قفزت إشكالية العلاقة ما بين الديني والسياسي في المجال التاريخي الاسلامي المعاصر الى الصدارة في لحظة انحلال الدولة العثمانية وإجهاز الجمهورية الكمالية التركية على مؤسسة الخلافة، في ضوء مشروعها المستنسخ اساساً عن النموذج الفرنسي. وأدّت راديكالية اتاتورك وعلمانيته الى تحوّل طبيعة الاشكالية جذرياً، وجعلها تتعدى حدود شرعنة الفصل ما بين السياسة والشريعة، او تنظيم العلاقة بينهما الى مواجهة اشكالية جديدة لم تكن معروفة سابقاً حتى لدى آباء الاصلاحية الاسلامية وهي اشكالية الفصل العلماني ما بين الدين والدولة. كانت هذه الاشكالية بالمعنى الدستوري المؤسسي جديدة، اذ لم تتم دسترتها في فرنسا نفسها الا في عام 1905 مع الجمهورية الفرنسية الثالثة. واختصر الكماليون على مستوى دسترة علمانية الدولة في غضون عام وأربعة اشهر ما استغرقه تطور العلمانية الراديكالية الفرنسية في غضون 116 عاماً تفصل ما بين الثورة الفرنسية 1789 التي حافظت على المسيحية ديناً للدولة وبين الجمهورية الثالثة 1905 التي نزعت المسيحية عنها. ولم يكن ما فعله الكماليون الا استنساخاً إرادوياً بيروقراطياً لهذا النموذج العلماني الراديكالي للجمهورية الثالثة، في زمن انهيار الامبراطوريات التي تعتبر نفسها وصية على الأديان الكبرى في تاريخ الانسانية. وحين أجهز الكماليون على مؤسسة الخلافة كانوا يجهزون في الواقع على منصب شديد الرمزية والشكلية والشحوب، إلا ان العالم الاسلامي المبهور بانتصارات الكماليين "العظمى" على القوات الغربية، الذي امل في ان يشكّل الكماليون قيادة تركية اسلامية جديدة، تبعثه في مواجهة الغرب الاستعماري، استقبل ذلك عموماً بخيبة شديدة ومرة. كان وعي العالم الاسلامي هنا ما زال وعي الامبراطوريات المنهارة في حين ان النظام الدولي المترسخ غدا نظام - الدول الأمم الاقليمية المستقلة وذات السيادة. ان الاصلاحية الاسلامية التي مهدت من دون قصد عنها لهذه العلمنة، وهو ما تمثل على نحو نموذجي في الوثيقة الفقهية التركية التي لم تكن تتكلم الا بترسيمتها، قد كان لها نموذج طوبوي هو النموذج الراشدي الذي يقول الحديث النبوي انه نموذج محدد سيتبعه "ملك عضوض"، إلا انه لم يكن لديها نموذج واضح للدولة يتخطى الطوبى. لكن كان لديها ايمان ان النموذج الحديث للدولة، الذي لم يكن سوى نموذج الدولة الاوروبية يتسق مع تلك الطوبى، وإن لم يستطع بلوغها. لا ريب ان الاصلاحية الاسلامية كانت تدرك حدود الشورى، من حيث انها ولاية اهل الحل والعقد وليس ولاية الأمة نفسها، إلا انها ذهبت في تمثلها للدولة الحديثة بوصفها دولة اسلامية في اصولها، الى حد فهم ولاية اهل الحل والعقد على انها تمثيل او وكالة لولاية الأمة على نفسها. هذه "التمثّلية" للمفاهيم هي ما قالته الوثيقة التركية من ان الشكل الجمهوري الذي يمثل ولاية الأمة على نفسها هو الشكل المطابق للخلافة الراشدية، وإن لم تكن شروط هذه الخلافة منطبقة عليه. ومضت الاصلاحية الاسلامية بعيداً، وكانت قابلة الى ان تذهب في شكل اكثر بعداً، في ميدان شرعنة الفصل التام ما بين الشريعة والسياسة، ولكن في اطار التسليم ان ذلك يتم في دولة تعتبر ان اساسها المرجعي هو الاسلام او الشريعة، بغض النظر عن مدى تقيدها "الحقيقي" به. بكلام آخر كانت الاصلاحية تتم مشروعها، في اطار التسليم ان الاسلام هو دين الدولة، إلا انه لم يكن ممكناً لها ان تستوعب ذلك في اطار فصل الدين عن الدولة. مثّل رشيد رضا هذه الانعطافة الخطرة بين ما يمكن ان