} بعد ان تناولت الحلقة السابقة ثورة ريغان التي لم تكتمل ومسائل البروتستانتية الأميركية، هنا حلقة أخرى: لم يكن رصيده كمحافظ سبب اعتبار جورج بوش الأب خليفة رونالد ريغان. فالرصيد ذاك ظل مادة لتشكيك المحافظين الراديكاليين ممن والوا المعلم وحده. أما هو فبقي، في نظرهم، رفيق الدرب الطارئ الذي ينتظر بتهذيب انفضاض الخلية في غرفته المجاورة من دون ان يشارك في اعمالها. والامر ليس شخصياً يتصل بمزاج بوش وطباعه فحسب. فنحن، هنا، حيال زعيمين منتخبين ليسا كجمال عبدالناصر وأنور السادات، أو جوزيف ستالين ونيكيتا خروتشوف، يمكن لثانيهما ان ينقض ما شاء نقضه من تركة الأول. ذاك ان التحول في بلد دستوري لا بد ان يكون تدريجياً، يراعي الاستمرارية وعمل المؤسسات مراعاته الحد الادنى من مشتركات الحملة الانتخابية والحزب اللذين اوصلاهما معاً الى السلطة. مع هذا يبقى للشخصي مكانه. فالرئيس الاسبق المولود في اسرة محظوظة الذي نشأ في كنف النجاح، تعلم مبكراً ان يطلب النجاح ولو في تكساس. بيد انه تعلم، كذلك، ان يطلبه عضواً في فريق كفريق البايسبول الذي انتسب اليه في شبابه وترأسه. وفي ثقافته الجماعية، وفي بحثه عن إطار يحيطه وحضن يرعاه، تبدّى خجل بالانجاز الفردي البحت الذي يُدرَك بخشونة. وجورج بوش المهذب فعلاً ليس ممن يحبّون المباهاة وهو، على رغم الخشونة التي اكسبته اياها بيئة تكساس، ظل ألطف من ان يخوض السياسة الوطنية بالمعنى الهجومي الذي صارته مع ريغان. اللون الباهت لقد ظل طالباً للرعاية، ولم يتأهّل لأن يأخذ الدنيا غلاباً. فحين كان نائباً للرئيس نطق بلسان الرئيس، من دون اية لمسة مميزة يضيفها. ويقال إنه، تقيّداً بالهدف هذا، قمع عدداً من آرائه. اما مُريدوه فينسبون ميله التسليمي الى رغبته في عدم اظهار الادارة منقسمة على نفسها. كائناً ما كان السبب، صار جورج الأب في 1988 شخصية عامة معروفة لكن المعرفة لم تتغلب على اللون الباهت فيه ولا خففت من صعوبات تعريفه. فهل هو فعلاً ذاك المحافظ التقليدي، وهناك سوابق في تاريخه تدل الى هذا، ام انه انحاز الى الثورة الريغانية، وهناك سوابق على ذلك أيضاً؟ ثم الى اي حد هو تكساسي، وقد ابقى لنفسه بعد انتقاله الى واشنطن جناحاً في احد فنادق تكساس كأنه خط الرجعة المضمون، والى اي حد هو من الشمال الشرقي الذي صدر عنه وعاد اليه في حلّة نائب رئيس؟ فالاستراتيجية التي اتبعها مستشاروه الاعلاميون عوّلت على صلته بالريغانية وتخففت من التماهي معها في آن. هكذا نجحوا في تسويق بطلهم شخصاً متماسكاً وصاحب رأي، الا ان مضمون الرأي هذا بقي محاطاً بعلامات استفهام. على ان بوش الأب دخل في تشرين الاول أكتوبر 1987 حملته لانتخابات العام التالي فحقق نجاحاً ساحقاً خصوصاً بين جمهوريي الجنوب. ذاك انه مرشح ريغان الذي نشط شخصياً في الحملة، على رغم صحته التي بدا عليها الاختلال ونشاطه الذهني الذي شرع يتردى. وما