"محترفات عربية: فنانون تشكيليون من المشرق والمغرب العربي" عنوان تظاهرة كبيرة تنظمها معاً غاليري أتاسي سورية وغاليري اجيال لبنان. يشارك في المعرض 21 فناناً عربياً معظمهم مقيمون في باريس، وكنا ننتظر ان يصدر في كتيب المعرض دراسة تلقي الأضواء على تأثيرات العاصمة الفرنسية على الإنتاج العربي طوال اكثر من نصف قرن. ذلك لم يتم مع الأسف. ولكن المعرض على رغم كل شيء يفرض نفسه ويطرح اسماء فنانين ترى بيروت اعمالهم عن كثب للمرة الأولى. والحدث في بيروت والمعرض ذو حلة انيقة، اتخذ مكانه الطبيعي في قاعات قصر اليونيسكو. واللوحات غالبيتها من الأحجام الكبيرة أو الجدرانيات تفتح مدارك العيون على ذلك القلق الذي يتوجس بشكل خاص فناني الشتات. ولعل الغربة بحد ذاتها مسألة نسبية. اكثرها ايلاماً هي الغربة داخل الوطن. لكن غالبية العرب الذين وجدوا حريتهم في باريس، راحوا الى جذورهم وتراثهم وذكرياتهم وظلوا على تماس مع الاتجاهات الفنية الجديدة بكل ما تقدمه من تقنيات ووسائل تعبيرية محدثة. ضمن هذا الإطار لا يمكن النظر الى التجريد الغنائي الذي يبتكره شفيق عبود لبنان - احد الممهدين الكبار للحداثة من جيل الخمسينات - إلا كونه متخطياً لطروحات مدرسة باريس وهو أحد ابنائها. فلوحته هي حدث بصري مدهش من كيمياء ألوان وأضواء، تصارع اي منظر محتمل لما يمكن ان يكون عليه العالم المرئي، لأنه متحول باستمرار الى عصارة لونية ذات مناخات سديمية وخطوط هي بقايا هياكل اشكال أو بصمات جلية لموضوعات متخفية خلف نسيج بهي من اللمسات. أما أمين الباشا لبنان الذي عاش هو الآخر الصراع الحاد بين الشكل واللاشكل في مدرسة باريس، فإن مساره الفني يمثل الصورة الانقلابية على التجريد. فقد راح الى فردوسه الذي رآه في الطبيعة واستنبطه من ذاكرته البيروتية. ففتح ابواب الجنائن وتنزه في احراش بيروت وجاب شواطئها ونقل ألوان امواجها، كما فرش مساحات لغناء العصافير ووجوه النساء وزخارف الأواني ومرايا الأحلام. وقلما اجتمعت القوة والمتانة التأليفية في عمل تجريدي متميز كما اجتمعتا في فن ايفيت اشقر لبنان رائدة غامرت منذ اوائل الستينات في البحث عن حقائق جديدة للعمل الفني. فما وجدت خيراً من عصب يدها ليبوح بأعماق ذاتها. كأن عمرها كله نذرته لتبقى تلك اللطخة الدونية محتفظة بكل اسرار وجودها. ينبغي ان نحصي ما فعلته السنين في تجاربها المتكررة لندرك قوة اندفاع تلك اللطخات في سياق تسلسلها. اكثر من جيل تراءى في المعرض وأكثر من مدرسة واتجاه في التجريد ما بين الحداثة وما بعدها. فالتأثيرات الفيزيائية البصرية، هي التي اعتمدها كمال بلاطة فلسطين في ابتكار علاقات هندسية متنوعة الى ما لا نهاية لطالما وُجدت في الفنون الإسلامية خط وزخرفة وأرابسك. تلك الفنون التي استلهمها مهدي مطشّر العراق فوجد ان الحساب الرياضي الذي يحكم العلاقات بين المفردات الهندسية المربع والمثلث وتقاطعهما يقوم على النظام الدقيق، والنظام هو دافع استمراري لتكرار الوحدات التي تتكيف مع المكان سواء كان العمل الفني معلقاً على الجدار أو متموضعاً على الأرض. أما