عكست التطورات الأخيرة على ساحة القتال في الأراضي المحتلة نيات خفية لدى القيادة الإسرائيلية لجر المنطقة الى نزاع اقليمي من اجل تضليل المجتمع الدولي ودفعه للاعتقاد بأن ما يجرى اليوم ليس حرب تحرير فلسطينية. وكان الجنرال عوزي دايان، رئيس مجلس الدفاع الوطني الإسرائيلي، صرح حديثاً بأن النزاع الحالي قد يستمر سنوات ويؤدي الى نزاع اقليمي. وهناك تصريحات شبيهة أدلى بها مسؤولون وقادة عسكريون اسرائيليون. باختصار، ما تعكسه هذه التصريحات تصميم اسرائيلي على عدم الانسحاب بشكل تام من الأراضي الفلسطينية المحتلة وعدم القبول بالسلام الشامل والعادل. ومرد هذا الموقف المتصلب يعود الى عوامل متصلة بالإيديولوجية الصهيونية وموازين القوى والموقفين العربي والدولي عموماً والأميركي خصوصاً. فإسرائيل تواجه اليوم حرباً تحريرية تقترب من تلك التي خاضها حزب الله في جنوبلبنان، وانتهت باندحار القوات المحتلة وانسحابها منذ عام. وكان كثر من المحللين والمسؤولين الإسرائيليين، وفي طليعتهم آرييل شارون، حذروا من عواقب الانسحاب من جنوبلبنان وتأثيره على الفلسطينيين لأنها ستجمع على سلوك درب المقاومة لتحقيق استقلالهم. ويذكر ان محللين إسرائيليين توقعوا ان يشجع الانسحاب من جنوبلبنان القيادة الإسرائيلية على الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة في سياق اتفاق سلام، إلا أن القوى المتطرفة في إسرائيل، كانت لها الغلبة كالعادة. فتلك القوى تسير على خطى ايديولوجية رسمها مؤسس الدولة العبرية ديفيد بن غوريون والداعية الى اتباع سياسة "الردع" لمنع أي طرف عربي ان يستعمل لغة السلاح. كما ان الكثر من المتطرفين اليهود، الذين يشكلون الغالبية في الحكومة الحالية والكنيست، يرفضون فكرة إزالة المستوطنات التي تقع داخل "أرض الميعاد". يقول المؤرخ الإسرائيلي ستيوارت كوهين في سياق هذا الأمر: "ان اليهود المتشددين يعتبرون أمر الدفاع عن هذه المستوطنات في الضفة الغربية امراً مقدساً يصل الى مرتبة توازي الجهاد عند المسلمين". وأفصح شارون، وهو تلميذ بن غوريون المدلل، مراراً عن معارضته لانسحاب إسرائيل الى اكثر من نصف الضفة الغربية مع إبقاء بعض المستوطنات داخل غزة. وإلى الأسباب الإيديولوجية هناك دوافع عسكرية إذ تعتبر إسرائيل المستوطنات خطوط دفاع أمامية في عمق الأراضي الفلسطينية. بالنسبة الى إسرائيل فهي تواجه اليوم مرحلة مصيرية، فإمكان تحصيل الفلسطينيين استقلالهم عبر الكفاح المسلح سيشجع سكان الأراضي العربية المحتلة، مثل الجولان، على اعتماد الطريق ذاتها. كما أن انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية وقطاع غزة سيأتي بردود فعل سلبية على حركة المهاجرين اليهود الذين، وحسب الإحصاءات الأخيرة، بدأت تخف حماستهم بالتوجه الى الدولة العبرية. وأكثر ما تخشاه إسرائيل هو ان يقرر الفلسطينيون المقيمون في إسرائيل ما يسمى بعرب إسرائيل ان ينتفضوا نتيجة استمرار المعاملة السيئة لهم ويطالبوا بالانفصال والانضمام الى الدولة الفلسطينية. أما بالنسبة الى الفلسطينيين فهم دخلوا في نفق لا يمكن فيه التراجع عن قرار الاستقلال التام وإزاحة المستوطنات وحق عودة اللاجئين الى أراضيهم. إنها مرحلة صراع إرادات تحدد نتيجته مصير شعبين وهذا يجعل من الحرب الدائرة أقرب الى الحرب الشاملة" بحسب تعريف القائد العسكري الألماني اريد لودندورف أو المؤرخ العسكري البروسي كارل كلاوزوفيتس. الحرب الشاملة كلاوزوفيتس عرّف "الحرب الشاملة" بأنها صراع بين شعبين يتساوى فيه العسكر بالمدنيين ولا يفرق بينهما، وينتهي عندما يخضع أحد الطرفين الى إرادة الآخر. أما بالنسبة الى لودندورف فالحرب الشاملة تكون بين شعبين أو أمتين وتكون فيه الأهداف المدنية والعسكرية كافة مباحة وينتهي عندما تتم "إبادة" أحد الطرفين بشكل تام. ودخل كتاب لودندورف "الحرب الشاملة" الذي نشر عام 1935 في صلب عقيدة قوات ألمانيا النازية وإيديولوجيتها خلال الحرب العالمية الثانية. ومنذ اندلاع الصراع العربي - الإسرائيلي 1948 أخذ منحى "الحرب