كما تحفظ اللغة يوميات المجتمع وخبراته وبنية ذهنيته كذلك طرائق الكتابة كانت تستجيب لحاجة المجتمع وتراعي علائقه ومتطلبات يومياته. ولهذا حين استعمل الأكاديون الكتابة التزموا بما تواضع عليه السومريون من اصطلاحات ايديوغرامية، وكأنهم بذلك كانوا يراعون مشاعر شركائهم في المجتمع ويحافظون على تراثهم وخبراتهم، مفسحين لهم الاستمرار في معتقداتهم الدينية والاجتماعية، وفاتحين لهم باباً واسعاً لقراءة لغتهم هم وتعلم مفرداتها ومعرفة ما يقتبسون منهم فيها، خلال استعمال الصور الايديوغرامية كمقاطع صوتية في اللغة الأكادية الثلاثية المقاطع في معظم كلماتها. كان الكاتب يتعلم الزامياً اللغة السومرية ليعرف مدلول كلماتها حين تكون ايديوغراماً مألوفاً وليعرف لفظها الصحيح حين يريد استعمالها كمقطع صوتي فقط في لغته هو. ومن هذه الحال نشأت قيمة اجتماعية للكتبة وبرز نفوذ للمدرسة إدبا في حياة المجتمع. ونقرأ ذلك في بعض المفاخرات بين طلاب المدرسة، إذ يخاطب أحد الطلاب رفيقه، واصفاً اياه بأنه: طاعون المدرسة، غبي ومغفل ويجهل السومرية، الى حد انه لا يستطيع الامساك بالقلم جيداً. الكتابة كعامل توحيد ومن هذه الحال في تقدير قيمة اللغة السومرية ظن بعض الباحثين الأوائل انها لم تكن سوى لغة خاصة بالكهنة والمثقفين. وكما يرى أوبنهايم صمدت اللغة السومرية طوال 15 قرناً، جنباً الى جنب مع اللغة الأكادية، على رغم زوال سلطة السومريين عن أرض الرافدين. لقد كانت، نوعاً ما، لغة مقدسة للمثقفين. وخلال هذا الاستمرار كانت المعاجم مستمرة حتى ان الآثاريين ندر ان يعثروا على مجموعة لوحات ليس بينها جدول مزدوج اللغة بالكلمات السومرية ومعناها الأكادي. وللنفوذ الذي كان للمدرسة وخريجيها نعيد وراثة الأكاديين ومن خلفهم من الساميين للآداب والمعتقدات الدينية السومرية، إذ تعاملوا بها ومعها وكأنها من اسلافهم في اللغة والسلالة والدين. كانت طريقة الكتابة عامل توحيد بين شعبين مختلفين في اللغة كما في السلالة. هذه التجربة التاريخية ظهرت بوضوح بين هذين الشعبين وهي لا بد من ان تكون حدثت مع شعوب أخرى من تلك الشعوب التي غابت عن ساحة التاريخ كالعيلاميين والحوريين والأورارطيين والكاشيين وأمثالهم. ولنا في التجربة العربية خير مثال على سلطة اللغة والكتابة في صهر الناس وازالة الفوارق بينهم في المشرق أو المغرب على السواء. رأى اينياس جلب ان الكتابة بدأت في سومر في حدود 3100ق.م.، ولدى اسلاف العيلاميين في 3000ق.م.، ولدى أسلاف الهندوس حوالى 2200ق.م.، ولدى الصينيين في 1300ق.م.، ولدى المصريين من 3000ق.م. حتى 400م. ولدى الكريتيين من 2000ق.م. حتى 1200ق.م. ولدى الحثيين وجيرانهم السوريين في 1500ق.م. كما رأى ان جميع هذه الشعوب كانت تستفيد من الخبرة السومرية. وحين البحث عن الخواص التي ساعدت على انتشار الكتابة المقطعية واستمرارها من دون غيرها، طوال ما يزيد عن 2500 سنة، نجد الكثير من الباحثين يتفقون على صلاح الكتابة هذه للشعوب المتعددة اللغات، أي الخواص ذاتها التي تمتعت بها الأبجدية التي عمت معظم لغات العالم. لكن اللافت في الكتابات المقطعية هو التباين في استعمال الايديوغرام بين شعب وآخر. إذ لاحظ الباحث رايكمان ان الآشوريين الذين استعملوا الكتابة الأكادية - السومرية اعتمدوا على الايديوغرام في كتاباتهم أكثر من البابليين الذين أخذوا بالتخلص منه والاعتماد على استعمال المقاطع الصوتية. وهذه الملاحظة تكشف لنا تعدد لغات شعوب الامبراطورية الآشورية وقابلية الرمز الايديوغرامي للقراءة بلغات مختلفة، من دون ان يفقد مدلوله والغاية المتوخاة منه. بينما التقدم البابلي في التخلص من رمز الكلمات والاعتماد على القيمة الصوتية للرموز انما كان يعني تقدم بابل في عزلتها عن الشعوب الأخرى واقترابها من وحدة لغة أبنائها ورعايا دولتها. وهذه الملاحظة تتفق مع حال استعمال الشعوب الأخرى للكتابة المقطعية. فالعيلاميون الأوائل في أواسط الألف الثالث ق.م. استعملوا في النصوص التي وصلتنا 131 اشارة مقطعية صوتية و25 ايديوغراماً و7 تحديدات للكلمات، أي ما سميناه بوادئ ولواحق لتصنيفها. وفي نصوص متأخرة لهؤلاء نجد في نص 113 اشارة كتابية بينها 102 مقاطع صوتية والباقي رموز كلمات وتصنيفات ايديوغرامية. وبين مئات الكلمات لدى الميتانيين نادراً ما نجد ايديوغرامات، حتى اننا في نصوص تعود لعهد الملك الميتاني توشراتا، أوائل القرن الرابع عشر قبل الميلاد نجد كلمتين فقط بين مئات الكلمات المكتوبة بالمقطعية الصوتية، وكذلك كانت حال الكتابات الحورية. هذا بينما في كتابة الأورارطيين في أرمينية نجد الكلمات الإيديوغرامية واسعة الاستعمال، حتى وفي القرون الأولى من الألف الأول قبل الميلاد، أي بعد انتشار الأبجدية الفينيقية في البلدان المجاورة لأرمينيا. وهذا يعني لنا ان العصبية القومية والميول الاستقلالية لدى الشعوب هي التي كانت دفع الكتاب للتخلص من الايديوغرام، بينما الميل الى مراعاة الآخرين والانفتاح على التعاون معهم هو الذي كان يشجع على استعمال لغة أسهل للتفاهم معهم. وفق هذا المقياس نجد ان بعض الشعوب التي تكونت منها الدولة الحثية في آسيا الصغرى كاللويين والباليين والحاتيين كان يستعمل المقطعية الصوتية في كتاباته من دون الايديوغرام، بينما نجد الحثيين الامبراطوريين الذين استوعبوا هذه الشعوب في سلطتهم استعملوا نوعين من الكتابة، الأول يعتمد على الايديوغرام البابلي السومري والثاني هيروغليفي تصويري خاص بهم. والنوعان معاً كانا يعبران عن ميل الى الانفتاح على الآخرين وتسهيل التفاهم معهم، مع المحافظة على اختلاف لغاتهم وثقافاتهم. وهنا نذكر ان خلافاً واسعاً نشأ بين الباحثين عند تحديد هوية الحثيين من خلال لغتهم، فرأى البعض انهم "هندوأوروبيون" بينما رأى آخرون انهم "آسيانيون" أي كالسومريين والحوريين، وذلك بسبب تداخل المفردات اللغوية المختلفة في اللغة الحثية. ولكن الباحث الفرنسي كونتينو رأى رأياً صائباً وهو ان اللغة التي كانت تستعملها الدولة الحثية لم تكن سوى مجموعة لغات ولهجات أدت في النهاية الى "فيديرالية" حثية سياسية. وهذا الخليط من اللغات كان متداولاً في بلدة كنيش الحثية. ومثل هذا الوضع يتفق تماماً مع الكتابات التي اصطلحنا على تسميتها ايديوغرامية، ويسميها البعض "لوغوغرام"، أي صور كلمات. وهي حال الكتابة الصينية الحاضرة. اللغة الصينية يسجل الباحثون امتيازاً للمقطعية الصينية لكونها وحدها استطاعت ان تصمد في وجه الأبجدية التي سيطرت على اللغات العالمية الأخرى، بينما هناك ثلاث لغات غيرها