كان التوحيد أبرز حقيقة دعا اليها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا ما أثار استغراب المشركين واستنكارهم لذلك قالوا: "أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عُجاب" ص 5. وتذكر الروايات انه لما نزلت آية "وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم" البقرة، 168 تساءل المشركون: كيف يسع الناس إله واحد؟ فأنزل الله تعالى: "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها بث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والساحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون" البقرة، 164، وبيّن الله لهم في هذه الآية أن هذه الظواهر الكونية على اختلافها وتنوعها وكثرتها لا تناقض بينها ولا تصادم مما يدل على الله الواحد الأحد الذي يجمع بينها ويصرّفها ويسيّرها، وهذا يحتاج الى تدبر وتعقل، ويحتاج قوماً يستخدمون عقولهم استخداماً صحيحاً وسليماً. واستكملت المصادر الاسلامية عرض حقيقة التوحيد، ففصلت الحديث عن صفات الله وأسمائه وأفعاله، ومَن الذين يحبهم الله ومَن الذين يبغضهم الله، وكيف يمكن للعبد ان يستجلب رضوان الله تعالى، وكيف يمكن ان يتجنب غضبه سبحانه وتعالى. كما وضّحت في شكل جليّ ان العلاقة بين الانسان وبين الله هي علاقة عبودية وليست شيئاً غير ذلك. قال تعالى: "يا أيها الناس أنتم الفقراء الى الله والله هو الغني الحميد. إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد. وما ذلك على الله بعزيز" فاطر، 15-17، واذا أراد الانسان ان يحوز على رضا الله فعليه ان يعبّد ذاته الى الله، قال تعالى: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا اياه وبالوالدين إحساناً" الإسراء، 23، وقال أيضاً: "ألر. كتاب أحكمت آياته ثم فصّلت من لدن حكيم خبير. ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير" هود، 1-2، وقال تعالى أيضاً: "قل انما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب" الرعد، 36. وحقق الرسول صلى الله عليه وسلم هذه العبودية خير تحقيق، لذلك نعته القرآن الكريم في رحلة الإسراء والمعراج ب"عبده" فقال تعالى: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير" الإسراء،1، وعندما يعبّد الانسان ذاته لله تعالى يكون منسجماً مع الكون المحيط به، إذ تعبد المخلوقات الموجودة فيه الله، وعبر القرآن الكريم عن هذه العبادة بالتسبيح فقال تعالى: "تسبّح له السماوات السبعُ والأرض ومن فيهن، وإنْ من شيء إلا يسبّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم" الإسراء، 44، وعبّر القرآن الكريم عن هذه العبادة بالسجود أيضاً فقال تعالى: "ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال" الرعد، 15. وعبّر القرآن الكريم عن ذلك باستسلام المخلوقات طوعاً وكرهاً فقال تعالى: "أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً" آل عمران، 83، وبيّن القرآن الكريم خضوع السماء والأرض لله وطاعتهما له فقال تعالى: "ثم استوى الى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض إئتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين" فصّلت، 11، وضّح القرآن الكريم خضوع المخلوقات غير العاقلة لله تعالى فقال تعالى: "ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون" النحل، 49. ووضح القرآن الكريم أن الدعوة الى التوحيد كانت رسالة الأنبياء السابقين الى أممهم فقال تعالى: "ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت" النحل، 36. ألغى الإسلام الواسطة بين الله وبين عباده لذلك دعا القرآن الكريم العباد الى دعاء الله مباشرة من دون واسطة، قال تعالى: "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون" البقرة 186. كما أمر الله العباد بدعائه سبحانه وتعالى فقال: "وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين" غافر، 60. لذلك نعى القرآن الكريم على المشركين توسطيهم الأصنام الى الله مع ادعائهم عدم عبادتهم لها فقال: "والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا الى الله زلفى" الزمر،3. ورفض وجود طبقة لرجال الدين، ويكون بذلك منع أية جهة أو شخص من ممارسة دور بين العبد وربه. ولما كان التوحيد هو