هل تتحمّل «الجنّات الضريبية» مسؤولية أزمة الاقتصاد العالمية، وانتشار أدوات المال المعقّدة ذات الأخطار الكبيرة. أم أنها تشكّلُ فقط منافذ تتسرّبُ عبرها أحجام الضرائب الكبيرة، وتبقى في جيوب أصحابها بدلاً من أن ترفد خزائن الدول وتعوّم مواردها الضريبية؟ فالإجماع الذي حققه قادة مجموعة العشرين، في قمة لندن (مطلع نيسان/أبريل) في اتخاذ إجراءاتٍ متشدّدة لترويض هذه الجنّات - الملاذات، لا يرمي كثيراً إلى رفع السريّة المصرفية ودكِّ حصونها وإضعاف مناعتها، بل يهدفُ إلى وضعِ اليدِ على موارد مالية تشكّلُ رافعةً في خطط الإنعاش الاقتصادي، ذات مستويات الإنفاق المكثّف. إذ بدا أنّ ما من بلدٍ متهم، يتجاوب مع رفع السرية المصرفية، إلا من ضمن شروط محدّدة تفرض الإثبات القانوني للتهرّب الضريبي، ويبقى ما عداه، من ضمن المعايير المصرفية في مكافحة تبييض الأموال الناتجة عن الجريمة والتهريب. ويوزّع الخبير الأميركي ريموند بايكر، موارد الجنّات الضريبية بين 5 في المئة من أموال الجريمة و30 في المئة من الفساد، والبقية تعود إلى الاختلاسات والتزوير والتهرب الضريبي. وطبيعي أن لا تأوي الملاذات الضريبية أموال الخارجين على القانون وأعضاء المافيات فقط، بل تكوّن مستخدموها من فئات ومستويات ثقافية عالية. ومن بين هؤلاء ذوو الدخل العالي المتعددو الجنسيات، الذين يرفضون دفع الضرائب المترتبة عليهم، ويفضّلون أن يدفعها الأجراء الأساسيون الذين يعملون في مؤسساتهم. ومن هذا المنطلق، اعتبرت الملاذات الضريبية أدوات، ساعدت العولمة في اتساع عدم المساواة. ويُقدّر خبراء أن «الملاذات» تفوّتُ سنوياً على أوروبا نحو مئة بليون دولار أموالاً ضريبية، تصل نسبتها في بلدانٍ إلى عشرة في المئة من الواردات الضريبية، فيما تحتاج تلك الدول إلى تغطية عجزٍ في موازناتها يزيد على هامش 3 في المئة. ويمارسُ التفويت الضريبي أثرياء يستخدمون «الملاذات» لتمويه حجم دخولهم، سواء من أجورهم أو من استثماراتهم، فيستوطنون «الملاذات»، أو يسجلون شركات وهمية يحوّلون إليها فوائض دخولهم وإيراداتٍ لحفظها، أو عائدات المباريات، أو للتهرب من دفع ضرائب الانتقال والنفقة القوية في حالات الطلاق. وتشير تقارير إلى أن المصارف العالمية الكبرى من أكثر مستخدمي الملاذات، تحركها لمصالحها الخاصة ولغايات ضريبية، أو من أجل المخاطرة في أدوات المال، ولاقتراح خدمات لزبائنهم الأثرياء وللمؤسسات. واستخدمت الشركات المتعددة الجنسية، من أجل تأسيس فروع تستثمر في مناطق متفرّقة من العالم، أو من أجل تكثيف أدوات حماية الملكية الفكرية، التي تدفع ضرائب قليلة عليها، وتحقق المنافع، بينما الفروع في بلدان المقصد النهائي تدفع ضرائب أعلى. وتستخدمها الشركات أيضاً من أجل إخفاء حقائق عن المستثمرين والغش في موازناتها، وتبديل أرقام حساباتها. وتقدّر منظمة التعاون للاقتصاد والتنمية، أن جزيرة جيرسي، (مساحتها 116 كيلومتراً مربعاً)، تستقطب 500 بليون دولار من أصول لنحو 32 ألف شركة وحساباتها، أكثرها ليس سوى علب بريد، وتستقطب سويسرا 1500 بليون، بريطانيا 1300 بليون، لوكسمبورغ 740 بليوناً، الكاريبي وأميركا الوسطى 670 بليوناً، سنغافورة 370 بليوناً، الولاياتالمتحدة 370 بليوناً وهونغ كونغ 150 بليون دولار. وبدت «الملاذات» الضريبية صيداً سهلاً من أجل توفير النقود، فالمساعدات المكثّفة إلى المصارف المتعثّرة، والخطط الموضوعة بهدف حصر تداعيات أزمة المال على الاقتصاد وفرص العمل، يفجر العجز في الموازنات. لذا بدت فكرة استعادة الضرائب مواتية لقادة القمة. ويبرّر خطوة الهجوم على مراقبة المراكز المالية الخارجية «أوف شور»، أنها تسمح، بحريّة كاملة، للاعبين على مسرح المال، بأن يطوّروا نشاطات ذات أخطار عالية ورهانات مالية مجنونة ومنوّعة. فهذه «الملاذات» لم تتسبب بأزمة الرهانات العقارية العالية الأخطار في أميركا (السبرايم)، لكنها لعبت دوراً بقي لغاية الآن مغموراً. ويُبيّن تقريرٌ ل «مكتب المحاسبة الحكومي» الأميركي، أن جزءاً من النظام المصرفي الوهمي «أوف شور»، أسسته مصارف أميركية في جزر كايمان، من اجل أن يروّج لحسابها سندات المال المعقّدة، وكان في أساس أبعاد الأزمة. وسواء تعلق الأمر بفشل البنك البريطاني «نورثرن روك» والاميركي «بير ستيرنز» والألماني «هيبو ريل استييت»، أو المصارف الإيسلندية، واختلاسات برنارد مادوف، وسير ألن ستانفورد، فإن الأحداث الأساسية لهذه الأزمة تمر في الملاذات الضربية. ولذا تقرّرت إعادة مراكز «الأوف شور» إلى صوابها كشرطٍ لفعالية إجراءات «تنظيم المالية العالمية». غير أن الهجوم على «الملاذات»، لا يضع نهايةً لانحراف العولمة المالية، على رغم تشدّد إجراءات المصارف المركزية، المستعدة الآن لأن تراقب الآليات التي تعتمدها المصارف في تحمّل الأخطار، ولأن تحيط في شكل أفضل، بأسواق أدوات المال الكثيرة التنويع. يقولُ وزير المال الأميركي عام 1937 هنري مورغنتو: «الضرائب هي الثمن الذي يدفع من أجل تحقيق مجتمع متمدن، لكن مواطنين كثيرين يريدون تمدناً بسعر رخيص». فهل تستعيد خزائن المالية العامة في العالم، ما سلبتها إياه الجنات الضريبية؟