القبض على باكستاني يروج الشبو بالشرقية    37 بلدة جنوبية مسحها الجيش الإسرائيلي وأكثر من 40 ألف وحدة سكنية دمرت    أطفال اليمن يتألقون بتراثهم الأصيل في حديقة السويدي    الولايات المتحدة تختار الرئيس ال47    مع سباق البيت الأبيض.. من يهيمن على الكونغرس الأمريكي؟    سيناريو التعادل .. ماذا لو حصل كل مرشح على 269 صوتاً؟    "الصناعة والثروة المعدنية" تعلن فوز 11 شركة محلية وعالمية برخص الكشف في 6 مواقع تعدينية    الطائرة الإغاثية السعودية ال19 تصل إلى لبنان    مركز مشاريع البنية التحتية بالرياض يشارك في المنتدى الحضري العالمي الثاني عشر بالقاهرة    توقعات بهطول الأمطار الرعدية على 5 مناطق    اليوم الحاسم.. المخاوف تهيمن على الاقتراعات الأمريكية    المملكة تثري الثقافة العربية بانطلاق أعمال مبادرتها "الأسبوع العربي في اليونسكو" في باريس    أرباح «أرامكو» تتجاوز التوقعات رغم تراجعها إلى 27.56 مليار دولار    إشكالية نقد الصحوة    الاتفاق يواجه القادسية الكويتي في دوري أبطال الخليج للأندية    تركيا: نستهدف رفع حجم التجارة مع السعودية إلى 30 مليار دولار    المملكة تستحوذ على المركز الأول عالمياً في تصدير وإنتاج التمور    «التعليم»: 5 حالات تتيح للطلاب التغيب عن أداء الاختبارات    الأسمري ل«عكاظ»: 720 مصلحاً ومصلحة أصدروا 372 ألف وثيقة    الاختبارات.. ضوابط وتسهيلات    النصر لا يخشى «العين»    الهلال يمزق شباك الاستقلال الإيراني بثلاثية في نخبة آسيا    المملكة ومولدوفا تعززان التعاون الثنائي    «جاهز للعرض» يستقطب فناني الشرقية    12 تخصصاً عصبياً يناقشه نخبة من العلماء والمتخصصين بالخبر.. الخميس    المحميات وأهمية الهوية السياحية المتفردة لكل محمية    سلوكيات خاطئة في السينما    إعادة نشر !    «DNA» آخر في الأهلي    العلاج في الخارج.. حاجة أم عادة؟    زرًعِية الشبحة القمح العضوي    تنوع تراثي    مسلسل حفريات الشوارع    للتميُّز..عنوان    لماذا رسوم المدارس العالمية تفوق المدارس المحلية؟    منظومة رقمية متطورة للقدية    الأمير عبدالعزيز بن سعود يتابع سير العمل في قيادة القوات الخاصة للأمن والحماية    غيبوبة توقف ذاكرة ستيني عند عام 1980    " المعاناة التي تنتظر الهلال"    في الجولة الرابعة من دوري أبطال أوروبا.. قمة بين ريال مدريد وميلان.. وألونسو يعود إلى ليفربول    1800 شهيد فلسطيني في العملية البرية الإسرائيلية بغزة    نحتاج هيئة لمكافحة الفوضى    في شهر ديسمبر المقبل.. مهرجان شتاء طنطورة يعود للعلا    كلمات تُعيد الروح    قصص من العُمرة    ربط الرحلات بالذكاء الاصطناعي في «خرائط جوجل»    الأمير تركي بن طلال يستقبل أمير منطقة الجوف    الاستقلالية المطلقة    تشخيص حالات نقص افراز الغدة الدرقيه خلال الحمل    النظام الغذائي المحاكي للصيام يحسن صحة الكلى    أمير تبوك يستقبل قنصل بنغلاديش    «تطوير المدينة» تستعرض التنمية المستدامة في القاهرة    سعود بن بندر يهنئ مدير فرع التجارة بالشرقية    وزير الدفاع يستقبل نظيره العراقي ويوقّعان مذكرة تفاهم للتعاون العسكري    السعودية تؤكد دعمها لجهود التنوع الأحيائي وتدعو لمؤتمر مكافحة التصحر بالرياض    قائد القوات المشتركة يستقبل الشيخ السديس        مقال ذو نوافذ مُطِلَّة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة الإسراء والمعراج ... في ضوء بينات الحق والعلم
نشر في الحياة يوم 18 - 11 - 1999

} أثارت واقعة الإسراء والمعراج مخيلة العلماء والفقهاء قديماً وتعرضت لشتى التفسيرات والشروح وهي ما تزال تحرك المخيلة الى أيامنا.
