومنولثية، بأن تغدو بدورها في المستقبل القريب مراكز مالية فردوسية. وإذا كانت الوضعية الجزيرية لدول البحر الكاريبي والمحيط الهادئ تبرر شذوذها الجيوبوليتيكي والمالي معاً، فإن مشهد هذا الشذوذ يطالعنا في قلب القارة الأوروبية نفسها حيث تضطلع بدور الفراديس الضريبية لا جزر/ دول، بل امارات/ دول، أشهرها إمارة موناكو وإمارة ليختنشتاين ودوقية اللوكسمبورغ. ولئن تكن أكثر من اصبع اتهام قد وجهت في الآونة الأخيرة الى امارة موناكو 24000 نسمة بوصفها مغسلة للمال الوسخ، فإن الدور الأكبر في هذا المجال تضطلع به دوقية اللوكسمبورغ التي هي عضو مؤسس للاتحاد الأوروبي. فهذه الدوقية، التي تعادل في المساحة ربع مساحة لبنان 2586 كم2، ويقطنها 415000 نسمة، تؤوي 8000 شركة دولية ونحواً من ألف مؤسسة مصرفية مركزية أو فرعية. وعدا "المحاباة" الضريبية، فإنها تقدم ل"زبائنها" امتياز السرية المصرفية. وهو ما أتاح لسكانها أن يكونوا أصحاب أعلى دخل في العالم 45000 دولار للفرد. ولا يبدو ان امارة ليختنشتاين، الواقعة بين النمسا وسويسرا، تلعب دوراً أقل خطورة. فرغم ان مساحتها لا تزيد على 157 كم2 ولا يقطنها سوى 32000 نسمة، فإن عدد الشركات الدولية، الفعلية أو الوهمية، المسجلة فيها يزيد على 60000 شركة، أي بمعدل شركتين اثنتين لكل "مواطن" ليختنشتايني، ويقدر حجم المحفظة المالية التي تتداولها بورصتها بأكثر من ثلاثين بليون دولار. والى هذه الامارات "البرية" الثلاث ينبغي ان نضيف منطقة جبل طارق التي هي في الواقع مستعمرة بريطانية لا تزيد مساحتها على 6 كم2 ويقطنها 30000 نسمة. فعدد الشركات وواجهات الشركات المسجلة في جبل طارق يناهز الثلاثين ألفاً، ونصابها الضريبي لا يتعدى في أغلب الحالات 2 في المئة من أرباحها المعلنة. وإذا انتقلنا أخيراً الى الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط برز الدور "التبييضي" لأصغر دولتين في المنطقة، وهما قبرصولبنان. فقبرص، المقسمة اليوم الى "جمهوريتين" لا يتجاوز تعداد سكانهما الاجمالي ال 700 ألف نسمة، تقدم المقر لأكثر من 22000 شركة تم انشاؤها بين 1975 و1996، وعشرة آلاف شركة منها يسيّرها "رجال أعمال" يحملون الجنسية الروسية أو الأوروبية الشرقية. وفي القسم الشمالي من الجزيرة، الذي يخضع للسيطرة التركية، تكاثرت في الأعوام الأخيرة المصارف التي تلتزم تقديم خدماتها لزبائنها من دون سؤال عن المصدر الذي تأتي منه ودائعهم، وهو ما يشير بإصبع الاتهام الى مهربي المخدرات الأتراك وأعضاء المنظمات الاجرامية الروسية. أما لبنان فإن جاذبيته الكبيرة لرؤوس الأموال الخارجية يكمن في نظام السرية المصرفية شبه المطلق الذي يلتزمه. ومن هنا أصلاً المفارقة: ففي الوقت الذي تشكو فيه البلاد من أزمة اقتصادية مزمنة، فإن القطاع المصرفي يشهد، منذ 1990، رواجاً كبيراً. فقد ارتفع رصيد الودائع البنكية من 6.3 الى 21 بليون دولار في الفترة بين 1991 و1997، في الوقت الذي يتدنى فيه رصيد القروض والاعتمادات المقدمة الى الزبائن الى ثلث هذا المبلغ، أو حتى الى ربعه، وهذا بخلاف قانون الاقتصاد السليم في الحالات النظامية. يبقى أن نقول ان الغائب الكبير عن هذا الكتاب شبه الموسوعي عن "المال الوسخ" هو اسرائيل، علماً بأن مصارفها تطبق، بالنسبة الى الودائع الخارجية المصدر، نفس نظام السرية المصرفية الذي يطبقه لبنانوقبرص. جورج طرابيشي