نشرت صحيفة الغادريان البريطانية أول أمس تقريراً لها بعنوان "تجميد الاستيطان هو ثمن عقوبات صارمة على إيران"، وجاء نشر هذا التقرير بمناسبة اللقاء الذي جمع رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مع المبعوث الأمريكي جورج ميتشل بلندن قبل عدة أيام. وشملت المحادثات التي جرت بينهما الإعلان المرتقب للرئيس الأمريكي باراك اوباما عن بدء المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية في الشهر القادم، واستمرار أعمال البناء في المستوطنات، ومبادرات التطبيع من جانب الدول العربية. لكن المسألة الإيرانية وكيفية التعامل مع طموحاتها النووية بقيت هي أساس هذه المحادثات، لقد تحدث الاثنان عن مستوطنة "يتسهار" وأعينهم على مفاعل "بوشهر" الإيراني. وإذا أبعدنا العبارات البلاغية من خطاب باراك اوباما فستظهر فحواه الاستراتيجية بشكل جلي وواضح وهي بلورة ائتلاف إقليمي ضد إيران بقيادة الولاياتالمتحدة. إن العلاقة بين المستوطنات والنووي الإيراني ليست أمراً حتمياً. فإذا توقف البناء في مستوطنة ارئيل أو بسغوت أو معاليه لفونا، أو حتى تم تفكيك جميع المستوطنات، فهذا لن يؤدي بالضرورة الى وقف جهاز طرد مركزي واحد المخصصة لتخصيب اليورانيوم في نتانز الإيرانية. والعكس صحيح، لو تم إيقاف البرنامج النووي الإيراني، وسقط النظام الإسلامي هناك وقام مكانه نظام موال للغرب، ومعجب بالصهيونية، فلن ينتهي الصراع في إسرائيل. ولكن عدم وجود سبب واضح ومباشر للربط بين الأمرين فهذا لا يعني عدم وجود علاقة ما. العلاقة موجودة بسبب المصالح الاستراتيجية المتقاطعة لأعضاء هذا الائتلاف المفترض. فإيران تستغل الصراع العربي الإسرائيلي لدعم طموحها بالهيمنة في المنطقة. وفي المقابل يجب على أميركا أن تحصل على شيء من إسرائيل لصالح الفلسطينيين، وذلك حتى تحصل على موافقة وتأييد عربي لخطواتها ضد إيران. وبالنسبة لزعماء إسرائيل سيكون من السهل عليهم التنازل في الضفة الغربية، إذا ما استطاعوا إقناع الجمهور الإسرائيلي بان هذا التنازل سيبعد عنهم الخطر الوجودي الكامن بالقنبلة النووية الإيرانية. إن أكثر ما يقلق نتنياهو هو خطر إيران النووية على إسرائيل، والخشية من أن تحذو دول أخرى في المنطقة حذوها. وقد أوضح مخاوفه هذه في لقائه مع اوباما في شهر مايو الماضي، والذي خُصص جله لبحث التهديد الإيراني. فنتنياهو يفضل أن تعالج أميركا المسألة بالسماح لإسرائيل بتوجيه ضربة عسكرية، وعلى الفور طالبه أوباما بالثمن وهو تجميد البناء في المستوطنات. وعليه فيتوجب على نتنياهو "الحد من حق اليهود في السكن في أي مكان في إسرائيل"، حتى يتمكن اوباما من إحباط "حق إيران في الحصول على التقنية النووية". وكلا الأمرين سيحطمان أحلام اليمين في إسرائيل، والملالي في إيران. إن إدارة اوباما ترى في تخفيف حدة الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني مصلحة استراتيجية لأميركا