توقفت، واحتاج العلماء الى جهود مضنية لفك رموزها وقراءة مدلولاتها. وهذه الثلاث هي: البابلية، المسمارية، والهيروغليفية المصرية، والايجية القبرصية. ويرى الكثيرون ان الكتابة الصينية هذه لو لم تكن قابلة للاستمرار وحل مشكلات واقعية واجتماعية لما استطاعت الاستمرار في الحياة. لكن الاعتراض الذي تواجهه هذه الكتابة هو في صعوبة التعامل معها لكثرة رموزها الكتابية. ويجد المعترضون سبب استمرار انتشار الأمية بين الصينيين في هذه الصعوبة. انتشرت كتابة اللوغوغرام الصينية في أواسط الألف الثاني قبل الميلاد خلال حكم اسرة شانغ، مع ان البعض يرى ان البدء بها كان في أوائل الألف الثالث قبل الميلاد مع الامبراطور فوهي. والملاحظة ان هذه الكتابة، ومنذ نشأتها، لم تختلف كثيراً عما هي عليه اليوم. لم تكن اشاراتها تتجاوز 2500 اشارة. ولكنها لم تبق صورها بالوضوح التي كانت عليه قديماً. وهي اليوم، مع انها لوغوغرام، وكل صورة منها تمثل كلمة، فهي في الوقت ذاته مقاطع صوتية حين استعمالها لكتابة كلمات أجنبية متعددة المقاطع، وهذا ما تتوسع به اللغة الصينية الحاضرة مع توسع العلاقات الصينية مع الشعوب واللغات العالمية الأخرى. وخلال التاريخ الطويل لاستعمال اللغة الصينية جرت محاولات اصلاحية تحديثية لكتابتها كانت آخرها في أوائل القرن العشرين، إذ برزت مقطعية صوتية من 62 اشارة فقط، بينها 12 اشارة تحديدية مساعدة. وهذه الكتابة نجحت في بعض المقاطعات الصينية وغدت تستعمل لكتابة أي مقاطع دخيلة أو مستجدة ولا وجود لها في الكتابات المألوفة. والمقاطع مكتوبة على صورتين، صورة تدرج ضمن الكلمة وصورة للنهاية، أي تماماً كما نكتب بعض الحروف العربية مثل:" ع ك م س ن وغيرها. وكما حدث للغة السومرية مع الشعوب المجاورة التي اقتبستها لكتابة لغاتها كذلك حدث مع الصينية. ولكن الفارق بين الحالين هو ان الأولى غدت آثارية واحتاجت الى جهود علمية جبارة لاستقرائها، والثانية واقعة تاريخية لا تزال مستمرة وذات شواهد ومستندات حيّة. الجسر الكوري بدأ اليابانيون بالكتابة عملياً في أوائل القرن الخامس للميلاد، على رغم وجود ذكر لرسالة من امبواطور ياباني تعود الى سنة 345م. ويرجح ان اليابانيين اقتبسوا كتابة الصين بوساطة الكوريين الذين كانوا يبشرون بالبوذية في بعثة تبشيرية تعود الى سنة 405م. وكان الكوريون يكتبون بالكتابة الصينية الايديوغرامية. بدأ اليابانيون يقرأون الكتابة الصينية باللغة اليابانية، على رغم اختلاف اللغتين، فالأولى أحادية المقاطع والثانية تتألف كلماته من مقاطع عدة وقد تكررت بذلك حال اقتباس الأكادية للكتابة السومرية، قبل أكثر من ألفي عام وبالنهج ذاته. أخذ اليابانيون يضيفون اشارات تحديدية لترشد القارئ الى مدلول الايديوغرام الصيني ومن خلال هذه العلاقة بدأوا باستعمال اللغات الصينية لقيمتها الصوتية، فكتبوا بها مقاطع لغتهم هم. وكان الاقتباس عشوائياً يخضع لميول الكتاب حتى القرن التاسع، إذ هُددت المقاطع وجرى تنظيمها ووضع اشارات مضافة لتحديد الحركات الصوتية أو مضاعفة اللفظ أو مد الصوت. وتحدد عدد المقاطع ب47 مقطعاً في لغة "كاتا كانا". بينما كانت هناك لغة أخرى تدعى "هيراغانا" وهي تشتمل على أكثر من 300 مقطع. * باحث لبناني في التاريخ الحضاري.