تؤدي اليه الاصلاحية الاسلامية في ضوء فروضات العالم الحديث وبين الخوف من هذه المآلات. فرضا كان رئيساً للمؤتمر الوطني السوري في عام 1920 الذي أقرّ دستوراً مدنياً للدولة، يفصل ما بين الشريعة والسياسة، لكنه يحافظ على دين الدولة دستورياً، وأنه كان نوعاً من دستور سياسي مدني قريب جداً الى العلمانية بمفهومها الانكلو - ساكسوني الذي ينظم العلاقة ما بين الدين والدولة، ولا يضع الدولة في مواجهة الدين. غير ان الكمالية الراديكالية التركية دمرت ما يمكن اعتباره تطوراً طبيعياً لمصلحة انقلاب إرادوي حاد، أدى تبعاً لقساوته في العشرينات الى الاستقطاب ما بين العلمانيين والاسلاميين. ولا ريب ان الشكل الحاد لهذا الاستقطاب كان في مصر وليس في غيرها. وعلينا ان نفهم نشأة الحركة الاسلامية المعاصرة ممثلة بجماعتها الام جماعة الاخوان المسلمين في هذا السياق الاستقطابي الحاد. اعادت الجماعة لاحقاً تفسير نفسها بوصفها وريثة لحزب الاصلاح الاسلامي المعتدي الذي دعا رشيد رضا الى تأسيسه كوسط ما بين "المتفرنجين" ويعني بهم العلمانيين وبين "التقليديين"، إلا ان اساس نشوئها كان مقاومة المدّ العلماني الليبرالي في مصر، ومحاولة الحيلولة دون استنساخ النموذج الكمالي في مصر. وكان في اساس هذا النشوء رد الفعل على إلغاء الخلافة الاسلامية. وجعل ذلك الجماعة بامتياز حركة تستقطب المحافظين الاسلاميين، وإضافة لهم الذين يرومون التجديد المعتدل ضمن ثوابتهم الاسلامية. ففي الوقت الذي كان فيه مؤتمر الخلافة الاسلامية ايار / مايو 1936 اخفق في اعادة الخلافة، كان حسن البنّا الشاب يسير خطواته الاولى في تأسيس جماعة الاخوان المسلمين وسط ما يمكننا تسميته بشعار الخلافة اولاً. وصاغت الجماعة في الثلاثينات ترسيمتها "الاسلام دين ودولة" في اطار ذلك الاستقطاب ما بين الاسلاميين والعلمانيين المصريين الذين برزوا في منظور الاسلاميين، كأنهم يحاولون استنساخ النموذج العلماني الكمالي في مصر. كانت هذه الترسيمة رداً صافياً على الفصل العلماني الكمالي ما بين الدين والدولة، إلا ان الجماعة ركّزتها اصولياً في ضوء دروس رشيد رضا الذي اعتبرته في الفترة الاولى مرجعاً أعلى لها، في ان الخلافة هي من الاصول وليس من الفروع. غير ان البنّا كان اصبح في الثلاثينات على مقدار كاف من الوعي بطوبوية شعار الخلافة اولاً، ومن هنا كان لا بد للبنّا ان يربط استعادة الخلافة في برنامج طويل الأمد، يسبقه التعاون الاقتصادي والثقافي والسياسي ما بين دول العالم الاسلامي وصولاً الى نصب "الخليفة الحق مهبط الأفئدة وظل الله على الأرض". لم يتخلّ البنّا عن اقامة الخلافة لكنه تخلى عن اولويتها، وأرجأها لمصلحة اقامة الدولة الاسلامية، التي غدت هنا ما يمكن تسميته تجاوزاً بالفقه السياسي للجماعة من الأصول وليس من الفروع، وتحولت الى وجوب لذاته وليس الى وجوب تبعي، وهو نفسه ما أعاد الفقه السياسي الشيعي الإثني عشري في مرحلة لاحقة إعادة بنائه على اساس تجاوز الفصل الشيعي الكلاسيكي ما بين التشييع الروحي العبادي والتشييع السياسي في عصر الغيبة، الذي ينقل ولاية الفقيه الى حدودها السياسية، بوصفها تضطلع بوظائف الإمامة الغائبة من دون ان تكونها. وبمعنى آخر، تم هنا ايضاً نقل ولاية الفقيه من الفروع الى الاصول كي تكون اساساً اصولياً لإقامة الدولة الاسلامية على مذهب آل البيت. لم تعد الاشكالية هنا اشكالية شرعنة الفصل او تنظيم الاستقلال ما بين المجالين الشرعي والسياسي كما كان الامر عليه