شكلت رحلة الإسراء والمعراج مادة خصبة للنقاش والتأويل وفتحت الباب للكثير من القراءات التي اتفقت على الواقعة واختلفت على تصورها وما تعنيه من رموز ودلالات معنوية ومادية.
عموماً، ساهمت الواقعة في إثراء القوة الروحية للمسلمين واطلاق المخيلة من قوالب العقل ودفع الذاكرة الى حدها الأقصى في تصور الأشياء وتمثلها على أرض الواقع وما بعد الواقع.
وبين الاسطوري والحقيقي نسج المعري "رسالة الغفران" في مطلع القرن الخامس الهجري فأفرغ فيها قاموسه اللغوي مستخدماً الكلمات وحروفها ورموزها ومعانيها مستبدلاً مفرداتها، عاكساً أولها الى آخرها وآخرها الى أولها للبرهان على مقدرته اللغوية وغناه الذهني في تصور الأشياء، وهو الضرير الذي يعيش في عزلة عن الناس والواقع. فجاءت "رسالة الغفران" لترسم وقائع الرحلة وفق تصورات الانسان وتخيلاته وأوصافه المحسوسة.
واستفاد الصوفيون على مختلف تياراتهم من مقاصد السورة ودلالاتها الروحية الكبرى، فاستخدموا الرموز والمعاني والمفردات كمفاتيح كلمات تحتمل تفسيرات شتى لفكرة التحول والاتحاد ومعارج الروح وتدرجها من الأدنى الى الأعلى وصولاً الى "سدرة المنتهى". وليس سراً القول ان دانتي وضع "الكوميديا الالهية" متأثراً برسالة الغفران للمعري وبعد اطلاعه على حكاية الإسراء والمعراج بعد ان تم ترجمتها آنذاك الى ثلاث لغات هي اللاتينية والاسبانية والفرنسية. الا ان دانتي استخدم البناء الدرامي لقصة المعراج لشن حملة شعواء على المسلمين والعرب كما فعل غيره من فلاسفة أوروبا حين استفادوا من مناهج الفلسفة الإسلامية وقاموا بعدها بشتم "العقل السامي" الشرقي المسلم بذريعة انه غير مبدع.
احتفل العالم الاسلامي في 27 رجب الماضي بذكرى الإسراء والمعراج لما شكلته في لحظتها نقطة تحول معنوية دفعت الدعوة الى مزيد من القوة في لحظة كانت النواة الأولى في مكة المكرمة تتعرض للحصار والتضييق.
الى الآن ما تزال الإسراء والمعراج تمثل قوة دفع معنوية تتحدى العقل وتثير المخيلة وتعيد اطلاق السؤال بقصد اعادة التفكير التفسير والتأويل بقصة فاقت كل المعجزات.
قال تعالى: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنُريه من آياتنا انه هو السميع العليم" سورة الإسراء/1.
"والنجم اذا هوى، ما ضلّ صاحبكم وما غوى، وما ينطقُ عن الهوى، إنْ هوَ إلا وحيٌ يُوحى، عَلّمهُ شديدُ القوى، ذو مِرة فاستوى، وهو بالأفق الأعلى، ثم دنا فتدلى، فكان قابَ قوسين أو أدنى، فأوحى الى عَبدِه ما أوحى، ما كذب الفؤادُ ما رأى، أفتُمارونه على ما يرى، ولقد رآهُ نزلةً أُخرى، عند سِدرَةِ المُنتهى، عندها جنّةُ المأوى، اذ يغشى السدرة ما يغشى، ما زاغَ البصرُ وما طغى، لقد رأى من آياتِ ربِّه الكبرى" سورة النجم/ 1-18.