الأصل الأبرز الذي دعا اليه الاسلام كان الشرك هو الذنب الأبرز الذي حذّر منه فقال تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشا" النساء، 116. وبيّن عدم استقامة دعوى الشرك، ومثّل على ذلك باستحالة انتظام الكون في حال وجود اكثر من إله فقال تعالى: "لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا" الأنبياء،22، وقال أيضاً: "ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون" المؤمنون 91. لم يكتف الاسلام بالدعوة الى التوحيد ونبذ الشرك، بل دعم ذلك بعرض التجارب التاريخية للأمم السابقة، فبيّن أبرز الأخطاء التي وقعت فيها، وكانت المسيحية أقربها عهداً ومكاناً الى المسلمين، لذلك نعى القرآن الكريم على النصارى غلوّهم في المسيح عليه السلام وتأليههم إياه فقال تعالى: "لقد كفر الذين قالوا ان الله ثالثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسنّ الذين كفروا منهم عذاب أليم" المائدة، 73، وقال أيضاً: "لقد كفر الذين قالوا ان الله هو المسيح ابن مريم" المائدة،17. وبيّن ان تأليه المسيح ناتج عن اتباع ضلالات قديمة فقال تعالى: "قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل" المائدة،77 ثم لفت القرآن الكريم الأنظار الى تناول عيسى وأمه الطعام فقال تعالى: "ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صدّيقة كانا يأكلان الطعام" المائدة، 75. وذكرت آيات ان المسيح وصف نفسه بعبد الله سواء عند ولادته أو في كبره، قال تعالى: "قال إني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبياً" مريم، 30، وسينفي يوم القيامة أن يكون طلب من الناس ان يتخذاه وأمه الهين من دون الله، قال تعالى: "وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي ان أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب" المائدة، 116. وقد أجرى القرآن الكريم ذلك النقد الواسع من مختلف الجوانب لمقولة حلول الله في المسيح لكي يحصّن الأمة الاسلامية من أن تقع في الخطأ نفسه الذي وقعت فيه الأمم السابقة. والسؤال الذي يرد الآن: هل استطاعت الأمة الاسلامية ان تتجنب المنزلقين السابقين اللذين وقعت فيهما الأمم السابقة وهما: عدم قبول فكرة حلول الله في العبد أو الكون، وعدم توسيط احد بين العبد وبين الله؟ يجد الدارس لمسيرة الأمة الاسلامية انتشار التصوف في شكل كبير في مختلف مناطقها، ويجد ترويج التصوف لهاتين الفكرتين، فقد استهدف التصوف من المجاهدات الكثيرة التي يؤديها المتصوف أن تجعل العبد يتحد بالله أو ان تجعل الله يحل بالعبد أو ان يكتشف المتصوف وحدة الوجود. وقام مشايخ التصوف بدور الواسطة بين العبد وربه إذ ألزموا المتصوف باتباع الشيخ. ومن لا شيخ له فشيخه الشيطان. وألزموه بالاستسلام له كما يكون الميت بين يدي المغسل. وعظموا مشايخهم واعتقدوا ان لهم تأثيراً في الأسباب. وأقاموا عليهم الأضرحة والمشاهد. واتخذوهم واسطة الى دعاء الله. فما السبب الذي جعل هذه الأمور تروج في الأمة الاسلامية مع كل الحقائق التي أبرزها الدين الاسلامي حول مبادئ العلاقة بين المسلم والله وانها علاقة عبودية، وحول عدم قبول أية واسطة بين العبد وبين الله؟ السبب في ذلك أمور عدة: اتباع المتصوف أسلوب الإسرار، واخفاء الجوانب المتعلقة بحلول الله في العبد، وعدم الاعلان عنها في عرضه لآرائه وأهدافه وحقيقة وجهات نظره. وأحلّ المتصوف دم من أباح هذه الأسرار. وهناك الجفاف الذي عرفته كتب العقيدة المتأخرة في قواعد العقيدة الاسلامية من مثل شرح العقائد النسفية للتفتازاني، وشرح جوهرة التوحيد للباجوري، وشرح العقائد العضدية الخ... فركزت تلك الكتب على الجوانب العقلية في العقيدة وعلى الرد على الفرق الأخرى من دون ابراز الجانب المعنوي والنفسي في العقيدة والذي يتحدث عن حب الله والخوف منه وتعظيمه الخ. وهناك إغفال كتب العقائد المتأخرة الحديث عن الشرك وصوره وأنواعه، فلو تصفحنا اي كتاب منها لا نجد فيها شيئاً من ذلك مع ان القرآن عندما دعا الى التوحيد حذّر من الشرك بالمقدار نفسه. وهناك اقتصار كتب الفقه على صورة العبادة وإطارها من ركوع وسجود وقيام وقراءة، من دون الحديث عن الجوانب النفسية والمعنوية فيها من مثل الاطمئنان والخشوع والتعظيم والرجاء. * كاتب فلسطيني.