طوال عشرة قرون بل التوحيد ما بينهما. ذلك ان النموذج العلماني المستورد الذي واجهه الاسلاميون لم يكن مجرد نموذج اجرائي يفصل ما بين الدين والدولة بمقدار ما كان نموذجاً يقوم على اعادة البناء القومي للأمة وفق مفهوم الدولة - الأمة الأوروبي الذي يقوم على الدمج والمجانسة ما بين الدولة والأمة في مقابل النموذج السلطاني الاسلامي الذي يفصل بينهما. وتبعاً لإشكالية الفصل ما بين الدولة والأمة في الاجتماع الاسلامي، كان الفقه السياسي مركّزاً في شكل اساسي على صوغ نظرية الأمة او الملّة، اكثر من تركيزه على صوغ نظرية الدولة، لا سيما ان الفقهاء المتأخرين لم يعودوا يشتغلون في مسألة الخلافة بمقدار ما اشتغل بها المتكلمون، الذين انشغلوا في الردّ على المذاهب الاخرى كالشيعة والخوارج. بكلام آخر طرح نموذج الدولة الحديثة المستنسخ في العالم الاسلامي على الفقه السياسي الاسلامي مسألة جوهرية جديدة في نظرية الدولة هي مسألة السيادة، وعلى رغم ان بعض الاسلاميين استبدلوا نظرية السيادة بنظرية التمييز ما بين الشرع ابتداءً والشرع ابتناءً، إذ رأوا محقّين ان نظرية السيادة دخيلة على الفقه الاسلامي، فإن اشكالية السيادة فرضت وطأتها جذرياً على تصورهم لنموذج الدولة الاسلامية. مال الفكر الحركي الاسلامي المعاصر عموماً الى المنظورات "الكلوية" للسيادة، ليس بحكم ان الاسلام لا يقبل إلا هذه المنظورات، بل لأن صيغه الحركية تبلورت اساساً بدءاً من الثلاثينات في ظل الجزر العام لنمط الدولة الديموقراطية في العالم، وسيادة نماذج الدول "الكلوية" وإشعاعها. لكنه رأى من الممكن التمييز ما بين مفهومين للسيادة هنا: الاول هو المفهوم الإخواني الذي ميّز إبان إمامة البنّا للجماعة، ما بين القانون والدستور، فتقبل الدستور الوضعي بحسب الرأي الاسلامي الذي ينص على ان السيادة هي للأمة كإطار لتطبيق الشريعة، ثم لاحقاً في شكل صيغة "نحو تطبيق الشريعة" في اطار المنهج التدرجي الوسطي الإخواني الذي ميّز الجماعة الى اليوم كونها جماعة الوسط. وإذا نظرنا الى اجتهادات الإخوانيين المشتغلين في قضايا فقه الجماعة السياسي خلال النصف الأول من القرن العشرين، فإنهم كانوا قابلين الى التعاطي مع نموذج الدولة الحديثة الذي يمثل الشعب او الأمة صاحب السيادة فيه، بل كانوا مرنين في استيعابهم لإسلامية القوانين المدنية والجزائية في دساتير ذلك النموذج، على اساس ما يمكن اختصاره في ان جميع القوانين المدنية تتفق مع الاسلام باستثناء الربا وأن القوانين الجزائية هي من قبيل التعزيز. بل ذهب عبدالقادر عودة الذي كان اول مَنْ قال في الجماعة بإلزامية الشورى، الى ان القانون الوضعي المعمول به في مصر لا يتناقض مع الشريعة، على رغم ان الشريعة أسمى منه. وتكوّن في المجال الاسلامي السوري في الاربعينات والخمسينات اتجاه اسلامي اخواني يقترب كثيراً من امكان التطور الى حزب ديموقراطي اسلامي على غرار الاحزاب الديموقراطية المسيحية في اوروبا. ونعني هنا تحديد الاتجاه الذي حاول مؤسس الجماعة في سورية الدكتور مصطفى السباعي ان يدفع الجماعة نحوه، بل ذهب السباعي هنا الى اعتبار الدستوري السوري لعام 1950 - مع انه دستور علماني ينص على ان الشريعة الاسلامية مصدر اساسي للتشريع وليست المصدر الوحيد، وعلى ان الاسلام هو دين رئيس الدولة وليس دين الدولة - هو من اكثر الدساتير اسلامية في العالم الاسلامي. اما الخطاب الحاكمي الذي ارتبط باسم أبي الأعلى المودودي، الذي أعيد صوغه شيعياً، تحت اسمه