الإسراء والسرى السير بالليل، يقال: سرى وأسرى وأسرى اي سار ليلاً، وسرى وأسرى به اي سار به ليلاً. وهو ما يفيد بأن هذا الإسراء تم للرسول الكريم بالليل، حيث "ليلاً" في الآية ظرف لأسرى، وجيء به هنا للتوكيد. ويطلق العلماء كلمة الإسراء على رحلة النبي صلى الله عليه وسلّم من المسجد الحرام في مكة المكرمة الى المسجد الأقصى في بيت المقدس من ارض فلسطين. والقصى: البعد، وقد سمي المسجد الأقصى لكونه أبعد مسجد بالنسبة الى مكان النبي صلى الله عليه وسلّم ومن معه من المخاطبين حين نزول هذه الآية المباركة وهو مكة التي فيها المسجد الحرام. والمعراج من عرج ومعرج وجمعها معارج وهي المصاعد وهي الدرجات وهي مقامات الملكوت. وعَرَج، بفتح العين والراء: صعد. كقوله تعالى: "تعرج الملائكة والروح اليه".
ويطلق العلماء كلمة المعراج على رحلة الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلّم من بيت المقدس الى السماوات العُلى، لأن كلمة المعراج تومئ الى الارتقاء والصعود.
وليلة الإسراء والمعراج: هي الليلة التي أسرى بها الله بعبده الحبيب المصطفى من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى، ومن ثم عرج به الى السماوات العُلى ليُريه من آياته الكبرى. فكان الرواح والمجيء في ليلة واحدة مباركة قبل ان يطلع الفجر. وهي من معجزات الله العظيمة التي اختصها لنبيه المصطفى الحبيب صلوات الله وسلامه عليه، لاثبات عظمة ومكانة الرسالة الجليلة التي بعث بها نبيه رحمة وبركة وبشيراً ونذيراً ونور هداية للعالمين، فاصبحت هذه الليلة... ليلة مباركة طيبة يحتفي بها المسلمون قاطبة ومن أراد ان يستنير بها في مشارق الأرض ومغاربها.
وطبيعي ان النبي لا يدعي ابداً ان المعجزة من نفسه، بل يقول انها من الله تعالى: "وقالوا لولا أُنزل عليه آيات من ربّه قل انما الآيات عند الله وانما انا نذير مبين او لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون"، و"وما كان لرسول ان يأتى بآية إلا بإذن الله فاذا جاء أمر الله قُضِي بالحق وخسر هنالك المبطلون".
لهذا ابتدأ قوله تعالى بكلمة "سبحان" وهي اسم مصدر للتسبيح بمعنى التتريه، ويستعمل مضافاً وهو مفعول مطلق قائم
مقام فعله، فتقدير "سبحان الله" سبحت الله تسبيحاً اي نزهته عن كل ما لا يليق بساحة قدسه، وكثيراً ما يستعمل للتعجب. فلهذا. يمجد الله تعالى نفسه، ويعظم شأنه، لقدرته على ما لا يقدر عليه احد سواه، فلا إله غيره ولا رب سواه.
والمعنى: ليتره تتريهاً من أسرى بعظمته وكبريائه وبالغ قدرته وسلطانه بعبده الحبيب المصطفى في جوف ليلة واحدة، من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى ومن ثم الى السموات العُلى ليريه بعظمته وكبريائه آياته الكبرى، وانما فعل ذلك لأنه سميع بصير علم بما سمع من مقاله ورأى من حاله انه خليق ان يكرم هذه التكرمة المباركة.
ان اصل الاسراء الذي نصّ عليه القرآن، تواترت عليه الاخبار الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم ورواها جم غفير من الصحابة، كأنس بن مالك، وابو سعيد الخدري، وعمر بن الخطاب، وابن مسعود، وأبي ذر، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس، وشداد بن أوس، وأبو هريرة، وأُبي بن كعب، وجابر بن عبدالله، وحذيفة، وابو الدرداء، وابو ايوب الانصاري، وابي أمامة، وسمرة بن جندب، وصهيب الرومي، وعروة، وأم هانئ، وأم سلمة، وعائشة، واسماء بنت أبي بكر وغيرهم كلهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون وأعرض عنه الزنادقة والملحدون "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون".
الإسراء بالبدن والروح يقظة لا مناماً
أجمع العلماء على انه أسري بالنبي المصطفى ببدنه وروحه يقظة لا مناماً، وقد استدلوا على ذلك بجملة من الأدلة التي منها:
- ان الإسراء بالبدن، بما دلّ عليه قوله تعالى "أسرى بعبده"، ولم يقل بروح عبده، وكلمة العبد تُطلق على مجموع الروح والبدن، كقوله تعالى: "أرأيت الذي ينهي، عبداً اذا صلى" سورة العلق/ 9-10.