لبث نائب الرئيس المرشح ان اختار له نائباً شاباً اراد ان يكون من اختراعه، هو السناتور دان كويل، فبات على الاثنين ان يتملّصا من التهم الموجهة اليه ك"متهرّب من الخدمة في فيتنام". لكن هذه الورطة بكويل لم تكن الا الاولى. ثم اذا كان التهرب من فيتنام تهمة فهو بالطبع ليس اعنف ما يمكن توجيهه الى ذاك المحامي الصادر عن إنديانا والمتفرّع عن اسرة تعمل في النشر الصحافي، شأن أسرة بارباره زوجة جورج. وفي الحالات كافة دعا بوش في خطاب تسميته عن الجمهوريين الى "أمة أنعم وألطف"، فلم تفعل دعوته الا زيادة الغموض غموضاً. غير انه مضى في حملة ضارية وعديمة اللطف ضد منافسه الديموقراطي حاكم ماساشوستش، مايكل دوكاكيس، فعيّره بليبراليته بأسوأ المعاني التي اسبغها اليمين الاميركي على الكلمة، ونسبه الى الهوامش المطرودة من التيار العريض للحياة الاميركية. كذلك تعهد بوش عدم رفع الضرائب، لكنه ضمن للناخبين ان دوكاكيس سيرفعها. ولئن شكك بوعد منافسه الحدّ من انتاج بعض الاسلحة، هاجمه لأنه "ضعيف" في مواجهة الجريمة. وبعد ان بالغ في العزف على الاوتار الريغانية، فاز بوش بأربعين ولاية و4،53 في المئة من الصوت الشعبي. بيد ان حملته ظلت واحدة من اضعف الحملات الرئاسية تعريفاً في أعين المقترعين. فهو الوكيل لا الأصيل في آخر المطاف، وهو لم يُجد رسم الخط الفاصل بين الأصالة والوكالة. وبحثاً عن التمايُز اكتفى، بعدما اختار كويل، بأن بثّ في البيت الابيض جواً قليل الكلفة والرسمية. وبصحبة بارباره استقبل في يومه الرئاسي الاول السيّاح الذين رغبوا في التعرف الى مأوى رئيس رؤساء العالم. وكان مثل هذا التمايُز سبباً للايديولوجيين ان يشتمّوا فيه السخافة. الا أنه كان أيضاً سبباً لتظهير مأزقه، والتنبّه حيال مساعيه لمغادرة هذا المأزق. فهل ثمة من يحاول التمايز عن ريغان،؟ ثم اذا بدت المحاولة سخيفة اليوم فاقتصرت على كويل والاستعراض السياحي، الا أنها تشي باحتمالات مُقلقة للغد. سياسات الداخل والغد لم يتأخر. فتبعاً لسيطرة الديموقراطيين على مجلسي الكونغرس، اتخذ الرئيس الجديد من المواقف معتدلها وما يصلح أن يكون موضع اجماع. لكنه بالتدريج، ومع اشتداد عوده، غدا اشد استعداداً للمبادرة. وما ان ازف حزيران يونيو 1990، حتى تخلى عن تعهده "إقرأوا شفاهي، لن تكون هناك ضرائب جديدة"، معترفاً بأنه لا بد من ضرائب اضافية اخرى. وانتقد كثيرون من المحافظين المتطرفين هذا التحول معتبرين ان صوت الخطر يُسمع من نواقيس البيت الابيض. فاذا كان ريغان لم يكمل ثورته فان بوش يردّ عقاربها الى الوراء. وللتوّ هبطت شعبيته هبوطاً ملحوظاً وتمكن الجمهوريون، باستنفار هائل، من القضاء على خطته لخفض العجز تاركين الحكومة تتخبط بحثاً عما يلزم من مال. وفي الايام الاخيرة للكونغرس الرقم 101 في حياة اميركا، أمكن التوصل الى تسوية حول موازنة زادت بعض النسب الضريبية غير انها لحظت اعفاءات