التواقة الى تقوية موقفها وتأثيرها في الشرق الأوسط بعد سنوات من الأزمات والمشاكل المستمرة. كما أن الرعاية الأميركية لإسرائيل تستوجب الانصياع لواشنطن عندما توضح مصالحها. هكذا كان الحال دائماً، منذ أن أذعن بن غوريون لمطالب الرئيس الأميركي ترومان وأوقف غزو الجيش الإسرائيلي لسيناء بعيد قيام إسرائيل. ولم تنجح إسرائيل في الخروج بسلام من تحدي أميركا إلا عندما تكون واشنطن غير مبالية بعناد إسرائيل، وأكبر مثال على ذلك إقامة المفاعل النووي في ديمونا، واستمرار الاستيطان في الأراضي الفلسطينية طوال 42 عاماً مضت. وفي المسألة الإيرانية يجب على إسرائيل دفع الثمن لأميركا بسبب الفارق الكبير في ميزان القوى، فمساحة إيران أكبر من إسرائيل بثماني مرات، وسكانها ضعف سكان إسرائيل 9 مرات. وإذا ما قرر نتنياهو ضرب إيران فان القوة الأميركية ستكون حيوية لخلق توازن للقوى. كل نقاشات إسرائيل حول شن حرب على إيران ركزت على مسألة تكتيكية واحدة وهي هل يستطيع سلاح الجو تدمير المنشآت النووية الإيرانية بشكل كامل، أو على الأقل يلحق بها ضرراً كبيراً يجعلها عاجزة عن العمل لعدة سنوات. الكل يفترض أن إيران سترد بضرب تل أبيب وديمونا بصواريخ شهاب، وستدفع حزب الله الى إمطار إسرائيل بالصواريخ من جنوب لبنان، ولذلك يتساءلون هل الخطر الإيراني يستحق هذا الثمن الباهظ؟ هذه نظرة جزئية وقاصرة للمشكلة. فالخطط العسكرية تركز على القيام بالمهمة بسرعة وتشتيت آثارها على المدى البعيد. وقد كتبت المؤرخة بارباره توخمان أنه عندما افترض واضعو الخطط العسكرية الأوروبيون في كل الأطراف المتصارعة في أغسطس عام 1914 قبل الحرب العالمية الأولى أن الحرب ستُحسم خلال ثلاثة أو أربعة أشهر على الأكثر، لم يتوقعوا احتمال حدوث حرب استنزاف طويلة لم تحسمها سنوات من الحرب، وبالتأكيد لم يخطر ببالهم نشوب حرب عالمية واسعة وسقوط عشرات الملايين من البشر ضحية لها، وخلق خارطة جديدة لأوروبا. ولقد حصل شيء مماثل هنا ولو أنه على مستوى أقل بكثير. ففي صيف العام 2006 استعد الجيش الإسرائيلي لعملية رد سريعة في لبنان، ولم يتوقع حرباً استمرت خمسة أسابيع مع حزب الله. مثل هذا الخطر كامن لإسرائيل إذا قررت الخروج في حرب ضد إيران. كما أنه من السهل أن يشعر المرء بالغرور بعيد عملية جوية واحدة، لكن المشكلة تبدأ فور عودة الطائرات "بسلام" الى قواعدها. اليابان ضربت أميركا في بيرل هاربر، لكن ميزان القوى لم يكن في صالحها، فسرعان ما نهضت أميركا، وتزودت بالأسلحة التي حولت الامبراطورية اليابانية الى أنقاض. وبحسب ما كتبه ادوارد لوتفاك والذي يُعد واحداً من الخبراء الاستراتيجيين في العالم فانه كان من الأفضل لليابانيين لو أن طائراتهم ضلت طريقها وتوجهت لهاواي، أو أي مكان آخر. وقال لوتفاك في كتابه (استراتيجية الحرب والسلام) "إن القيمة الاستراتيجية الحقيقية للنجاح التكتيكي والعملياتي الكبير الذي سجله