منعم الفقير، شاعر يكتب خلاصة التجربة الإنسانية، الفلسفة كامنة في عمق قصيدته، التي تعتمد على التكثيف، وكأنها طلقة يصوبها من مكمنه حاملة وصاياه الى البشر جميعاً. والشاعر العراقي منعم الفقير، الذي يقيم في الدانمارك منذ العام 1986، صدرت له عشر مجموعات شعرية احدثها "نادراً" 2000. وخلال زيارة الى القاهرة أخيراً ، التقت "الحياة" الفقير وسألته في البداية عما إذا كان شعراء المهجر في أوروبا يمثلون رمحاً شعرياً عربياً في الغرب، أو رمحاً مهجناً عائداً الى الشرق فقال: "إن الشعراء المهاجرين والمنفيين يخضعون لتأثيرات مختلفة بحكم اختلاف البلدان الأوروبية ذاتها، فمثلاً العربي الذي يكتب بالفرنسية يختلف تأثيره عن الذي يكتب بالدانماركية، وذلك ان هناك لغات محلية ولغات حية في أوروبا. التأثير الذي يمكن ان يحدثه كاتب أو شاعر في ثقافة البلد الذي يعيش فيه هو أن يحتفل بخصوصيته، سواء عبّر عن هذه الخصوصية بلغته العربية أو باللغة الأخرى. لكن من المؤسف ان الذين يكتبون بلغات غير العربية يسوقهم الإحساس باللغة الى الدخول في مناطق إبداعية يختص بها كتاب البلد الذي يقيمون فيه. فمثلاً أنا لا أكون مقبولاً إن لم أكن عربياً من حيث الموضوع الذي أتناوله، والمشترك الكوني بين البشر لا ينفي، بل على العكس يقوم على ما يجمعنا من هموم تجعل من هذا الكون مكاناً أفضل ليس للإقامة فقط، وإنما لتبادل النقد بشأن هذه الإقامة". ويضيف الفقير: "ليس في الدانمارك ما يسمى بقصيدة النثر والقصيدة الإيقاعية، باعتبار أن الشعر يمكن ان يكون متوافراً في الرواية، أو في اللوحة، أو في مكان أوسع، بمعنى أن كل حديقة هي مشروع قصيدة. ولعلّ محاولة تجزئة الشعر هي هروب من البطالة الشعورية حيال واقع لا يكف عن تمظهراته الشعرية". ويرى منعم الفقير "أنه على صعيد تلقي الشعر يختلف الجمهور الغربي عن نظيره العربي، فهو يحتاج الى معلومات ووقائع لتكوين وجهات النظر، وليس الى الإنشاء أو البلاغة والإطناب، وهذا ما يجعل الجهد مضاعفاً في الحصول على معلومات، وفي تدوين بعض الوقائع لتكون مؤثرة في تكوين وجهة النظر، وبالطبع نحن نتطلع الى أكثر من هذا... نتطلع الى مداومة التأثير عبر الترجمة، وبرمجة نقل الآداب والفنون العربية الى الدانماركية". "أنا في كل قصيدة أبدأ من جديد"، يقول الفقير. مؤكداً أنه لا توجد - في رأيه - أشكال سابقة على القصيدة، بل يوجد مضمون يتجلى عنه شكله". ويضيف: "أنا أعتقد أن اللغة وسيلة لإحداث تفاهم واسع الرؤية بأقل العبارات، ولا يمكن ان تجلس وتتحدث ساعة ببلاغة أو بإنشاء يغيّبان المعاني. فهذا سيتحول الى مجرد ثرثرة أو رطن. ولهذا أحاول أن أكتب الجملة المكثفة التي لا توجز معنى، بقدر ما تتوسع فيه، وأنا أعتقد أننا عندما ننتهي من قراءة الشعر نكون شرعنا بالأسئلة، ليس عن الشعر ذاته، وإنما عن وجودنا الذي لا جواب عليه". ويرى الفقير كذلك انه عندما يكون العمل متكاملاً بحسب وجهة نظر الناقد فإن اللغة المكتوب بها لا تكون هي موضوع البحث والنقد. فاللغة عنصر واحد من عناصر عدة تشكل منظومة العمل الأدبي، فلماذا يجب التوقف عند اللغة فقط، من دون التوقف عند عناصر أخرى، ربما تكون أكثر أهمية أو أقل؟ "اللغة هي وسيلة، وعندما تكون اللغة غاية فإن العمل الأدبي يخفق في التعبير عن مقولته وطرح سؤاله. فمثلاً شكسبير كتب بالإنكليزية للإنكليز بينما نحن نفهم شكسبير بالعربية، وهو حاضر في أذهاننا من دون لغته الإنكليزية". ولأن العالم ببلدانه المختلفة اصبح منفى واحداً للعرب - كما يقول الفقير - يصعب في الوقت الحاضر على الأقل تكوين آراء ووجهات نظر عن تجربة المنفى. "فالمنفى هو وجود سياسي موقت، والأدب الذي ينشأ فيه غالباً ما يصاب بالدعاوية. لكنّ هناك استثناءات بين الكتاب الذين كانوا سياسيين في مواقفهم، وفنانين في نصوصهم ويراعون عدم التداخل بين ما هو سياسي، وبين ما هو إبداعي. فمثلما للفن قوانينه الخاصة به، فللخطاب السياسي أسلوبه وأدواته. سوء الفهم يحدث عندما يكون المبدع سياسياً والسياسي متثاقفاً. ولا بد من الإقرار باختلاف الأجناس الأدبية، وضمان حرية اختلاف اجناسها يؤدي الى تنمية الذوق العام، مما يسهم لاحقاً في أن من يتذوق الأدب والجمال سيكون مقاوماً لكل محاولات حذف الحريات من العالم".