الحقيقي وهو اسم السيادة، في سياق جعل ولاية الفقيه من الاصول وليس من الفروع، فهو الخطاب الذي حاول للمرة الاولى ان يقدم صياغة منظومية منهجية لنظرية الدولة الاسلامية في القرن العشرين، تقوم على حل مشكلة السيادة او الحاكمية. وصاغ المودودي بدوره هذه النظرية "كلوياً" في ضوء صياغة معكوسة في شكل شبه حرفي لنظرية الدولة "الكلوية" الحديثة في نسختها الممثلة بالشيوعية والفاشية. ولعل هذا ما يفسر ان المودودي تبنى نظرية الدولة المنتشرة الوظائف بوصفها نظرية الدولة الاسلامية من دون ان يكون لها رصيد تاريخي في الاجتماع الاسلامي. كانت نظريته حديثة بكل المعايير، اقام من خلالها قطيعة ما بين نموذج الدولة الديموقراطية ونموذج الدولة الاسلامية، بل ان الدولة الاسلامية لديه اقرب الى الدولة "الثيوقراطية" وفق تعابيره نفسه. غدا التداخل ما بين النظريتين الإخوانية والحاكمية كبيراً، خصوصاً في مرحلة الستينات، إذ حاول التيار الإخواني الراديكالي ان يعيد تأسيس الخطاب الإخواني المعتدل على اساس الخطاب المودودي. لكن محاولة إعادة هذا التأسيس، أدّت به الى اعادة تفسير الحاكمية المودودية ونقلها من ايديولوجية تجهيلية للمجتمع الى ايديولوجية تكفيرية له، ومن ايديولوجية تعتمد اساساً لدى المودودي شكل الانقلاب السلمي الى ايديولوجية جهادية نضالية راديكالية نخبوية تعتنق بدورها بلغة اسلامية لاهوت الثورة الراديكالي القومي واليساري الجديد المشع في الستينات. وطرحت الايديولوجيات التجهيلية والتكفيرية والانقلابية او الاعتراضية هنا على شتى تعابيرها الحركية اولوية مسألة الخلافة في صلب تصورها لعملية بناء الدولة الاسلامية انطلاقاً من السيطرة الانقلابية على ماكينة الدولة. وباستثناء التقاط مسألة السيادة، ظل الفقه السياسي للدولة الاسلامية فضلاً عن فقه الحياة العامة، فقهاً محدوداً وضحلاً وعقيماً في قياساته الشكلية بين ما هو اسلامي وغير اسلامي، وغريباً عن خطاب المقاصد الذي يستحيل اليوم الحل الاسلامي لإشكالية العلاقة ما بين الشريعة والسياسة في معزل عنه. وإذا توقفنا عند منشورات الجماعة الاسلامية وجماعة الجهاد في مصر مثلاً، لأذهلنا ضيق تلك المحدودية حتى عن المواقف التقليدية في التراث الفقهي الاسلامي الذي تكوّن في زمن يختلف جذرياً عن زمننا. تكوّن الفضاء الحركي الاسلامي المعاصر انطلاقاً من لحظة تحوّل مصيرية في العالم الاسلامي بدأت بإلغاء الخلافة. وتشكّل الخطابان الأساسيان المهيمنان على هذا الفضاء وهما الخطاب الإخواني والخطاب الحاكمي بما فيه خطاب ولاية الفقيه الشيعي، في مرحلة تاريخية تمتد من الثلاثينات. ويشير الكثير من مؤشراتها الى بدء نهايتها من نهاية الثمانينات، وهي مرحلة الجزر العام لليبرالية ولنموذجها الديموقراطي في الدولة لمصلحة النسخ "الكلوية" الناشئة والشيوعية خلال مرحلتي الثلاثينات والأربعينات، ثم مرحلة النظم الانقلابية القومية او الشعبوية الثورية. يتلخص نموذج الخطاب الأساسي والفاعل هنا عند الإسلاميين وغيرهم في انه نموذج الثورة بينما يدخل العالم العربي اليوم مرحلة ما بعد هذا النموذج او مرحلة ما بعد الثورة التي يشكل قيام النظم التنافسية التعددية المضبوطة ابرز مؤشراته. تفرض هذه المرحلة على الحركات الاسلامية المختلفة شاءت أم أبت تحديات جديدة، تطال فهمها للشورى أهي ملزمة أم معلمة؟ وتطال فهمها للعمل: أهو سري أم علني، وأسلوبها سلمي أم جهادي؟ وعلاقتها مع الآخر: الاعتراف به أم أسلمته أو إقصاؤه؟ * كاتب سوري.