- اشتهر عن الرسول صلى الله عليه وسلّم انه قال: أسري بي على دابة يُقال لها البراق. والحمل على البراق يكون للبدن لا للروح لانها لا تحتاج في حركتها الى مركب تركب عليه ولا الى غيرها.
- الدليل الآخر قوله تعالى: "سبحان الذي أسرى بعبده"، فالتسبيح انما يكون عند الامور العظام، فلو كان مناماً لم يكن فيه كبير شيء ولم يكن مستعظماً، ولما بادر المشركون الى تكذيبه، فلقد جاءت الروايات ان أم هانئ قالت للرسول المصطفى صلى الله عليه وسلّم: لا تخبر قومك بذلك، فأخشى ان يكذّبوك. ولكنه لم يسمع لتخوّف ام هانئ، ثقة منه بالحق الذي جاء به، وصارح قومه بما رأى، فدهشوا وانكروا، ولو كان مناماً لما دهشوا وانكروا.
- والدليل الآخر على ان الإسراء والمعراج تم بالجسد ما رواه عليه الصلاة والسلام لقومه بعد الانكسار الشديد الذي اظهرته قريش عندما قصّ واقعة الرحلة عليهم، من انه مرّ بقافلة لقريش في طريقه، وقد ضلّ بعير لهم فدلّهم الرسول المصطفى عليه. وشرب ماء من آنية لهم وأهرق ما بقي في الإناء، وقال لهم: ان آية ما يقول ان العير تصل في اليوم التالي يقدمها جمل أورق عليه غرارتان احداهما سوداء والاخرى برقاء. فلما وصلت القافلة سألها القوم، فكان كل ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام صدقاً وحقّاً. وبديهي انه لا يستطيع ان يتكلم مع القافلة ويخبرهم بالبعير الضال الا اذا كان بجسمه، كما يدل على ذلك شربه من الإناء.
وسواء أكان الإسراء والمعراج بالروح فقط او بالروح والجسد او ان الاسراء كان بالجسد والمعراج بالروح او بالعكس، فان ما تم يؤكد ان ذلك معجزة تدلّ على نبوّة الحبيب المصطفى محمد وصدق رسالته. اذ لا يمكن لغيره الا من يشاء الله فما يكون هو ارادته وما يقع فمشيئته.
من اهداف الرحلة وغاياتها
الحقيقة نستطيع ان نستخلص الكثير من عظائم الحقائق والبينات، والهداية والرحمة، والاهداف والغايات، من مضمون هذه الرحلة المباركة التي اختصها الله بنبيه، ونتعرض هنا لشيء بسيط ويسير جداً منها:
1 - تأتي اهمية رحلة الإسراء والمعراج من حيث ان الله سبحانه وتعالى عندما اصطفى من بين خلقه الصادق الامين محمد بن عبدالله، وأعدّه ليكون خير البشر، وأراد له جلّ شأنه ليكون خاتم انبيائه ورسله، وليكون رسوله الى الناس جميعاً بأكمل رسالة واتم دعوة وآخر الدين. وكذلك تأتي اهمية الرحلة بأنها كانت في مقتبل دعوة النبي، لذلك كان من اللازم لثقل هذه الامانة والرسالة الخاتمة ان يعرف النبي بقوله تعالى: "لنريك من آياتنا الكبرى" اي عن طريق "المشاهدة" عظمة القوة التي تسانده، وضخامة السماء التي يدعو اليها. وذلك لتقوية نفسية النبي صلى الله عليه وسلّم بحسن اليقين الذي لا تشوبه شائبة والتوكل على الله وحده لا شريك له، ولتثبيت قلبه فيما ينتظره من هجرة وتنكيل وما سوف يبتلى به من اناس أشد توحشاً وعناداً وما سوف يلاقيه من المكابرين والمتعنتين، وما سوف يتعرض له لأبشع ارهاب فكري، واجتماعي، عرفه تاريخ الرسالات.