لوحات فؤاد بيللامين المغرب فهي تستحضر من جدران فاس ونوافذها وقبابها، إشارات طيفية لمعالم تضمحل شيئاً فشيئاً داخل مساحات لونية تحكي الحب والغياب والحنين للأمكنة. تلك الشفافية الرقيقة والضبابية حيناً، نعثر على ما يماثلها في اعمال رفيق الكامل تونس الذي يملأ فضاءه التجريدي بالإشارات والرموز المبهمة في سطوع مدهش للضوء. وتعلن نازلي مدكور مصر انتماءها لتراثها الحضاري، حين تهب قماشتها ألوان الكثبان الرملية وأشكال الكتل الصخرية وأوتاد العمائر الإنسانية القديمة. ومثلما يتشكل الطمي، هكذا تتراكم طبقات الألوان، فتجتمع العناصر التي تحركها طاقة خفية تدفعها كلها للجريان في اتجاه واحد على المسطح التصويري الذي يغدو حقلاً أو يابسة أو ركاماً أثرياً قديماً ومغموراً. عالم الوجوه ما بين مناخات شاغال وأوتو ديكس وبوتيرو، تطل اعمال احمد الحجري تونس على طفولة ظريفة مستعادة بقوة المرح ومتعة الطيران والرقص، لدى الكبار ذوي القامات الضخمة والوجوه المنتفخة، يعرّفنا إليه الناقد علي اللواتي واصفاً فنه بأنه "الذكريات التي تستحثها الأحلام وتضخّمها... فهو يبني ذاك الديكور الذي يهرب إليه لأن أرض النعيم والوفرة والمرفأ الأخير الذي طالما حلم به ولم يصل إليه ذلك الإنسان الذي تغذيه الشمس". وتتخذ رؤوس صلاح المسعودي العراق وجودها من الانفعالات اللونية التي تتقاسم سطوحها وتزرع فيها ندوباً وتوقظ فيها شجوناً وذكريات. بينما تعبيرية جورج بهجوري مصر ما برحت تكتب على جدار غربتها تلاوين الوجوه الحمر داخل مساحات اسئلتها المقلقة، تلك الأسئلة يعطيها عبدالرحمن الشريف البحرين اعماقها الدرامية في معالجته التلوينية الصاخبة والهاذية. فهو يُقيم في "بورتريهاته" تشويهات من شأنها ان تمحو المعالم الظاهرة وتكشف الآلام النفسية الحادة لكينونة غائبة أو مغيّبة رغماً عنها. ومن الوجوه انشأ عادل السيوي مصر انصابه ورفعها كي تشبه مسلات محدثة، قوامها التعبيرات الغرافيكية، حيث لا تظهر ملامح الوجوه بل خيط ابتساماتها، في مناخ يتلبس نسيج غوايته وينسدل مثل قماش الدانتيلا الذي تكتنفه، وفي درجات الأسود والأبيض والألوان الذهبية تشد عمارة الوجوه مداميكها في الفراغ المملوء بالألغاز. اعتمد فيصل سمرة المملكة العربية السعودية في ثلاثيته شكلاً نصف دائري للحامل التصويري. جعله جزءاً من لعبة التشكيل التي تتوسل وفق نهج البوب - آرت، شعاراً تجارياً، سرعان ما يتحول في تعبيرات الخطوط والألوان، موضوعاً بسيطاً وجذاباً. فالفنان واسع الحيلة. غرامه للتقنيات والخامات المتنوعة يضع موهبته دوماً في حقل من الاختبارات. ولعل من الأعمال اللافتة التي اعطت المعرض دلالات انسانية للقضايا المعاصرة، اللوحتين اللتين علّقتا كبساطين لحسن موسى السودان هما ايقونتان معاصرتان على جدار الألفية الثالثة. في "الحلم الأميركي" يصور الرسام جثة القديس سيباستيان مسجاة على العلم الأميركي المخطط بالأحمر والأزرق، كأنه في مشرحة التاريخ، تأكله احلامه الأرضية فتغطي رأسه الفراشات والحشرات الملونة والسحليات والزلاحف، ذلك في تصويرية