من المفارقات المثيرة حقاً أن النظام العالمي الجديد، الذي جاء ليدعم مفاهيم الديموقراطية وحقوق الإنسان، واستقر في ظله مبدأ التدخل الإنساني، جاء أيضاً ليشهد اتساع مساحة الفقر في العالم، الأمر الذي يضع علامات استفهام كبرى حول البنود الرئيسية التي تتضمنها أجندة النظام العالمي الجديد، إذ أنه لا يمكن الوفاء في ظل تصاعد موجة الفقر، بالحاجات الأساسية لنسبة كبيرة من سكان العالم المعاصر. في هذا الإطار تشير الإحصاءات إلى أن عدد الدول الفقيرة تصاعد بشكل مذهل خلال العقود الثلاثة الأخيرة. ففي العام 1971 كان عدد الدول الفقيرة يبلغ 25 دولة، ارتفع إلى 48 دولة في مطلع التسعينات، ثم تجاوز ال 63 دولة خلال العام 2000، وأن نصف سكان العالم الذي يبلغ حالياً نحو 6 بلايين نسمة كان هذا العدد ثلاثة بلايين فقط العام 1950 يعيشون على أقل من دولار واحد للفرد يومياً، بينما يعيش نحو 2،1 بليون على دولار واحد في اليوم. وتؤكد الإحصاءات الخاصة بالمنظمات الدولية أن مشكلة الفقر بلغت حداً خطيراً خلال السنوات القليلة الماضية. إذ تشير الإحصاءات الصادرة عن منظمة الأغذية والزراعة التابعة لمنظمة الأممالمتحدة إلى أن هناك حوالى 830 مليون شخص على مستوى العالم يشكلون ما نسبته نحو 14 في المئة من سكان العالم منهم حوالى 790 مليوناً انحدرت بهم الحال من الفقر إلى حافة الجوع. وبالنظر إلى عجز المجتمع الدولي عن مواجهة هذه الأوضاع المتدهورة عاماً بعد عام، فإنه من المتوقع أن يتضاعف عدد السكان الذين يقبعون تحت خط الفقر خلال ال25 عاماً المقبلة إلى نحو 4 بلايين نسمة. من ناحية ثانية تؤكد الإحصاءات الخاصة بوكالات الإغاثة الدولية أن هناك حوالى 13 طفلاً يموتون كل دقيقة في البلدان النامية بسبب مشكلة الفقر. والواقع أن الدول المتقدمة ليست أفضل حالاً بشكل مطلق إلا حينما نقارنها بالوضع المتدهور في بلدان العالم الثالث، إذ أن أغنى دولة في العالم، وهي الولاياتالمتحدة، أدى التفاوت الشديد في توزيع الدخل بها إلى وقوع حوالى 20 في المئة من سكانها في دائرة الفقر، و13 في المئة من سكانها قبعوا فعلاً تحت خط الفقر، والأكثر من ذلك أن بريطانيا تصنف حالياً في المرتبة العشرين ضمن 23 دولة في سجل الفقر النسبي، إذ يعيش حوالى 20 في المئة من السكان تحت خط الفقر، لكن الوضع في روسيا والتي تصنف ضمن قائمة الدول المتقدمة أكثر مأسوية، إذ أدى انهيار الاتحاد السوفياتي إلى تساقط الاقتصاد الروسي، وثمة الآن حوالى 50 مليون روسي من إجمالي 147 مليوناً هم جملة السكان يعيشون تحت خط الفقر. الإحصاءات على هذا النحو تثير حال فزع حقيقية، والمشكلة ليست فقط في عجز المجتمع الدولي الآني عن علاج حال الفقر الآخذة في التصاعد، بل عجزه عن رسم سياسات مستقبلية قادرة على التعاطي مع هذا التصاعد، مما يعني أن هذه الحال سوف تتفاقم بشكل أكبر في المستقبل. فقد اتفقت الدول الثماني الصناعية الكبرى في اجتماعها الذي عقد في المانيا في العام الماضي على إلغاء 70 في المئة من ديون الدول الفقيرة التي تتجاوز ال627 بليون دولار، إلا أنه حتى الآن لم ينفذ أي من التصورات الكفيلة بالتعامل مع هذه المشكلة. وإذا كان الفقر "كحال" ليست