اي ارادها عزّ وجلّ ان تكون في حاملها أثبت من الرواسي، وفي فهمه أعمق من اللجج، وفي عزمه اشد من المحن، وفي صبره اقوى من الشدائد. أليست هي اكمل رسالة واتم دعوة وآخر الدين. وهل هناك خير من محمد صلى الله عليه وسلّم من ينهض بها، الذي أعدّه الله اعداداً خاصاً ليكون خير البشر منذ الصغر ونشأته، فقد عصمه الله من كل سوء وأبعده عن الزلل، ولم يله كما كان يفعل الشباب، حتى شاع بين قومه صدقه وامانته في القول والعمل والخلق، واشتهر فيما بينهم عدله واستقامته، وتحققت عندهم عفته وصيانته، وانتشرت في مكة وما حولها طهارته من النقص ونزاهته، فعظم عند قومه قدره، وظهر بينهم مجده وفخره، حتى طفقوا يسمونه الصادق الامين لما ثبت لديه من الصدق المستبين، وتوطدت له فيهم من الحلم الرزين، فكان كما قال عنه سبحانه وتعالى: "وإنك لعلى خلق عظيم".
2 - من خلال ما تقدم في النقطة الاولى أراد الله ايضاً لنبيه من خلال هذه الرحلة، ان يرسخ في نبيه الايمان وخلوص توحيده، كالآية التي طمأن بها قلب خليله ابراهيم، بأنه الإله الحق المستحق للعبادة دون كل ما سواه، لكنه خالق العباد والمحسن اليهم والقائم بأرزاقهم والعالم بسرّهم وعلانيتهم، اي افراد الله سبحانه وتعالى بجميع ما تعبّد العباد به، من دعاء وخوف ورجاء وصلاة وصوم وذبح ونذر وغير ذلك من انواع العبادة، على وجه الخضوع له والرغبة والرهبة مع كمال الحب له سبحانه والذلّ لعظمته وقدرته. فكان يدعو الى ربه بما أوحى له ما أوحى: "ذلك بأن الله هو الحق وان ما يدعون من دونه هو الباطل"، "فاعبدالله مخلصاً له الدين. ألا الله الدين الخالص"، "فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون".
3 - ترسيخ الايمان بالغيب واليقين به. اراد الله لنبيه المصطفى ان يرجع من رحلته الخالدة، وهو اشد معرفة ويقيناً بالغيب، لأن الرحلة لم تكن مجرد رحلة في عالم الدنيا وعمق فضائها. بل اجتاز فيها النبي صلى الله عليه وسلّم مرحلة الدنيا ودخل في عالم الآخرة. فرؤياه لجلال ربه عند سدرة المنتهى، ولقاؤه بالملائكة، والانبياء ودخوله الجنة، ورؤيته للجحيم كلها شواهد على انها لم تكن رحلة في عالم الدنيا وعمق الكون فحسب، لذلك صدح بقوله تعالى بما أوحى له: "انما تُنذر من أتّبعَ الذكرى وخَشي الرحمن بالغيب فبشّره بمغفرةٍِ وأجرٍ كريم". وكان يعلم المصطفى اتباعه والناس: "الايمان ان تؤمن بالله وملائكته وبلقائه وبرسله وتؤمن بالبعث".
4 - رحلة الإسراء والمعراج تدلّ على عالمية الرسالة التي بعث بها الرسول المصطفى. حيث ان النبي عندما اعلن عن "الرحلة الخالدة" كان الاسلام لا يزال يحبو على جبال مكة، ووهادها، ولم يكن بعد قد امتد خارج مدينة مكة المكرمة. واول من التقاه في رحلته أبوه آدم عليه السلام ابو البشر والناس اجمعين. وهو ما يدلّ على عالمية الرسالة التي بعث بها الرسول المصطفى "وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً". وهذه الحقيقة تضاف فوق الحقائق الكثيرة، التي تفضح ادعاءات وافتراءات العدوانيين والمستشرقين ممن يريدون ان يطفئوا نور الله بأفواههم، ويقوضوا بها عالمية الرسالة الاسلامية التي بعث الرسول بها رحمة وهداية وبشيراً ونذيراً للعالمين والناس كافة، حيث يدّعون بأن دعوة محمد في بداياتها في مكة كانت محلية وخاصة بقومه فقط، وانه لما خرج الى يثرب اصبح ينادي بعالميتها لكل الناس.
