التصعيد الاسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني وقياداته، وان كان غير مسبوق، الا انه لم يفاجئ احداً. قد يكون نابعاً من توازن قوى عسكري، ميداني واستراتيجي، يميل بوضوح لمصلحة اسرائيل في المواجهة مع العرب. لكنه في اعتقادنا، ينبع بالاساس من عوامل تتعلق بطبيعة المجتمع الاسرائيلي و"عقليته" المغلقة على الحلول المطلقة في الزمن النسبي. فهو مستعد لشراء بقرة لأنه في ساعة قيلولة اشتهى كأس حليب! وهو في اطار الرد على ما يسميه تضليلاً "الارهاب الفلسطيني" المعبر عنه بصليات "الكلاشن" مستعد لاعتماد احدث ما في ترسانته من طائرات ودبابات. لكن المسألة الآن لم تعد رداً اسرائيلياً على "العنف" الفلسطيني. وادعي انها لم تكن على هذا النحو منذ البداية لأن الامر لم يبدأ بفشل رئيس الحكومة السابق ايهود باراك في اقناع الفلسطينيين بقبول مقترحاته او بزيارة شارون الاستفزازية الى الحرم القدسي الشريف في تشرين الاول اكتوبر 2000. بل ان البداية كانت في اغتيال رئيس الحكومة اسحق رابين. اذ شكلت هذه النقطة على دالة الزمن الاسرائيلي تراجعاً سياسياً وفكرياً وتوجيهياً عن مبدأ التسوية النسبية مع الفلسطينيين والعرب في الشرق الاوسط. وهي في وجهها الآخر انتصار لفكرة الحلول المطلقة المشتقة من الفكر الصهيوني الراديكالي الذي لا يتردد في اشاعة خطاب "إما نحن وإما هم"! وهذا الفكر مستعد للذهاب بعيداً الى حد الدخول في انشوطة "عقدة متسادا" ** والانتحار الذاتي. ان اغتيال رابين، في تشرين الثاني نوفمبر 1995 كان ذروة في الصراع بين الصهيونية اليمينية الراديكالية على احزابها وبين الصهيونية البراغماتية على تشكلاتها. وفي اعتقادنا المستند الى حوارات اجراها كاتب هذه السطور مع قيادات اسرائيلية براغماتية ان الاغتيال، بما مثّله، جاء عوضاً عن حرب اهلية محدودة كان المجتمع اليهودي يقف على مرمى عصا منها. اذ ان مواصلة العملية التفاوضية على محدودية ما طرحته من تسوية غير منصفة للحق الفلسطيني، كانت ستفضي الى حرب اهلية بين ما يمثله رابين من "تسوية اسرائيلية" - اي بمشاركة مواطني اسرائيل جميعاً - وبين اليمين وما يجسده من "تسوية يهودية" - اي باستثناء المواطنين غير اليهود وشراكة يهود المهجر لا سيما في اميركا الشمالية! كأن اليمين الاسرائيلي المدعوم من غالبية المنظمات اليهودية المتحدرة من اصل انغلوساكسوني حصل على رأس رابين فأحجم عن المضي في مشروعه الانقلابي ضد "الاسرائيليين" كما صاغتها "حركة العمل" والنخب اليهودية التقليدية في العقدين الاخيرين، لا سيما انه استعاد امساكه بمفاتيح السياسة الاسرائيلية بفوز بنيامين نتانياهو على شمعون بيريز، بعد بضعة اشهر فقط من اغتيال رابين! وكانت معاني الاغتيال ضاعت وطويت في ثنايا الخوف من "حرب الاخوة" وفي نشوة انتصار الصهيونية على مشروعها اسرائيل. فإذا رأينا الى العملية التفاوضية واتفاق اوسلو وما اعقبه من طرح اسرائيلي منقوص للتسوية يحد من آفاق المشروع الصهيوني من الماء الى الماء، بيت قومي لليهود دون غيرهم. فقد جاء اليمين مسلحاً بادعاءات الحلم الصهيوني المعدل المذكور ليغتال رابين ومشروعه الاسرائيلي. وعليه، ففي إمكاننا ان نرى الى ما حدث منذ اغتيال رابين على انه عملية خنق متعمدة تقوم بها الأم الصهيونية بصيغتها الكلاسيكية لنزعات استقلالية عند وليدها. اليمين المهيمن في اسرائيل، الآن، يجسد الاصرار على ابقاء المشروع الصهيوني خارج حركة التاريخ في مستويين، الاول: التمسك بنموذج الدولة القومية القبيلية القائمة على العرق والارث والاساطير والذاكرة، على طراز الدولة القومية في اوروبا القرن الماضي. اي انه لا يزال يحمل رسالة البعث ويقدس القوة والعنف اسلوباً للوجود. الثاني: الترويج للاتاريخية الشعب اليهودي ول"تميزه" وتمتعه بمكانة ومكان فوق الطبيعة البشرية، والادعاء ان ما حصل للشعوب والامم لن يحصل للشعب اليهودي، "شعب الله المختار"، وان ما هو صحيح في تطور الامم والمجتمعات لا يصح في ما يتعلق بالشعب اليهودي. وكأن مسألة هذا الشعب ليست مسألة ارضية وانما سماوية لا يحق لأحد ان يتعاطى معها بمعايير علوم السياسة الشرعية الدولية! وإلا كيف نفهم اقدام الاسرائيلين على قصف سجن بكامله في نابلس لقتل "مطلوب" فلسطيني. وتأسيساً على ما تقدم فإن الحكومة في اسرائيل التي تحظى الآن بدعم منقطع النظير عن مواطنيها بسبب من عجز الابن عن قتل شخصية الام فيه وبدافع الخوف والعصاب الجماعي اليهودي، مستعدة لرسم معادلة الصراع مع العالم العربي بصيغة: "من يملك كامل القوة في مواجهة من يملك كامل الوقت" او "التاريخ في مواجهة الطارئ على حركته"، فاسرائيل تركن الى انها تمتلك الآن كامل القوة تكتيكياً في الميدان، من خلال امتلاك اكبر طاقة تدمير عسكرية، وكامل القوة استراتيجياً لمواجهة اي احتمال عبر امتلاك السلاح غير التقليدي على تنوع تكنولوجياته! في حين ان العرب يملكون كامل الوقت او كامل التاريخ. وهي ورقة لعبهم التي من المستحيل أن تستطيع اسرائيل سحبها من ايديهم، وان تعاونت انظمة عربية معها، لانها غير قادرة على استخدام كامل القوة التي بحوزتها. وهنا تنحسر كامل القوة لديها لتصير نسبية، اما حركة التاريخ فتبقى مطلقة. ومن عادة التاريخ ان يقهر القوة مهما يكن جبروتها. من ناحية اخرى فإن لا ظاهرة انسانية خارجة عن سيرورة التاريخ السرمدية. وكل سيرورة اقوى من تفاصيلها، او من الحركة الطاردة عن مركزها. * كاتب فلسطيني، الناصرة. ** "عقدة متسادا": حالة انتحار ذاتي لليهود عندما حاصرهم الرومان في حصن لهم في الصحراء غرب نهر الاردن، وحصل الانتحار بأمر من قائد المجموعة وليس برغبة الجنود!