لدافعي الضرائب من ذوي الدخل المرتفع. وامام الحاح التحديات الاقتصادية، تعاظم ميل بوش الى زيادة الضرائب على عكس تصريحاته السابقة الكثيرة. في هذا كان متفقاً مع القيادة الديموقراطية في الكونغرس. بيد ان شعبيته بين الجمهوريين لم تتعافَ فيما لم تؤدّ الخطة التسووية الى خفض حجم العجز الا هامشياً. وفيما تصاعدت البطالة في 1991 وقّع الرئيس مرسوماً يقضي بتقديم خدمات ومنافع اضافية للعمال العاطلين عن العمل، وحاول بشيء من الهجومية غير المعهودة فيه ان يخلق فرص عمل جديدة من خلال تنشيط التصدير. وفعلا زار للغرض هذا استراليا وسنغافوره وكوريا الجنوبية واليابان في كانون الثاني يناير 1992. غير ان الآمال الكبيرة التي عُلّقت على اتفاق نوعي مع طوكيو، بددها العناد الياباني الشهير حيال شراء المنتجات الاميركية. وسارت الامور من سيئ الى اسوأ على الجبهة الاقتصادية، ولكن أيضاً على الجبهة الايديولوجية التي تملي القرار مرةً وتفسّره مرة اخرى. ففي خطابه عن حال الاتحاد في 1992 قدم بوش خطة للنمو الاقتصادي دعت الى تعليق اي تدخل حكومي في شؤون البيزنس، والى خفوض ضريبية مرفقة بالغاء عدد من البرامج الداخلية التي رأى انها لا تستحق التمويل. لكنه ايضاً طالب بتوفير بعض الفوائد الصغرى لمرضى العائلات الفقيرة وشاري البيوت للمرة الاولى. وبدوره تبنى الكونغرس بعض اقتراحاته، لكن الرئيس نفسه مارس الفيتو على المرسوم النهائي لأنه يرفع الضرائب على الاغنياء. وفي نهاية 1992 بلغ استعماله حقه في الفيتو 35 مرة! على العموم، ووسط المشاحنات والتقلب في السياسات الاقتصادية المتبعة، انخفضت نسب الفائدة وانخفض التضخم بصورة ملحوظة. غير ان البطالة بلغت في آخر سنيّ عهده 8،7 في المئة وهي اعلى نسبة تبلغها منذ 1984. وفي ايلول سبتمبر اعلن مكتب الاحصاء الفيدرالي ان 2،14 في المئة من مجموع الاميركان يعيشون في فقر، وهي النسبة الاعلى من نوعها منذ 1983. والفقر والبطالة يضربان، بين من يضربان، قواعد اليمين، لا سيما وان الزمن المعولم بات يمتحن ضعفاء التأهيل بقسوة غير مسبوقة. وفيما كانت الادارة تتأهب لاستقبال انحدار اقتصادي، هزّ بوش جهاز البيت الابيض مرتين فهزّ ثقة مزعزعة أصلاً. فكبير طاقمه جون سنونو، وهو الحاكم السابق لهمبشاير، استقال في 1991 ليحل محله وزير المواصلات صموئيل سكينر. ثم اطيح سكينر في 1992 ليخلفه وزير الخارجية جيمس بيكر الذي نيطت به، ايضاً، مهمة تحضير الحملة لانتخاب الرئيس لولاية ثانية. وبعد استقالة ثرغوود مارشال في 1991، وكان القاضي الاسود الوحيد في المحكمة العليا، سمى بوش قاضياً أسود آخر، هو كلارنس ثوماس. لكن الأخير الذي عُرف بنزعته المحافظة القصوى، عُرف أيضاً بعيوب أخلاقية أثارتها تنظيمات نسوية واخرى للحقوق المدنية عارضت التعيين. وبالتأكيد لم يتحمس بوش لتعيين أسود كما تحمس لتعيين ثوماس، ماضياً في اصراره على رغم ان عضواً سابقاً