هناك مشكلة في تحديد معالمه وتداعياته، إلا أنه ظلت لفترة طويلة هناك مشكلة في قياسه نظرياً، وهو ما حال خلال هذه الفترة دون قدرة المنظمات الدولية المعنية على التعامل معه بشكل علمي، لكن الجهود التي قام بها البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة خلال السنوات القليلة الماضية أسفرت عن بناء دليل للتنمية البشرية يتضمن ثلاثة مكونات رئيسية هي الصحة والتعليم والدخل. فبالنسبة إلى الصحة يستخدم مؤشر توقع الحياة عند الميلاد، وبالنسبة إلى التعليم يستخدم مؤشر عبارة عن متوسط مرجح لمعدل الإلمام بالقراءة والكتابة للبالغين الثلثين ونسبة القيد الإجمالية بالتعليم الأساسي والثانوي والعالي معاً الثلث. أما الدخل فيستخدم مؤشراً لمتوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بالدولار بحسب تعادل القوة الشرائية. والمحصلة أن دليل التنمية البشرية لدولة معينة هو عبارة عن نصيب الفرد من المؤشرات الثلاثة مقسوماً على القيم الموضوعية لكل مؤشر. والواقع أن حال الفقر إذا كانت تمتد لتشمل الآن دولاً تنتمي إلى العالم الأول من الدول المتقدمة، فإن المشكلة تدق بالنسبة إلى دول العالم النامي، إذ أن فقر دول العالم المتقدم هو فقر نسبي، أما الفقر المستشري في البلدان النامية فهو فقر مطلق تتبدى مؤشراته في الجوع والمرض والجهل، إذ تشير الإحصاءات إلى أن حوالى 30 في المئة من سكان الدول النامية أميّون. وعلى رغم أن النسبة الكاسحة من الفقراء تنتشر في آسيا وافريقيا وأوروبا، إلا أن هناك مناطق بعينها داخل هذه القارات هي الأكثر فقراً. فهناك حوالى 40 في المئة من سكان دول افريقيا جنوب الصحراء يعيشون في فقر مدقع، وثمة نحو 200 مليون شخص يقعون تحت خط الفقر سنوياً بسبب استمرار تفاقم الأوضاع السيئة في مجالات الصحة والتعليم والدخل. لكن السؤال الذي ما زال يبحث عن إجابة دقيقة مفاده: ما هي علاقة النظام العالمي الجديد باتساع دائرة الفقر؟ للإجابة على ذلك نقول إن نهاية الحرب الباردة تلتها متغيرات جديدة على صعيد العلاقات الدولية عمقت الفجوة بين الشمال الغني والجنوب الفقير. فقد أدت نهاية عصر القطبية الثنائية إلى حدوث انخفاض حاد في قيمة المساعدات التي كانت تقدم من دول الشمال الى الدول النامية، والتي كانت تأتي في سياق سياسي، إذ كانت الدول النامية محوراً للصراع بين القطبين، ولذلك كانت المساعدات تتدفق إليها بهدف شراء ولائها لأي منهما. من ناحية ثانية، كان ميلاد النظام الدولي الجديد إيذاناً بتفجر العديد من الصراعات الأهلية، وهو ما كان يعني تشريد الملايين من ديارهم وأعمالهم، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية كان ذلك يعني تصاعد حجم الإنفاق العسكري. ففي العام 1997 بلغ حجم الإنفاق العسكري العالمي حوالى 842 بليون دولار، كان نصيب الدول النامية منها نحو 28 في المئة، فيما كانت 18 في المئة فقط في العام 1987. وهو ما يعني في نهاية المطاف استنزاف الموارد الطبيعية والبشرية، التي كان يمكن توجيهها إلى مجالات الاستثمار والتنمية. إضافة إلى ذلك فقد جاء النظام العالمي الجديد ليشهد تصاعد موجة العولمة الاقتصادية التي كانت إرهاصاتها بدأت في