الشاملة" إلا أنه تراجع مع الوقت الى "الحرب المطلقة"، ومن ثم الى "الحرب المحدودة". وبحسب تعريف كلاوزوفيتس، فإن "الحرب المطلقة" تكون بين جيشين وتنتهي عند تدمير احد الطرفين المتنازعين لقوات الطرف الآخر، كما حدث في حربي 1956 و1967. أما "الحرب المحدودة" فهي من اجل تحقيق اهداف عسكرية محددة مثل احتلال أو استرجاع أراض محتلة، كما حدث عام 1973. ومنذ بداية عملية السلام عام 1991 تضاءل حجم الصراع العربي - الإسرائيلي وتحول الى معارك محدودة الأهداف وعلى جبهة واحدة: جنوبلبنان. لكن اليوم ومع تفجر الأوضاع داخل الأراضي المحتلة بسبب القضية الفلسطينية التي بدأ معها الصراع العربي - الإسرائيلي عادت الأزمة الى مستوى "الحرب الشاملة" التي قد تتسع دائرتها لتشمل دولاً عربية عدة، وهو أمر حذر منه امين عام الجامعة العربية عمر موسى خلال الاجتماع الأخير للجنة المتابعة العربية الذي عقد في القاهرة. وقال موسى إن على إسرائيل وواشنطن ان تدركا ان الأزمة داخل الأراضي المحتلة أحيت مجدداً الكلام عن الصراع العربي - الإسرائيلي. ويخشى هذه المرة ان تخاض الحرب بحسب تعريف لودندورف فتنتهي بإبادة طرف للآخر. وبما ان إسرائيل الأقوى عسكرياً وتملك أسلحة الدمار الشامل، فهي قد تخرج منتصرة. الموقف العربي الحالي لا يسمح بدخول مواجهة شاملة مع إسرائيل. فالدول العربية مشتتة، كما أنه لا يوجد تنسيق فعلي على المستوى العسكري بين قواتها ولا تعتمد سياسة التكامل الدفاعي في تسلحها واستراتيجية دفاعها. هذا الوضع أوجد هوة كبيرة بين الدول العربية، وزاد من فارق موازين القوى في المنطقة لصالح إسرائيل على رغم التفوق العربي في العدد والثروات الطبيعية والمساحة الجغرافية. كما ان هذا الوضع رسم صورة مختلفة للواقع فهو يبدو من الجانب العربي صراعاً بين بعض الدول العربية مع إسرائيل، في حين انه من الجانب الإسرائيلي صراع إسرائيلي مع الأمة العربية كلها. الخيار الفلسطيني والعربي الخيارات العربية والفلسطينية محدودة إلا أنها واضحة ولا خلاف عليها من الناحية المنطقية. بالنسبة الى الفلسطينيين، هم في حرب عصابات حيث استنزاف الخصم وتحطيم ارادته الداخلية تعتبر من الأهداف الرئيسية التي يجب تحقيقها مهما بلغت التضحيات. الأوراق الأساسية التي يملكونها اليوم ولم تكن موجودة بهذا الحجم في الأمس هي الإعلام والوحدة الداخلية والمقدرة على التحرك عسكرياً في عمق الأراضي الإسرائيلية. فإن كان هناك من نتيجة ايجابية لاتفاق أوسلو فهي إدخال قوات منظمة التحرير الفلسطينية الى الأراضي المحتلة. وبالتالي يجب متابعة الهجمات خلف خطوط المحتل الإسرائيلي وعلى المستوطنات والحفاظ على تماسك الصف الداخلي لمنع اي اختراقات امنية ومخابراتية إسرائيلية. وأهم من ذلك كله هو كسب الرأي العام الدولي عبر الإعلام، مع التركيز على حقيقة أساسية ان ما يجرى هو حرب تحرير بين شعب محتل وجيش غاز، هذا يتطلب حملة ديبلوماسية متواصلة من الجانبين الفلسطيني والعربي لتصحيح صورة الوضع الذي تعمل ماكينة اللوبي الصهيوني القوية على تشويهها في الغرب. ويذكر أن الخيارات العسكرية الإسرائيلية للتعامل مع الانتفاضة بدأت تنفد، والدليل على ذلك هو اللجوء الى الطائرات الحربية لقصف المدن الفلسطينية، فإن طائرات اف - 16 هي أحدث وأقوى ما تملكه الترسانة العسكرية الإسرائيلية اليوم، واستخدامها هو مؤشر على قرب إفلاس الحكومة الإسرائيلية. أما بالنسبة الى الخيارات العربية، فهي واحدة لا غير وهي توحيد المواقف والقوى، ولكن حتى يُحقق هذا الهدف الكبير يمكن الدول العربية الضغط على واشنطن عبر ربطها للوضع داخل الأراضي المحتلة بالمصالح الأميركية في المنطقة. كما يتطلب استمرار الدعم المالي والعسكري للانتفاضة مع إعادة إطلاق "الصندوق العربي المشترك" لدعم التسلح والمجهود الحربي في دول الطوق الذي أغلق من دون مبرر. باختصار ان ما تحتاجه الأمة العربية اليوم هو وضع استراتيجية عسكرية وسياسية موحدة لتكون حاضرة لحرب شاملة تقوم إسرائيل بجر المنطقة إليها. * كاتب في الشؤون الاستراتيجية.