في المحكمة هي استاذة القانون أنيتا هيل اتهمته، على شاشة التلفزيون، بالتحرش الجنسي. وثُبّت ثوماس بمعزل عن كل اعتبار. ضربة من هنا وضربة من هناك، وانحناءة في اتجاه اليمين تقابلها انعطافة في اتجاه اليسار، وتنازل للأخلاق يقابله تطاول عليه. وكان للتأرجح هذا ان اصاب المتطرفين الجمهوريين بالاحباط فيما كانوا يتطّلبون الاشباع الذي خلّفه عدم اكتمال الثورة الريغانية. ولم يكن الرئيس، في الآن نفسه، صاحب كاريزما يُعتدّ بها. أما نائبه دان كويل فبدا كارثة محققة، الا انه بدا ايضاً شهادة على محاولات تمايز جورج بوش وعلى نوع البضاعة الخاصة التي انتجها. فخلال نيابة رئاسته سافر كويل كثيراً في الولاياتالمتحدة وفي الخارج، مثله مثل رئيسه حين كان نائباً للرئيس. فمنصب نيابة الرئيس احتفالي عموماً الا اذا كان النائب مجرباً وقوي الشخصية في الوقت نفسه. ودان كويل، الذي لم يساهم في صنع قرار، نجمت أخطاؤه عن أقواله التي لم يصدر غيرها عنه، وهي كثيرة، حتى غدت سبباً دائماً لاحراج الادارة كلها. وهي اخطاء لم تقتصر على اساءته تهجئة الكلمات على ما "علّم" طلاب احدى المدارس، ولا على اعلانه "الندم" اثر زيارته أميركا اللاتينية لأن "لاتينيته" ضعيفة. فبعض ما ارتكبه ينمّ عن إعاقة شكلها ردّ المعاني الى مصادرها الاولى، او تفكيكها الى "بدائه" بسيطة، او تفسيرها بمرادفاتها. ف"إن لم تنجح جازفتَ بأن تفشل"، و"يا لها من خسارة أن يخسر المرء عقله"، و"نسبة تصويتٍ أدنى اشارةٌ الى ان اناساً أقل توجهوا الى الاقتراع"، و"مَن الذين نلومهم على الشغب في لوس انجليس؟ المشاغبون. وعلى القتل؟ القَتَلة"، و"بالنسبة الى ناسا، الفضاء لا يزال الأولوية الأولى"، و"بصراحة تامة، لا يزال المدرّسون أصحاب المهنة الوحيدة التي تدرّس ابناءنا". وأحياناً يهبط كويل من المعاني البسيطة الى تداخُل مضاد تماماً للمعنى، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالأزمنة. ف"فنحن لا نريد الرجوع الى الغد، بل نريد التقدم الى أمام"، و"لقد أصدرت أحكاماً صائبة في الماضي وأصدرت أحكاماً صائبة في المستقبل"، و"المستقبل سيكون أفضل في الغد". وأحياناً أخرى يستنتج تبعاً بناء على ما يفترضه مقدماتٍ، خالطاً الأجناس والمستويات جميعاً. ف"أنا لست جزءاً من المشكلة، أنا جمهوري"، و"أنا أحب كاليفورنيا، لقد ترعرت عملياً في فينيكس". واغلب الظن ان اقواله هذه ذكّرت الرئيس بأخطاء مماثلة ل"الصبيّ" الذي في البيت. فاليوم بعدما تعرف العالم الى جورج دبليو، صار في الامكان النظر بعين اشد رهافة الى اختيار كويل. وربما انطوى الامر على انجذاب أبوي لقاسم الغباء مع بكره. في الخارج كان يمكن لليمين ان ينفجر في مواجهة بوش لولا انجازات غير عادية تحققت على الصعيد الخارجي. غير ان الانتصارات سريعاً ما عملت على نحو مفارق اذ ما ان أزيل "العدو" حتى عاد التركيز على السياسة الداخلية. وفعلاً