باهرة عذبة وساخرة. وفي عمله الثاني، رسم على طريقة آندي وارهول قناني الكوكا كولا، ولكن برسالة تهكمية مختلفة. فقد جعل للقناني اسناناً قاطعة تلتهم كل من يشربها وتقضمه. والدعوة مستمرة في الإعلان لتناولها. ويبدو ان هذا النموذج الصارخ للفن المناهض للعولمة التي تريد فيها الحضارة الأقوى ان تفرض نفسها على الحضارة الأضعف، قد فتح المجال اكثر لأن تكون الفرنكوفونية حواراً بين الثقافات والشعوب. وكما الرحالة الذين يجوبون ارجاء العالم، يبدو رشيد القريشي الجزائر مولعاً بإعراب الثقافات بصيغة الجمع. يجدول بعضاً من لغات الأرض قديمها وحديثها، يكتبها او ينثرها في الجهات الأربع من الورقة فتغدو نسيجاً منمنماً ما هو إلا خلفية تصلح لتشكيل غرافيكي. من اللطخات السود، عندها تظهر حروفية من نوع الطلاسم في فضاء شعري هجين. وإلى ذلك التعدد الثقافي ينتمي اسعد عرابي سورية كناقد ورسام، انجازاته في التعبيرية تمضي في تجردها الى لهيب صراخها. فالخطوط المعوجة والمهزوزة على طريقة راوول هي قوام لغته التصويرية التي تثور وتضع العلاقات الإنسانية المعاصرة عند حدودها الانفجارية ونزواتها المتناقضة التناقض الذي يحيل دوماً الى نوع من العلاقات البدائية، للرجل والمرأة والطير والكائنات التي تعيش على أرض من الصراع. ويخترق احمد معلا سورية البنى الأليفة للموضوعات، ويبتعد في تصوير ملحمته الإنسانية في مناخ لوني متدرج الأعماق متنوع الطبقات والظلال والإيهامات، في مكان عدمي ما هو إلا فضاء مشغول بالرموز والحكايات والأساطير. أما يوسف عبدلكي سورية فهو يضفي على طبيعته الميتة نبرة انسانية. فهو يبتعد هذه المرة عن العنف والاحتجاج اللذين تميز بهما، يقترب من روعة التأمل ومتعة القبض على الأشكال في الفراغ، بأدوات بسيطة هي اقلام فحمية على الورق. لكن التشخيص يغوص في الإيحاء الى درجة تتحول الطاولة مسرحاً للحدث والسمكة هي الضحية. وتظهر نماذج علي مقوس سورية كلها اشجاراً فردوسية لا تعرف خريفاً ولا أحزاناً، بل ربيعاً زاهراً. تتحدى اعمال منى السعودي الأردن صلابة بعض مواد الطبيعة رخام أردني اخضر وغرانيت التي تبتكر منها اشكالها التجريدية الصافية. في لغة اخترالية تعتمد على الأقواس والخطوط اللينة. فتظهر الأشجار واقفة أو الرؤوس منحنية في حوار حميم بين العين والقلب. أما اشكال شوقي شوكيني لبنان فهي تتفرد بأنها تكاوين معمارية مستطيلة يستخرج منها النحات أوتارها - الهندسية او يجمع ألواح الخشب الى بعضها ويدرس تقاطعات خطوطها وزواياها الخفية. تلك القوة المنبعثة من القلة في بساطته التأليفية يصفها الشاعر صلاح ستيتيه بأنها "موسيقى صامتة". من جهته بن ناصر السومي فلسطين توجهه الفني على ما يعثر عليه من اغراض مرمية يلتذ بجمعها في تراكيب عشوائية تربط بين الأشياء الطبيعية والأغراض المصنوعة بالي. هذا التجميع بتنوع سطوحه وخاماته وألوانه، يصب في الفكرة التي يسعى الى تحقيقها في عمل تجهيزي، يتداخل في الفردي مع الجماعي. ومن هذا التعاطف تنطلق الفكرة في تحقيق رسالتها البصرية. وهي غالباً ما تكون رسالة "اعتراضية".