التاريخ باسم بيرل هاربر تحول الى خسارة فادحة". وفي العام 1967 دمرت إسرائيل سلاح الجو المصري في "ثلاث ساعات" وأدى القصف الناجح الى احتلال سيناء في غضون أربعة أيام. ولكن مصر اكبر بكثير من إسرائيل، ونجحت في استعادة أراضيها في حملة عسكرية محدودة الى جانب خطوة سياسية واسعة. ودفعت إسرائيل الثمن بآلاف القتلى والضرر الاقتصادي الهائل على محاولتها الفاشلة الاحتفاظ بالصحراء. إيران تضع أمام إسرائيل معضلة صعبة. إذا لم تفعل شيئا، ستضطر الى أن تعيش في ظل القنبلة النووية لاحمدي نجاد وربما لحكام آخرين في المنطقة. وإذا ما شنت حرباً ضد إيران، فإنها ستعرض نفسها لخطر المواجهة لسنوات، حتى لو انتصرت فيها بالنقاط فان ثمنها سيكون أكبر من أن يحتمل. الجيش الإيراني متخلف اليوم عن الجيش الإسرائيلي من حيث قوة النار ومدى العمل، ولكن دولة كبيرة يمكنها أن تصحو، وتعيد تنظيم نفسها وتجد نقطة الضعف عند العدو، بالضبط مثلما فعل السادات في حرب 1973. لتعويض تخلفها في موازين القوى الشاملة حيال إيران، تحتاج إسرائيل الى إسناد أميركي. وكذا الى دعم عسكري في توريد السلاح، ومعلومات استخبارية ومظلة دفاعية، وتحتاج أيضاً للدعم السياسي في مجلس الأمن وحيال العرب والأوروبيين، وكذا للدعم الاقتصادي. العقوبات الاقتصادية التي تخطط لها إدارة اوباما ضد الاقتصاد الإيراني قد لا توقف أجهزة الطرد المركزي فورا. فإيران يمكنها أن تبذل جهدا صغيرا فتصنع قنبلة أخرى أو اثنتين حتى لو صعبوا عليها استيراد البنزين والسولار وجمدوا الائتمان لبنوكها. ولكن إذا ما فرضوا العقوبات بجدية فإنها ستشل قدرة إيران على إدارة حرب طويلة ضد إسرائيل أو الولاياتالمتحدة، أو كلاهما. وربما حتى تردع الإيرانيين من التفكير بحرب استنزاف رغم أنه دوما سيوجد من يزودهم بالسلاح والبضائع بالسر (مثلما فعلت إسرائيل في الحرب الإيرانية - العراقية). وماذا ستعطي إسرائيل بالمقابل؟ حتى اليوم، ثمن الدعم الأميركي لإسرائيلي لم يتغير، وهو تنازلات للعرب في المسيرة السياسية. انسحاب من سيناء ومن القنيطرة في الجولان، مقابل القطار الجوي الأميركي في حرب 1973. الذهاب الى مؤتمر مدريد خلافا لمبادئ رئيس الوزراء اسحق شامير، مقابل صواريخ الباتريوت التي نصبت في اسرائيل في حرب الخليج. موافقة على خريطة الطريق ودولة فلسطينية، مقابل تصفية صدام حسين وإزالة خطر "الجبهة الشرقية" في 2003. الآن يقف نتنياهو أمام ذات الاقتراح الذي لا يمكنه أن يرفضه. فهو يريد إسناداً أميركياً حيال إيران، ويفهم بان عليه أن يدفع الثمن بالمستوطنات. السؤال هو فقط كم سيدفع، وأي قسم من الدفعة سيكون نقدا - بتجميد البناء الآن، وأي قسم سيكون بالتقسيط، عبر تنازلات مستقبلية كجزء من التسوية. والسؤال الذي ينبع من ذلك كيف سيساعد اوباما نتنياهو في أن يشرح المعادلة الاستراتيجية ليتسهار وبوشهر للجمهور الإسرائيلي ولرجال اليمين في الائتلاف. * صحيفة هآرتس