حظي بوش بدعم واسع لادارته الشؤون الخارجية. فاستناداً الى تجربته الديبلوماسية والى شيء من العناية بالتفاصيل التي كان يغطّ لها ريغان في نوم عميق، لعب دوراً بارزاً في تطوير سياسة بلاده حيال العالم. فالهزيمة الانتخابية في 1990 لساندينيي نيكاراغوا زكّت جهوداً متواصلة لاطاحتهم. وكانت للادارة مداخلاتها في تسريع تفكك النظام العنصري في جنوب افريقيا. ولجأ بوش الى القوة في حل الأزمة الناشبة مع ديكتاتور باناما الجنرال مانويل نورييغا، وفي كانون الاول ديسمبر 1989 اعتقلته القوات الاميركية في بلاده وجيء به ذليلاً الى محاكم الولاياتالمتحدة التي حاكمته وحكمت عليه. ولم يدر في بال الرئيس الاميركي يومذاك انه انما يشارك في التأسيس لعدالة كونية ستجد في حزبه وفي نجله بعض اعتى خصومها. وفيما انهارت الحكومات الشيوعية في اوروبا الوسطى والشرقية، صار بوش الى حد ما رقيباً ومرجعاً يراقب بناء الامم مستقبلاتها. وفي آب اغسطس 1991 كان الانقلاب الشهير الذي بدأ معه تفكك الاتحاد السوفياتي، فلم تمض غير أشهر حتى استحال الخصم الجبار كونفيديرالية رخوة بين جمهوريات مستقلة. بيد ان صدام حسين اعطاه منصّة البطولة التي يبحث عنها. فغزو الكويت في آب 1990 وفّر له الازمة الكبرى وفي الوقت نفسه لحظة التجلي. وبدا دخول الموظف التاريخَ قاب قوسين أو أدنى. وبالفعل نجح بوش ببراعة مشهود له بها في انشاء التحالف الكبير الذي دل على ان الحروب في زمننا، مثل العدالة، لم تعد من مقوّمات السيادة الوطنية. وكان ما كان من ردّ الاحتلال العراقي على اعقابه فيما انتشى اليمين الاميركي بالنزعة الحربية في صخب جنوني. وارتفعت شعبية الرئيس الى ذرى لم يبلغها ريغان نفسه. وكانت تتراكم انتصارات اخرى في رصيده. ففي 1991 حُرّر آخر مخطوف اميركي في لبنان. وانتعشت الآمال بتسوية شرق اوسطية حين ابتدأت، في مدريد، محادثات السلام المرعية اميركياً. وواكب بوش الاتجاه المعولم حين اجرت حكومته، عام 1992، مفاوضات مطولة مع كندا والمكسيك نجمت عنها الموافقة على مسودة اتفاقية التجارة الحرة. لكن البطولة ليست سهلة في اميركا التي يوالي يمينها الطلب على اشباع يستحيل تحقيقه. وبالفعل ما أن بدت حظوظ بوش الانتخابية واعدة، حتى بدأ المقترعون يركّزون على مخاوفهم الاقتصادية. فالانجازات العظمى لا تعني مكافأة المُنجِز بقدر ما تعني مطالبته بانجاز ما لم يُنجَز. واذا كان ونستون تشرشل قد كسب الحرب الثانية ثم خسر الانتخابات، فهنا تكررت التجربة من دون كاريزما تشرشل. كذلك لم ينفضّ اليمين البريطاني من حول الاخير فيما انفض من حول بوش الذي "خان" الريغانية. وابعد من هذا ان البريطانيين وقد شاهدوا خراب الحرب يتخلل الانتصار، شاؤوا ان لا يتذكروا فعاملوا زعيمهم معاملة الشاعر في جمهورية أفلاطون: وضعوا على رأسه اكليل غار وسألوه ان يغادر اسوار المدينة. الا ان اليمين الاميركي مصرّ على تذكّر