في حين تمكن الروائي العراقي الراحل غائب طعمة فرمان من تحويل المكان البغدادي الى حكايات وبنى سردية وأكد ذلك المنحى، الروائي فؤاد التكرلي في رواية "الرجع البعيد" عمد الروائي خضير عبد الأمير في روايته الصادرة حديثاً في بغداد "حب وحرب" الى ما يشبه التوثيق للمكان البغدادي الأحياء الشعبية القديمة الواقعة ما بين البابين الشرقي والمعظم في فترة الحرب العراقية - البريطانية عام 1941. ولم يبدُ ضعف البناء الحكائي وتصاعد السرد غريبين على عبد الأمير في عمله الجديد، فهو عرف قاصاً وكتابته للرواية جاءت دائماً ضمن سياق أدب الحرب "التعبوي" العراقي الذي ما كان لينتج أدباً روائياً لافتاً. وفي روايته "حب وحرب" غابت الحكاية لتحل محلها كتابة عن ملامح بغداد العمرانية والاقتصادية والاجتماعية في أربعينات القرن الماضي، فتحولت الرواية الى كشف بيئي اجتماعي عن المهن والأعمال وعلاقات الناس، ووصف للمقهى، وأماكن اللهو والبيت في حياة البغداديين. وفي حرصه على هذه الوثيقة الحكائية أراد خضير عبد الأمير ان يترجم معرفته العميقة بالحياة البغدادية الى عمل أدبي غني بكل ما هو مستغرق بالنوستالجيا الحنين الى حياة اجتماعية طالما عرفت بغناها وتسامحها وهو ما هدف إليه عبد الأمير في روايته حين تتجاوز مصائر الريفي العراقي مع اليهودي البغدادي والمهاجر الهندي. فنياً لم تتصل المصائر في بؤرة حكائية ولا في علاقات فنية داخل الرواية، بل إنها وردت منفصلة في فصول مختلفة. فلكل شخصية في الرواية فصل خاص. غير ان حدثاً كالحرب العراقية البريطانية اثناء الحكم الملكي وتحديداً في أوائل أربعينات القرن الماضي أوجد منطقة مشتركة لتلك الشخصيات. وليكون الموقف من الحرب موقفاً مشتركاً جاء الحدث عميقاً في ارتباطه بالمكان والإخلاص لحميميته. ولعل ما منح رواية: "حب وحرب" أهمية، هو انغماس كاتبها في صوغ أوسع التفاصيل وأغنى المعطيات عن الحياة الشعبية البغدادية، وقد أمضى في نسج حكايات منفصلة عن معالم الحياة الاجتماعية في بغداد للسنوات 1940- 1968، وما عرفته من تغيرات سياسية دموية في معظمها: الإطاحة بالحكم الملكي في تموز يوليو 1958 وانقلاب شباط فبراير 1963 ووصول البعث الى الحكم للمرة الأولى، ثم الإطاحة به وعودته الى الحكم ثانية في تموز يوليو 1968. ودونما إعلانات ضخمة عن "حداثة" في الكتابة الروائية تأتي رواية "حب وحرب" لتعلن "انتماءها الى الناس العاديين" المبثوثين في امكنة خبيئة من بغداد، امكنة أقصتها التحولات السياسية الحادة. واغتصبت منها حيواتها الهادئة المتوائمة. هكذا يبدو الزمن في تلك الأمكنة وكأنه توقف عند اللحظة التي اندرجت فيها حياتها الاجتماعية المسالمة، وليس غريباً ان تكون ابنيتها وأزقتها متصلة بعمارة أوائل القرن الماضي في بغداد. وفي الوقت الذي بدا عبد الأمير كتب نحو عشر مجموعات قصصية أبرزها "الرحيل" 1966 و"رموز عصرية" 1976 و"هذا الجانب من المدينة" 1984 محافظاً في كتابته الرواية على نسق عرف به في كتابة القصة: من أزقة المدينة القديمة وإليها تمضي الحكاية. وحاول منح القارئ فرصة الاستغراق في الحنين، وهو ما يفعله العراقيون في الهروب الى الماضي دفعاً لوحشة الراهن وغموض المستقبل. قدم عبد الأمير نصاً عتيقاً في لغته، وفي مقاربته نهج الواقعية في نموذجها الذي ساد في منتصف القرن الماضي، حتى أن بعض الفصول جاء أشبه باستذكارات وجدانية عن حيوات بغداد القديمة.