وكذلك في لقائه بأبيه ابو الانبياء ابراهيم الخليل ما يؤيد ذلك، كما جاءت رحلته الى القدس منبت رسالات الله تعالى، التي نادى بها من سبقوه من انبياء الله لاقوامهم كموسى والمسيح ويحيى وغيرهم، ومن ثم لقاؤه بهم حين عرج به، وترحيبهم بحبيبهم خاتم النبيين والمرسلين المصطفى محمد الصادق الامين عليهم افضل الصلاة والسلام ايضاً ما يؤيد ذلك. ومن ثم دعاؤهم له بالخير حينما يودعهم، كأن من وصاياهم لخاتم النبيين والمرسلين ان يكشف حقائقهم وحقائق رسالاتهم الناصعة التي بعثوا بها كما هي، ويترههم ويبعد عنهم كل ما أُلصق بهم وبسيرهم وبرسالاتهم من مغالط وافتراءات، وتحريف وتزييف، وفساد وفسق، وزنا وعهر، وهو ما يثبت بأن خاتمة الرسالات ما هي الا رسالة عالمية جاءت لتقوم بهذه المهمة الشريفة والعظيمة والهادية، وان الرحلة والتقاء الرسول بأنبياء الله وترحيبهم به، ومن ثم دعاؤهم له فانها تعني رسالاتهم او اديانهم الناصعة التي بعثوا ونادوا بها في سني حياتهم ومن قبل ان تتلوث بالمغالط والاباطيل من بعدهم، قد توحدت كما كانت في فطرتها ونقائها الاول في سني حياتهم في خاتمة الرسالات والتقت على مبادئ الاسلام العظيم التي بعث بها خاتم الانبياء المصطفى الامين محمد صلى الله عليه وسلّم.
ومما يبهر الملاحظ ان القصص الحق في القرآن الكريم، لا يمكن ان تكون مجرد استنساخ لما جاء في العهدين. حتى لو افترضنا ان افكار هذه الكتب، كانت شائعة ومنتشرة في الوسط الذي ظهر فيه النبي، لان الاستنساخ يمثل دوراً سلبياً فقط، دور الاخذ والعطاء، بينما دور القرآن في عرض القصة ايجابي، فانه يصحح ويعدل، ويفصل القصة عما أُلصقت بها من مغالط وملابسات وتحريف وتزييف، مما لا يتفق مع فطرة التوحيد والعقل المستنير والرؤية الدينية السليمة: "يا اهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يُبيّن لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويَعفوا عن كثيرٍ، قد جاءكم من الله نورٌ وكتاب مُبين"، "وأنزلنا اليك الذّكرَ لتُبيّن للناس ما نُزلَ اليهم ولعلهم يتفكّرون".
5 - تقرير الصلاة، بعد ان عرج بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلّم ورأى من آيات ربّه الكبرى، ويصل عند سدرة المنتهى، ليرى ويسمع ما لا رأت عين ولا أذن سمعت تتقرر الصلاة معراج الروح.
والصلاةُ - لُغَة -: هي سبيل اقامة الصلة بين العبد وربّه، ففيها يقف الانسان بين يدي ربه عزّ وجلّ يمجده ويستغفره ويدعوه ويستنصره، فهي عملية ايجابية بها يتجه الانسان الى الله واللهُ يراهُ. وفيها يتحدث الانسان الى الله والله يستمعُ لهُ، وبذلك تحسّ النفس احساساً قوياً صادقاً بأن صلة متينةً قد قامت بين العبد وربه. كيف لا والانسان يقف وقفةً لا شك فيها ولا شبهة عندها انه بين يدي الله الرحمن الرحيم.
والصلاةُ - فريضة -: هي عبادةٌ يعترف فيها الانسان بعبوديته لله وحده بطريق عملي، فالركوع والسجود انما يكونان لله وحده، واللجوء لا يكون الا الى الله وحده، وبذلك تنغرس في نفس الانسان الحقيقة الاولى في الحياة، لا إله إلا الله. أي لا معبود غير الله.
لذلك اصبحت الصلاة احد اركان الاسلام الخمسة، وهي في المنزلة الاولى بعد الشهادتين، أمرنا سبحانه وتعالى بأدائها في اوقاتها المحددة وفرضها على عباده فرضاً: "إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً". وليس أدلّ على اهتمام القرآن بالصلاة من انها ذُكرت فيه 99 مرة، "والذين هم على صلواتهم يحافظون". كما أنذر سبحانه عباده المؤمنين به الغافلين عن صلاتهم، والكافرين به القاطعين كل صلة لهم معه، وتوعدهم بالعذاب الأليم في آيات كثيرة، مثل: "فويلٌ للمصلين، الذين هم عن صلاتهم ساهون"، "ما سلككم في سَقَرَ. قالوا لم نكُ من المصلين".
* كاتب وباحث في الدراسات التاريخية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.