انتصارات تفيض عن قدرات بوش. وكان الديموقراطي حاكم أركنساو، كلينتون، من لعب الدور الذي لعبه حزب العمال البريطاني بعد الحرب. ف"الاقتصاد يا غبي" كان الشعار الذي بدأ يزلزل الانتصارات الجمهورية، فيما كان باتريك بات بوكانان، الصحافي المحافظ والكاتب السابق لخطابات نيكسون، يتحدى بوش في انتخابات الحزب مهاجماً اياه لتراجعه عن تعهده عدم رفع الضرائب. وفي غضون ذلك كانت مقبولية بوش من الشعب انخفضت الى 29 في المئة فقط. وحاول الرئيس استدراك الامر خائضاً المعركة بجو محافظ، الا انه لم ينجح في تعبئة المحافظين. فهؤلاء لم تستهوهم حلقة بوش الداخلية فضلاً عن سياساته، وما خلا وزير دفاعه ديك تشيني، بدا الجميع لهم غرباء عن العالم الايديولوجي. فجيمس بيكر، المحامي والصديق الاقرب الى بوش ووزير خارجيته بين 1989 و1992 ومدير حملاته الانتخابية، بوشيّ الهوى اكثر منه جمهورياً. وفي سيرته أنه انتمى الى الحزب خدمةً منه لمصالح صديقه والمصالح التي تشدّ اليه. وهو ابن مدعٍ عام غني من هيوستون، درس في جامعة برنستون العريقة حتى 1952 قبل ان يعود الى تكساس ويتخرج من جامعتها في اوستن. اما مستشاره للامن القومي برانت سكوكروفت الذي شاركه وضع كتابه "عالم تم تحويله"، فجيء به من الوسط الجمهوري التقليدي. فهو كان مستشار الامن القومي لجيرالد فورد بعدما شغل مستشارية الشؤون العسكرية لريتشارد نيكسون. وبدوره فلورنس ايغلبرغر، الذي حلّ لفترة في الخارجية، موظف قديم في السلك الديبلوماسي. يبقى ديك تشيني وحده. فوزير الدفاع الذي اختاره النجل جورج دبليو نائباً له، يجمع الى علاقته الوثيقة بالعائلة نزعة ريغانية متزمتة. فقد عمل نائب رئيس للجنة التي حققت في فضيحة ايران - كونترا عام 1987، واستنتج بعد ثلاثة اشهر من الاستماع الى الشهود أن "ما من برهان على أنه كانت لدى الرئيس اية معرفة بتحويل ارباح بيع السلاح للمقاومة الديموقراطية النيكاراغوية". وبدت مواقفه نموذجية في رجعيتها وحربيتها: من تأييد حرب النجوم وتمويل الكونترا ومجاهدي افغانستان ومقاتلي جوناس سافيمبي في انغولا، الى عداوته للمساواة في الحقوق وحماسته للصلاة في المدارس. وعلى اية حال ففي 3 تشرين الثاني نوفمبر 1991 خسر بوش ب38 في المئة في مقابل 43 لكلينتون الذي تمكن من استرداد الديموقراطيين الذين عُرفوا قبلا ب"ديموقراطيي ريغان"، ثم انتزع جمهوريين غدوا يُعرفون ب"جمهوريي كلينتون". وفي تجربته امام هذا الديموقراطي المعتدل، تذكر بوش بالتأكيد هزيمته في انتخابات مجلس الشيوخ العام 1970 حين اطاحه الديموقراطي المعتدل الآخر لويد بنتسن. ومن هذا تعلم نجله درساً حفظه جيداً على عكس عادته: عدم الانفكاك عن اليمين و"عدم اهمال الداخل" بحسب ما قال هو نفسه لكلينتون في لقاء التسلم والتسليم. * كاتب ومعلّق لبناني. الحلقة التالية: "الحرب على كلينتون" السبت المقبل. ** تنشر الحلقات الخميس والسبت والثلثاء.