"جسور الروح" عنوان المعرض الذي اقامته الفنانة الاسبانية اسمبسيو ماتو زوجة الرسام وضاح فارس في غاليري "الأيبروف - دارتيست" في بيروت، متضمناً 21 لوحة مواد مختلطة على ورق وخشب وقماش هي بمثابة مناظر تجريدية - آثارية اركيولوجية في ذاكرة الحضارات البائدة وأطلالها. ثمة روابط بين اللغة والتاريخ والحضارة، تستعيدها اسمبسيو في منهج اختباراتها المحدثة، وهي تشيد صروحاً للذاكرة القديمة، من طبقات الاعمار والثقافات والازمنة التي تمتزج في صعيد الارض اليباب. فينبثق من سديمها حروف واشارات وآكام ورموز، ما هي الا مؤشرات مادية وحسية تدل على وجود انساني، الارض وحدها تتذكره وتحمل بصماته ومخلفاته وتراثه وأدواته. وقد ينحصر ذلك السفر الى الماضي في استدعاء الحروف الفينيقية من شواطئ المتوسط، واللغة المسمارية من حضارة بلاد ما بين النهرين، والقناطر الرومانية لقصور المياه، وقصاصات طباعية حديثة لنصوص عربية وقصائد مكتوبة باليد... كل تلك العناصر التصويرية اللاشكلانية تؤلف سيميائية اللوحة، كلغة زخمها العميق في طاقتها الداخلية. وحين تحفر اسمبسيو رموزها بقطعة حادة او بأصابعها احياناً مثل الفنون البدائية انما لتروي علاقة الانسان بالأرض والهواء والماء والنار. لذلك تقوم الفنانة بتحضير قماشتها في اولى خطوات الاختبار، فتُلصق عليها لدائن ومساحيق ذات ملمس خشن، وقبل ان تجف كلياً تنزع منها قطعاً بكل ما يعني هذا النزع من خلفيات عاطفية درامية موازية للانسلاخ عن الارض الأم. كما ان الاقواس المتتابعة في اماكن من اللوحة انما تشير الى انتقال الحضارة من طور الزراعة الى الطور المديني للعمارة. لكنها ليست الا اوابد صغيرة امام مشهد الطبيعة الكبير وهو الارض الترابية التي صبغتها الشمس بألوان الجمر وأشعلت في حطامها ذاكرة مشحونة بالعاطفة والحنين. فجدران الطابوق وألوان المغرة الحمراء تكاد تشكل الايحاءات المباشرة لفن الارض، لا سيما وان اسمبسيو قد اطلعت عن قرب على الحضارة العربية، لذلك تستعيد الامكنة الغائبة والأزمنة القديمة لبلاد الشمس والنور وللبحر المتوسط الذي لا شيء يعادل زرقته. فمغامرتها شبيهة بالسفر نحو الماضي، نحو بداوة اكثر شاعرية وامتلاء لونياً. ذلك في اسلوب يذهب دوماً من ملامح اللوحة التجريدية باتجاه اكتشاف اسرار المواد والخامات ومساحيق الألوان المستخرجة من الارض. والفنون البدائية لحضارات ما قبل التاريخ التي ألهمت كلاً من ميرو وكلي ثم تابياس، ما زالت تفتح آفاقاً جديدة للتصوير لسبب القيمة الانسانية العميقة التي يحملها عالم الاشارات والرموز والكتابات القديمة، وما ينضوي عليه من ألغاز وطلاسم وأسرار جمالية. في هذا المنظور تدرك اسمبسيو اهمية الاشارات التي تكتفي بذاتها حين تغطي السطح التصويري، ذلك السطح الذي يشبه قشرة الأرض ونتوءاتها وجزرها وأخبيلاتها، لا سيما حين تمنحها سلم الألوان الترابية والحمراء او تدمجها مع طبقات من الألوان الزرقاء النيلية الكوبالت وهي تستبعد معاجين الألوان الجاهزة عن اختباراتها. هكذا تمنح اسمبسيو ماتو بعد الانتشار الاوروبي الذي حققته لوحتها حضوراً متميزاً وسط التجارب الراهنة مستلهمة المناخات البدائىة وسرابها وآثار المدن القديمة الغارقة في الفراغ والصمت وتعرجات كثبانها. حيث في الخلاء الكبير الحروف مثل نوتات موسيقية، تتوزع في حقول المشهد الارضي وطبقاته، وتسافر بين طياته. اذ بين الارض والسماء آفاق متتالية، تضطرم الألوان في تعرجاتها، فتعوم احياناً على السطح ندية زرقاء في وجه الارض هي من ذاكرة بحيرة السماء. احياناً يطغى الازرق في الالوان النهارية الحرة للساحل المتوسطي، المتوهج في نير الاحمر الترابي، وأحياناً تفقد تضاريس الارض وتعتم في سواد ليل لا ينيره الا ضوء القمر. في كل ذلك تصل اسمبسيو الى ادهاش العين، ربما لأنها تمنح اختباراتها حرية في التخييل والتصور. فهي تلعب بالمساحة بتحرك سطوحها. ترفع بنيانها. تُجاري يدها ورغباتها التلقائية في استنطاق المواد والألوان على البوح، وعلى تتبع الأثر في رمال الارض. والأثر ما هو الا حروف في فضاء التشكيل. اخاديد ونجوم وخطوط متعرجة في مسار الزمن.