السبعينات من القرن العشرين، وخلق هذا الوضع نظاماً للتنافس التجاري غير متكافئ بين الدول المتقدمة وبلدان العالم النامي، الأمر الذي عمق من تبعية الأخيرة للأولى، ودمر من ثم فرص النهوض الصناعي بالدول النامية. ولأن النظام الاقتصادي الدولي في ظل عالم ما بعد الحرب الباردة دعم سياسة الخصخصة واقتصاد السوق الحرة، فقد وجدت دول العالم النامي نفسها في سباق مع الزمن للتحول الى النظام الرأسمالي، وهو ما كان يعني القضاء على القطاع العام الذي قاد عملية التنمية لعقود طويلة، وتشريد الملايين من العمال بعد تطبيق سياسة الاصلاح الاقتصادي، وذلك وفقاً لمتطلبات صندوق النقد والبنك الدوليين. والواقع أن هذا التوجه الاقتصادي الجديد لم يؤد إلا إلى تفاقم الأوضاع داخل الدول النامية وحدوث حالات عجز هائلة في الموازين التجارية لها، إذ تشير الإحصاءات إلى أن قيمة الديون الخارجية للدول النامية تصاعدت من 750 بليون دولار العام 1982 إلى حوالى 1300 بليون العام 1989، كان نصيب افريقيا وحدها حوالى 250 بليوناً. ومن المتوقع أن يصل الحجم الإجمالي لمديونية الدول النامية خلال العام 2002 إلى نحو 1500 بليون دولار، وإذا كان النظام العالمي الجديد يزيد من تهميش وإفقار الدول النامية، فإن في طبيعة تكوين هذه الدول نفسها ما يساعد على تفاقم الأوضاع بشكل أكبر، فمعظم الدول النامية حديث الاستقلال ولم يستطع حتى الآن بناء المفهوم العصري للدولة. فهذه الدول فشلت في حل أزمات التنمية السياسية التي تواجه الدول حديثة العهد بالاستقلال، بل إن هذه الأزمات تضاعفت وأصبحت أزمات مركبة بفعل التوجهات غير الديموقراطية التي اتبعتها الغالبية من هذه الدول. إضافة إلى ذلك، فإن انتقال هذه الدول إلى عالم الخصخصة والرأسمالية تم بطريقة غير منضبطة، بل وعشوائية في كثير من الاحيان، الأمر الذي أدى في الحقيقة إلى تحول معظم هذه الدول من عصر ملكية الدولة إلى احتكار الأفراد والشركات الكبرى، وفي بعض الأحيان إلى احتكار الشركات الدولية العملاقة متعددة الجنسيات. والواقع أن هذا الانتقال تم على أيدي أولئك الذين سيطروا أيضاً في زمن القطاع العام. بعبارة أخرى لم يكن هناك فكر جديد يتحمل نظرياً تبعة التحول من عالم القطاع العام إلى عالم القطاع الخاص. ولأن الغالبية الكاسحة من دول العالم النامية ما زالت تحكم بنظم تسلطية، أو بديموقراطية شكلية، فإن لذلك آثاره السلبية على إمكانات التوظيف الصحيح للموارد المتاحة، حيث ينخر الفساد في النظم السياسية، وثمة تحالف غير مكتوب بين السلطة والمال يعرقل جهود التنمية في المجالات المختلفة. غياب الديموقراطية يعد، إذاً، سبباً جوهرياً وإن كان غير مباشر لتفشي حال الفقر في دول العالم الثالث. وفي هذا الإطار لاپبد أن نؤكد حقيقة الارتباط الجوهري بين الديموقراطية والتنمية، وإذا كانت هناك حالات شهدت حدوث تنمية في ظل نظم حكم تسلطية، فإن هذه الحالات تظل محدودة، واستثنائية دول جنوب شرق آسيا، ثم إن هذه الحالات تعثرت لاحقاً، واضطرت هذه الدول إلى السعي قدماً على طريق التحول الديموقراطي، بعد أن أدركت حقيقة الارتباط المطلوب بين الديموقراطية وحدوث التنمية. وبما أن العالم العربي جزء من العالم الثالث، فقد كان من الطبيعي أن يعاني ما يعانيه هذا الأخير، وفي القلب منه مشكلة الفقر، إذ يبلغ عدد من يعيشون تحت خط الفقر في العالم العربي ما نسبته من 34 إلى 38 في المئة من إجمالي السكان الذين وصل عددهم العام الماضي الى 248 مليون نسمة، أي أن أكثر من ثلث العرب يعيشون تحت خط الفقر. لكن هذه المشكلة تختلف حدتها من دولة إلى أخرى، فقد تراجع ترتيب مصر في دليل التنمية البشرية للأمم المتحدة من المرتبة 109 العام 1995 الى المرتبة 120 العام 1999 من بين 175 دولة وتسبقها في الترتيب عربياً دول الخليج العربي وسورية ولبنان، ويقع تحت خط الفقر 48 في المئة من اجمالي السكان. وفي اليمن، فإن الأوضاع أكثر سوءاً، حيث أدى برنامج الاصلاح الاقتصادي الذي بدأت الدولة في تنفيذه العام 1995 في تعميق الفقر على رغم تطبيق برامج لمحاربته، وما زال اليمن يصنف ضمن 40 دولة هي الأقل دخلاً في العالم، ويصل نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي الى 380 دولاراً فقط سنوياً. ويؤكد تقرير أعده أكاديميون يمنيون أن اليمن في حاجة إلى 2،1 بليون دولار سنوياً للقضاء على مشكلة الفقر. وتشير الاحصاءات إلى أن 40 في المئة من سكان الجزائر يعيشون تحت خط الفقر. وأن 50 في المئة من سكان الأرياف يعيشون أقصى درجات الفقر المادي. والمشكلة في السودان ودول القرن الافريقي لا تقل خطورة، بل إن الفقر بدأ يعرف طريقه إلى دول الخليج العربي، وهي التي تتمتع بمستوى دخل مرتفع بفعل الثروات النفطية. ففي الكويت وعلى رغم أن دخل المواطن من الأعلى في العالم، إذ تقدر حصته بحوالى 17 ألفاً و400 دولار سنوياً من الناتج المحلي الإجمالي، إلا أن هناك نحو مئتي أسرة تطلب مساعدات يومية من "صندوق الزكاة" الكويتي الذي يصرف حوالى 2500 مساعدة شهرية. تبدو معاناة العالم الثالث من مشكلة الفقر على هذا النحو جد خطيرة، وهو ما يفرض على المجتمع الدولي التخطيط السليم والعاجل لمواجهتها، وذلك لاعتبارات عدة: فمن ناحية نجد أن الدول المتقدمه التي تمثل الآن عالم الشمال عليها التزام تاريخي تجاه دول الجنوب. فالأخيرة خضعت لعقود طويلة لنير استعمار الأولى. وإبان فترة الاحتلال تم استنزاف هائل للموارد الطبيعية في الدول النامية لمصلحة الدول المتقدمة. وحينما حصلت دول العالم الثالث على استقلالها، وجدت نفسها ذات بنى مهترئة، وفي وضع تبعية للدول المتقدمة، يحول دون امكانات حدوث التنمية المستقلة. ومن ناحية ثانية، وبالأخذ في الاعتبار أن العالم في ظل النظام الدولي الجديد صار وبحق كأنه قرية صغيرة، فإن الدول المتقدمة من مصلحتها أن تعمل على تنمية دول العالم الثالث، حتى لا تتحول خطراً عليها. بيد أن الأكثر أهمية لعلاج المشكلة الخانقة يتمثل في ضرورة أن تنهض الدول النامية بنفسها من خلال تهيئة المناخ لإحداث تنمية حقيقية، وهذا يفرض عليها أولاً ضرورة انفتاح نظمها السياسية. على صعيد آخر يبدو التنسيق بين مجموعة المنظمات الدولية الناطقة باسم العالم الثالث ومنها مجموعة ال77 وحركة عدم الانحياز، ضرورة قصوى لكي يكون للدول النامية صوت قوي على المسرح الدولي. * كاتبة مصرية. عضو مجلس الشعب البرلمان المصري سابقاً.